حيدر حب الله

تورّم علم أصول الفقه وزوائده، معركة رأي / الشيخ حيدر حب الله

تجري في هذه الفترة معركة رأي في أروقة الحوزة العلميّة (الإيرانيّة) في مدينة قم، حول موضوع (زوائد علم أصول الفقه)، حيث طرح بعض فضلاء الحوزة العلميّة سلسلة من اللقاءات والمناقشات التي تتصل بهذا الموضوع، الأمر الذي أثار ردود أفعال ما تزال تتالى أصداؤها إلى اليوم.             ✍🏼️الشيخ حيدر حب الله  

موقع الاجتهاد: يطلق القائلون بالتضخّم السلبي لعلم أصول الفقه مصطلح: زوائد علم الأصول، وهو ما كان يعبّر عنه العلامة محمد مهدي شمس الدين بظاهرة تورّم علم الأصول، إذ يوحي لك التورّم أنّ البدن ممتلئ وتظنّه سميناً وفي حالة من العافية، لكنّه تعاظمٌ مَرَضِيٌّ وغير صحّي.

ما اُريد أن أعلّق به هنا شيء مختصر؛ لأنّ المجال لا يسع للكلام، وسبق أن تحدثنا في مواضع اُخر عن هذا الأمر في كتابَيّ المتواضعين: (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر، وإضاءات في الفكر والدين والاجتماع):

1 ـ تتكرّر الوقائع كلّ مرّة، لكنّها هذه المرّة تبعث على شيء من الاستغراب، وذلك أنّ بعض المعترضين على طرح فكرة زوائد علم الأصول، يُعتبرون وجوهاً في التجديد الحوزويّ، وممّن تناولوا العديد من الموضوعات الجديدة بروحيّة ممتازة، لكن مع ذلك وجدنا هذا الفريق الذي يُتوقّع منه أن يتناول هذه القضيّة بروح نقاشية هادئة، يشنّ هجوماً عنيفاً، ويتهم القائلين بزوائد علم الأصول بالجهل وعدم الدراية بهذا العلم، إلى سلسلة من التوصيفات المؤسفة التي نكرّرها كلّ مرة في حواراتنا وخلافاتنا.

إنّ موضوع زوائد علم الأصول مطروحٌ منذ أكثر من قرن من الزمان، وتحدّث عنه أو أشار إليه الكثيرون كالإمام الخميني، والعلامة الطباطبائي، والسيد محسن الأمين، والشيخ إبراهيم الجنّاتي، والسيّد محمد حسين فضل الله، والسيد علي الخامنئي، والشيخ محمّد مهدي شمس الدين، والشيخ محمد إسحاق الفياض، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والشيخ محمد جواد مغنيّة، والسيد عبد الأعلى السبزواري، وغيرهم كثير، فلماذا هذه الطريقة في تناول موضوع خلافي لا يُشكّل خطراً لا على الهويّة الإسلاميّة ولا العقديّة ولا المذهبية ولا الوطنيّة ولا غير ذلك؟! إذا كانت عندنا مشكلة تراكميّة مع أصحاب الطرح، فلا يُستحسن بنا أن نظلم الطرح نفسه ونجهضه نتيجة ذلك.

2 ـ لست مصرّاً على توصيف زوائد علم الأصول أو تورّم هذا العلم، ولنفرض أنّ ما يُسمّى بزوائد علم الأصول له ثمرة عمليّة معيّنة في مكانٍ ما، لكن توجد خاصية لعلم الأصول، وهو أنّه علم منهج البحث في الاجتهاد الشرعي، وهذا يعني أنّ قضاياه لو كانت تتصل بحالات مورديّة محدودة ـ أي كانت قليلة الثمرة بالتعبير الشائع ـ لكان يفترض أن تُبحث في طيّ التعرّض لتلك الموارد المحدودة، حفظاً للموضوع وللوقت معاً، فلماذا نضطرّ لاستجلاب موضوعٍ يتمّ توظيفه في مسألتين أو ثلاث مسائل في الفقه، إلى أروقة علمٍ منهجي يفترض أن يدرسه كلّ الطلاب والأساتذة بالتفصيل وبشكل متواصل ومتكرّر؟

أعتقد أنّ هذا المقدار لوحده كافٍ في ضرورة حذف هذه الأبحاث من علم الأصول، وإن لم تُحذف من الدرس الديني عموماً.

مثلاً: لنفرض أنّ الاستصحاب التعليقي أو مسألة المشتقّ أو قضيّة المعنى الحرفي، لها ثمرة في موضعين أو ثلاثة من علم الفقه، هل يجب أن أجعلها قضيّة كلّية عامة يجري تكرار البحث فيها عشرات المرات، أو يفترض أن أتركها لتلك الموارد الجزئيّة؟ فمن يريد أن يبحث تلك الموارد لا بأس عليه أن يتعرّض ـ ولو استطراداً ـ لهذه القاعدة، وأيّ خلل في هذا وفقاً لمنطق الترجيح والأولويّات؟ فمحذور الاستطراد أخفّ من محذور التكرار، بحيث نُلزم جميع الطلاب والأساتذة ببحث موضوع قد لا يدخل في نطاق اهتماماتهم التخصصيّة، وليس كلّ الحوزويّين معنيين بأن يصبحوا مراجع تقليد لكي يُفتوا في كلّ الأمور.

3 ـ دعونا لا نتكلّم فقط عن زوائد علم الأصول، بل نتكلّم عن نواقص هذا العلم، ثم نجري محاسبات في منطق الأولويّات، فأيّهما أولى بالبحث اليوم: الفهم التاريخي لنصوص القرآن والسنّة ـ وهو موضوع مُثار اليوم بقوّة في الساحة الإسلاميّة والحوزويّة معاً ـ أو مسألة المشتقّ؟

فلماذا يتمّ تجاهل بحث واسع ومنهجي مثل تاريخية النصّ وتأثيرات قواعد التاريخية على عشرات بل مئات النتائج الفقهيّة، فيما نشغل أنفسنا بمسألة حقيقة الوضع والواضع في اللغة، ومسألة الوضع العام والموضوع له الخاصّ أو العكس في مباحث الألفاظ؟ لنفرض أنّ هذه المسألة لها ثمرة، لكن أيّهما أولى اليوم بإعطائه المزيد من الوقت: مسألة الوضع أو مسألة تاريخيّة تفسير النصوص؟ وأيّهما أكثر ثمرةً؟ بل أيّهما أولى: نظريّة المصلحة أو نظريّات مثل: المقاصد والعُرف والثابت والمتغيّر وغيرها مما يُطرح اليوم أو قضيّة مثل بحث الشرط المتأخّر؟! لا أعني تبنّي هذه النظريّات، بل أقصد دراستها واتخاذ موقف علمي في حقّها.

إذن، فلست أمام زوائد علم الأصول فقط، بل أنا أمام موازنة في الأولويّات الزمنيّة للدرس الأصولي، ابحثوا في مسألة الوضع للمركّبات، لكن أعطوها ما تستحقّه من الوقت، وأعطوا في مقابلها ما يستحقّه موضوع مثل نقد المناهج الهرمنوطيقيّة المعاصرة التي تنسف الكثير من البنيات التحتيّة لمباحث الألفاظ في علم أصول الفقه.

إنّ هذه الموضوعات لا تبحث مستقلّةً عن الدرس الأصولي العام، بحيث يكتب فيها كاتبٌ هنا أو هناك، بل المرجوّ هو أن نبحثها داخل علم الأصول وفي مختلف أبحاث الخارج، وأن تدخل في المتون والكتب الدراسيّة لمرحلة السطوح العليا أيضاً؛ لكي تنمو ونتخذ منها مواقف ناضجة جداً إن شاء الله تعالى.

ختاماً، نسأل الله تعالى لهذا الحوار القائم اليوم أن يثري ساحتنا الإسلاميّة بالكثير من الأفكار الجديدة، ويفتح عيون طلاب الحوزات العلميّة على أفقٍ أكثر سعة ورحابة، وعلى وعيٍ أكبر بقضايا العصر والفكر والثقافة، وأن لا يُلْحِقَ مثلُ هذا الحوار الضررَ بعلاقاتنا الأخويّة والإيمانيّة فيما بيننا.

وأتمنّى ـ بوصفي طالباً من طلاب العلوم الدينيّة ـ على الإخوة في سلسلة لقاءات زوائد علم الأصول أن يواصلوا طرحهم لهذا الموضوع، ساعين دوماً لتقديم الأفكار بطريقة معمّقة ومتعالية وغير مستفزّة للآخرين، وأعتقد بأنّ أيّ إيحاء بأنّ علم الأصول هو علم سنّي سيكون مستفزّاً في هذه الفترة الطائفيّة الحسّاسة التي نعيشها، كما أنّ وضع هذا الحوار في سياق صراع إخباري ـ أصولي، سيؤدي إلى ضرر واستفزاز أيضاً، من وجهة نظري المتواضعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky