الإمام الصادق

انتساب الشيعة الجعفرية إلى الإمام الصادق “عليه السلام” منذ عهده

الاجتهاد: إن المذهب في عرف أهل الاسلام هو المرجع في أحكام الدين، وهذا لا يقتضي أن يكون الصادق عليه السّلام دون الأئمة الأثنى عشر مذهباً،

لأن الشيعة الإمامية ترى أن كل إمام من أولئك الأئمة من علي أمير المؤمنين إلى الغائب المنتظر يجب الأخذ بقوله والعمل برأيه، لأن علمهم – كما يرون علم واحد موروث من الرسول “صلى الله عليه وآله” لا يختلفون في أخذه ولا يروون عن غيره، وعلمهم سلسلة واحدة يرثه الإبن عن أبيه من دون اجتهاد فيه ولا تحريف في أخذه ونقله.

بيد أن الفرص لم تسنح لواحد منهم في إظهار ما استودعهم الرسول “صلى الله عليه وآله” وإبلاغ ما استحفظهم عليه كما سنحت للصادق جعفر عليه السلام فإن الذي ساعد على بثّه للمعارف ونشره للعلوم الموروثة لهم من سيد الرسل “صلى الله عليه وآله” إجتماع عدة أمور:

١ – إن زمن استقلاله بالإمامة قد طال حتى جاوز الثلاثين عاماً، ولئن كان جده زين العابدين وابنه موسى الكاظم وحفيده علي الهادي “عليهم السلام” قد شاركوه في طول الزمن، وكانت أيام إمامتهم تجاوزت الثلاثين عاماً أيضاً فإنه لم يتفق لهم ما اتفق له مما يأتي.

٢ – إن أيامه كانت أيام علم وفقه وكلام ومناظرة، وحديث ورواية، وبدع وضلالة، وآراء ومذاهب، وهذه فرصة جديرة بأن يبدي العالم فيها علمه، ليقمع بذلك الأضاليل والأباطيل، ويبطل الآراء والأهواء، ويصدع بالحق، وينشر الحقيقة.

٣ – إنه مرت عليه فترة من الرفاهية على بني هاشم لم تمر على غيره من الأئمة، فلم يتفق له على الأكثر ما كان يحول دون آبائه وأبنائه من الجهر بمعارفهم بالتضييق عليهم ومنع الناس عنهم ومنعهم عن الناس من ملوك أيامهم .

ولم يملك من الأئمة زمام الأمر سوى أمير المؤمنين “عليه السلام”، ولكن كانت أيامه على قصرها بين حرب وكفاح وبين مناهضة للبدع والضلالات فحملوه على السير في محجّة لا يجد مناصاً من السلوك فيها، على أنه لم تكن في أيامه ماكان في عهد الصادق من انتشار العلم بين طبقات الناس وظهور الأهواء والآراء والنحل والمذاهب.

أما الصادق “عليه السلام” فقد عاصر الدولتين المروانية والعباسية ووجد فترة لا يخشى فيها سطوة ظالم ولا وعيد جبار، وتلك الفترة امتزجت من أخريات دولة بني مروان واوليات دولة بني العباس، لأن الأمويين وأهل الشام لما أجهزوا على الوليد بن يزيد وقتلوه انتقضت عليهم أطراف البلاد وتضعضعت أركان سلطانهم، وكانت الدعوة لبني هاشم قد انتشرت في جهات البلاد فكانت تلك الأمور كلها صوارف لبني مروان عمّا عليه الصادق عليه السلام من الحياة العلمية،

ولما انكفأ بهم الزمن وسالم بني العباس اشتغل بنو العباس بتطهير الأرض من أمية وبتأسيس الدولة الجديدة، وأنت تعلم بما يحتاجه الملك الغضّ من الزمن لتأسيسه ورسوخه، فكان انصرافهم لبناء المُلك وإحاطته شاغلاً لهم برهة من الزمن عن شأن الصادق في بثّه العلوم والمعارف وإن لم يتناسه السفاح ولكن لم يجد عنده ما يخشاه، ولما جاء دور المنصور وصفى المُلك له ناصب العداء للصادق فكان يضيق عليه مرة ويتغاضى عنه أخرى.

روی العلامة ابن شهر آشوب (١) في كتابه المناقب في أحوال الصادق عن المفضّل بن عمر: «أن المنصور قد همّ بقتل أبي عبدالله “عليه السلام” غير مرة، فكان اذا بعث إليه ودعاه ليقتله فاذا نظر إليه هابه ولم يقتله، غير أنه منع الناس عنه ومنعه عن القعود للناس واستقصى عليه أشد الاستقصاء حتى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح أو طلاق أو غير ذلك ، فلا يكون علم عندهم ولا يصلون اليه فيعتزل الرجل أهله، فشق ذلك على شيعته وصعب عليهم، وحتى ألقى الله عزّ وجل في روع المنصور أن يسأل الصادق “عليه السلام” ليتحفه بشي من عنده لا يكون لأحد مثله، فبعث اليه بمحضرة (٢) كانت للنبي “صلى الله عليه وآله” طولها ذراع، ففرح بها فرحاً شديداً وأمر أن تشق أربعة أرباع، وقسمها في أربعة مواضع، ثم قال له: ما جزاؤك عندي إلا أن اطلق لك وتفشي علمك لشيعتك، ولا أتعرض لك ولا لهم فاقعد غير محتشم (٣) وأفت الناس ولا تكن في بلد أنافيه، ففشى العلم عن الصادق، وأجاز في المنتهى».

فلهذا وغيره قد فشى عن الصادق “عليه السّلام” من العلوم مالم تسمح الظروف به لسواه من الأئمة، وهذه كتب الحديث والفقة والأخلاق والاحتجاج وغيرها من كتب المعارف والعلوم ترشدك إلى ما كان منه، وكفت كثرة رواته والرواية عنه، ولقد كتب عن رواته جملة من المؤلفين وذكروا أن عددهم أربعة آلاف أو يزيدون، ومن المؤلّفين ابن عقدة، فإذا كانت الرواة عنه أربعة آلاف فكم كانت الرواية؟ وإذا كان راو واحد يروي عنه ثلاثين ألف حديث فكم تكون رواية الباقين؟ وكم هي العلوم والمعارف التي أسندت إليه؟

وجملة القول أن الصادق “عليه السّلام” إنما عرف بأنه مذهب تنتسب إليه الامامية والجعفرية، لما انتشر عنه من العلم وحفظ منه من الحديث حتى أن اكثر ما في كتب الحديث الشيعية مروي عنه.

وما كانت الرواية عنه مقصورة على الشيعة بل أخذ عنه اكابر معاصريه من أهل السنة، ومنهم مالك وأبوحنيفة والسفيانيان وأيوب وابن جريح وشعبة وغيرهم، بل أرجع ابن أبي الحديد فقه المذاهب الأربعة اليه، كما في شرح النهج: (٦/١).

وكان انتساب الشيعة إليه من عهده وهو القائل في وصاياه لأصحابه: فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن الناس قيل: هذا جعفري ويسرني ذلك ، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره وقيل : هذا أدب جعفر”. (٥)

وكانت هذه النسبة معروفة في ذلك العهد حتى أن شريكاً القاضي شهد عنده شيعيّان وهما محمد بن مسلم الثقة الشهير المعروف بصحبته للصادق وأبو كريبة الأزدي، فنظر شريك في وجهيهما ملياً ثم قال: جعفريان فاطميان(٦). فنعرف من هذا أن النسبة كانت من أيامه واستمرت الى هذا اليوم.

الهوامش
(1) أشرنا إلى شيء من حاله في تعليقة ص ٠٧٨
(۲) بالكسر والسكون فالفتح ما يتوكأ عليه كالعصا ونحوها وما يأخذه الملك بيده يشير به إذا خاطب.
(۳) على زنة اسم الفاعل، أي غير هائب ومنقبض.
(٤) هو أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي، وكان زيديّاً جارودياً، وشأنه في الجلالة والوثاقة وكثرة الحفظ معروف مشهور، وقد حكي عنه أنه قال: أحفظ مائة وعشرين ألف حديث بأسانيدها وأذاكر بثلمائة ألف حديث، وله كتب كثيرة منها كتاب أسماء الرجال الذين رووا عن الصادق “عليه السلام” وهم أربعة آلاف رجل، وأخرج فيه لكل رجل الحديث الذي رواه، ولم يُعرف اليوم – كتابه في الوجود، مات بالكوفة عام ٢٣٣.
(٥) الكافي : ٠٥/٦٣٦/٢
(٦) بحار الانوار، ١١٥/٣٩٣/٤٧.

المصدر: الصفحة ١٨٦ من كتاب الإمام جعفر الصادق “عليه السلام”، المجلد الأول، تأليف العلامة الجليل الشيخ محمد حسين المظفر (ره).

 

تحميل الكتاب

الإمام_الصادق_ع_ج1_ج2_الشيخ_محمد_الحسين_المظفّر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky