الهرمنوطيقا وتغيُّر الحكم الشرعي بتغيُّر الزمان والمكان

الهرمنوطيقا وتغيُّر الحكم الشرعي بتغيُّر الزمان والمكان

الاجتهاد: ظهرت في الآونة الأخيرة حركة فكرية قادها بعض المفكِّرين والمثقفين المسلمين ـ اقتباساً من مفكِّري المسيحية ـ، وطرحوا ما يسمى بنظرية «الهرمنوطيقا» أو «منطق فهم وتأويل الدين». هذه الحركة شكَّلت خطورة على الدين الإسلامي؛ لذلك أخذت تطرح في الحوزات العلمية، لكنْ بشكلٍ خجول جداً. لكن المشكلة التي حصلت هو أنه حصل خلطٌ بين النظريتين، حتّى من قِبَل بعض الحوزويين. ونحن هنا لا نريد أن نردّ أيّاً من النظريتين، أو نشكل عليها، أو حتى أن ندافع عنها، وإنما نريد أن نبيِّن معالم وأسس وخصائص كلٍّ منهما؛ ليتضح الفرق بينهما. وعلى الله الاتّكال.   د. السيد يوسف العلوي(*) أ. حسين اليوسف(**)

 الهرمنوطيقا لغةً: هذه الكلمة يونانية الأصل «Hermeneuin»، وتعني التفسير والتأويل. وترجع جذور هذه الكلمة إلى كلمة «Hermes»، وهو اسم إله عند اليونانيين، حيث يعتقد اليونانيون أن الإله هرمس يقوم بإيصال الرسائل والبلاغات المرسلة من قبل الآلهة الأخرى إلى الناس، ويقوم بتفسيرها وشرحها لهم. وبعبارة أخرى: كان يفسِّر ويؤوّل كلام الآلهة؛ لكونه آتياً مما وراء قدرتهم على الفهم، بحيث يسهل عليهم فهمه بعد ذلك([1]).

ثانياً: الهرمنوطيقا اصطلاحاً

الهرمنوطيقا في الاصطلاح ـ وباختصارٍ ـ هي عبارة عن علم وفنّ تفسير وتأويل النصوص([2]). من هنا نجد أن هناك علاقة وثيقة وقويّة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للهرمنوطيقا.

هرمنوطيقا كلاسيكية

وهي هرمنوطيقا تتمحور حول مراد المؤلِّف. وهي عبارة عن العلم الهادف إلى الكشف عن قواعد وأصول تفسير وتأويل النصوص. ويسعى من خلالها المفسِّر إلى الكشف عن قواعد الفهم الصحيح للنصوص، ورفع الإبهام عنها، لكن من منظور المؤلف، نظير: هرمنوطيقا دان هاور، وشلاير ماخر([6]).

أهداف الهرمنوطيقا في الشرق الإسلامي

للهرمنوطيقيين الشرقيين المسلمين أيضاً أهداف. وهذه الأهداف على نحوين أيضاً: مباشرة وقريبة ومعلنة؛ وغير مباشرة وبعيدة وغير معلنة.

أـ الأهداف القريبة والمباشرة

1ـ الدعوة إلى الاجتهاد والتجديد، والإلحاح على ذلك.

2ـ الاهتمام بالأسس الإسلامية، وأن أساس الإسلام ورسالته المهمّة في إصلاح النفوس وتزكيتها وتهذيب الأخلاق، وأن هذه الأسس هي أهمّ من الشريعة وإقامة الحدود والجهاد.

3ـ تغيير الفتوى بما يتناسب مع الحاجات البشرية، ومواكبتها للتطوُّر، أي تغيير الفتوى بغير الزمان والمكان.

4ـ دعوى الحرص على الوحدة وعدم التفرُّق([15]) .

ب ـ الأهداف البعيدة وغير المباشرة

1ـ أنسنة كلّ ما له علاقة بما وراء الطبيعة، كأنسنة الإله. يقول الدكتور حسن حنفي: «إن الله لفظةٌ نعبِّر بها عن صرخات الألم، وصيحات الفرج، أي إنه تعبير أدبي أكثر منه وصفاً لواقع، وتعبير إنشائي أكثر منه وصفاً خبرياً… إنه لا يعبِّر عن معنى معين»([16]).

ويقول في مكانٍ آخر: «والله باعتباره الوجود الواحد، أو المجرد الصوري، أو العلة الغائية، كلّ هذه التصورات هي في حقيقة الأمر مقولات إنسانية تعبِّر عن أقصى خصائص الإنسان… والإلهيات في الحقيقة، وإنْ بدَتْ نظرية في الله ذاتاً وصفات وأفعالاً، هي وصفٌ للإنسان الكامل ذاتاً وصفات وأفعالاً»([17]).

ويقول في مكانٍ آخر أيضاً: «…فالإنسان يخلق جزءاً من ذاته ويؤلِّهه، أي يخلق المؤلَّه على صورته ومثاله… فالذات الإلهية هي الذات الإنسانية في أكمل صورها… وأيُّ دليل يكشف عن إثبات وجود الله إنما يكشف عن وجود وعيٍ مزيف… ولذلك فإن التفكير في الله هو اغتراب، بمعنى أن الموقف الطبيعي للإنسان هو التفكير في المجتمع. وكلُّ حديث آخر في موضوع يتجاوز المجتمع والعالم يكون تعميةً، تدلّ على نقص في الوعي بالواقع»([18]).

وبعد أنسنة الإله أنسنة الصفات الإلهية. يقول الدكتور حسن حنفي: «فالصفات السبع هي في حقيقة الأمر صفات إنسانية خالصة. فالإنسان هو العالم، والقادر، والحي، والسميع، والبصير، والمريد، والمتكلم…» ([19]).

وأنسنة النبوّة والوحي. يقول حنفي أيضاً: «والنبوة ليست غيبية، بل حسّية، تؤكد على رعاية مصالح العباد. والغيبيّات اغترابٌ عنها. والمعارف النبوية دنيوية حسّية»([20]).

2ـ نزع القداسة عن النصّ القرآني عن طريق الدعوة إلى النقد الحُرّ. يقول محمد أركون: «نحن نريد القرآن المتوسّل إليه من كلّ جهة، والمقروء والمشروح…، أن يصبح موضوعاً للتساؤلات النقدية المتعلّقة بمكانته اللغوية، التاريخية، والأنتروبولوجية والثيولوجية والفلسفية»([21]). ويقول الدكتور نصر حامد أبو زيد: «إن النصّ القرآني وإن كان نصّاً مقدَّساً، إلاّ أنه لا يخرج عن كونه نصّاً، فلذلك يجب أن يخضع لقواعد النقد الأدبي، كغيره من النصوص الأدبية»([22]).

3ـ هدم مبدأ المرجعية لنصوص القرآن والسنّة. يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد: «آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرُّر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا. علينا أن نقوم بها الآن وفوراً»([23]). ويقول في مكانٍ آخر: «إذا كان مبدأ تحكيم النصوص يؤدّي إلى القضاء على استقلال العقل، وتحويله إلى تابع يقتات بالنصوص، ويلوذ بها ويحتمي، فإنّ هذا ما حدث في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية»([24]).

4ـ إبطال مرجعية العلماء وكتبهم. يقول الدكتور شحرور: «…فماذا قدَّم السادة العلماء للناس؟ لقد تصدَّر العلماء المجالس والإذاعة والتلفزيون على أنهم علماء المسلمين، وجلّهم ناقلٌ، وليس بمجتهدٍ»([25]). ويقول الدكتور محمد أركون: «أما الفكر العربي والإسلامي فلم يشارك أيّ جزء من هذا المسار الفكري… لقد انكفأ على ذاته داخل منهجية سكولاستيكية، اتّباعية، اجترارية»([26]).

5ـ التحلُّل من عُرى الدين، ونشر الإباحية، وصبغ المجتمع بالصبغة الغربيّة. وصلت المسألة بالهرمنوطيقيين إلى إنكار بعض الأحكام الشرعية الضرورية، وخصوصاً المحرَّم منها، نظير:

أـ إنكار حرمة الخمر. وممَّنْ ادّعى ذلك المستشار محمد سعيد عشماوي([27])، والدكتور محمد شحرور([28])، والدكتور نصر حامد أبو زيد([29])، حيث ادّعى هؤلاء أن الخمر لم يحرَّم، وإنّما أُمرنا باجتنابه فقط.

ب ـ عدم حرمة اللواط. وممَّنْ ادّعى ذلك العشماوي([30])، وشحرور([31]).

ج ـ عدم وجوب الحجاب، وأنّه تشريعٌ مؤقَّت. وممَّنْ ادّعى ذلك العشماوي([32])، وأحمد عبد المعطي حجازي([33])، وغيرهما.

إلى غير ذلك من الدعوة إلى الاختلاط، وتحرُّر المرأة، والمساواة الكاملة بينها وبين الرجل، وإطلاق العنان للشهوات. وكله بدعوى التجديد والتغيير المتلائم مع الزمان والمكان. يقول الدكتور شحرور: «لا ضرورة للتقيُّد بالنصوص الشرعية التي أُوحيت إلى محمد رسول الله في كلّ ما يتعلَّق بالمتاع والشهوات. ففي كلّ مرة نرى في هذه النصوص تشريعاً لا يتناسب مع الواقع، ويعرقل مسيرة النموّ والتقدُّم والرفاهية، فما علينا إلاّ أن نميل عنه»([34]).

إلى هنا تمّ كلامنا بعون الله عن الهرمنوطيقا، وأهدافها، والمقصود من التجديد والتغيير المزعوم عند أتباع هذا الفكر، وباختصارٍ شديد.

 تغيُّر الحكم الشرعي بتغيُّر الزمان والمكان

نظرية تغيُّر الحكم الشرعي بتغيُّر الزمان والمكان، أو نظرية تأثير الزمان والمكان في عملية استنباط الحكم الشرعي، نظريّة تعتبر مُستَحْدَثة في الفقه الإسلامي، وإنْ كان يمكن استخراج ما يدلّ على هذه النظرية من كلمات بعض الفقهاء القدماء الكبار ـ كما سوف نأتي على ذكر بعض كلماتهم ـ. لكنّها لم تتجلَّ كنظرية تبحث في الحوزة العلمية، إلاّ في العصور الأخيرة، وخصوصاً في زمن الشهيد الصدر&، والإمام الخميني&. وهذه النظرية على الرغم من أهمّيتها، إلاّ أنها إلى الآن لم تبحث بالقدر الكافي في الحوزات العلمية. وعلى أيّ حال لشبه هذه النظرية بالهرمنوطيقا توهَّم البعض أنها لا تختلف عنها. ومن هنا كان من المناسب أن نبيِّن هذه النظرية؛ حتّى يتمّ التفريق بين هذين الاتجاهين الفكريين. لذا لا بُدَّ أن نبين أولاً ما هو المقصود بالزمان والمكان:

تعريف الزمان والمكان إجمالاً
أوّلاً: الزمان والمكان لغةً

الزمان لغةً: هو اسمٌ لقليل الوقت وكثيره([35]). وقيل: هو مدّة قابلة للقسمة، ولهذا يطلق على الوقت القليل والكثير([36]).

المكان لغةً: اشتقاقه من كان يكون. والجذر الكاف والواو والنون «الكون» أصلٌ يدل على الإخبار عن حدوث شيءٍ، إما في زمان ماض أو زمان راهن([37])، فلما كثرت صارت الميم كأنّها أصلية، فجمع على أمكنة([38]).

ثانياً: الزمان والمكان اصطلاحاً

للزمان والمكان في الاصطلاح معنيان: فلسفي؛ ونسبي. وليس مقصود الفقهاء من الزمان والمكان في نظريتهم المعنى الفلسفي، وإنما مقصودهم المعنى النسبي، الذي يعني الظروف، والخصوصيات، والشروط، والعلاقات الجديدة الحاكمة على الأفراد والمجتمع. وبعبارةٍ أخرى: إن لتغيُّر الظروف والشرائط المحيطة بتغيُّر الزمان والمكان تأثيراً على الواقع في الزمان والمكان «الزمانيات والمكانيات»، الذي من شأنه أن يخلق مناسبات جديدة في علاقات الأفراد([39])، وبالتالي اختلافهم في الفهم للحكم الشرعي بالاستناد إلى المباني الفقهية. وممّا تقدَّم نجد أن إطلاق الزمان والمكان في هذه النظرية من باب المجاز. وعنوان الزمان والمكان في نفسه ليس مراداً، وليس له دور في التغيير إلاّ بالواسطة. وما له دورٌ هو عبارة عن أمرين أساسيين:

الأول: تغيير الشرائط، وطروّ خصوصيات جديدة تستدعي عناوين جديدة، وطبعاً يتبعها أحكامٌ جديدة.

الثاني: إنه قد يحدث للفقيه ـ بسبب مرور الزمان، وسعة العلوم البشرية، والارتباط الثقافي مع العالم ـ فهمٌ جديد للأدلة والمصادر الفقهية، يقوم على أساس نفس المباني الاجتهادية.

وقد تحصَّل إلى هنا أن هذه النظرية تعني أن الحكم الشرعي يتغيَّر بتغيُّر الظروف والشروط المحيطة. وهذا الكلام لا يختلف بحسب الظاهر عن القول بتغيُّر الأحكام الذي يقول به الهرمنوطيقيين، ولا يختلف عن القول بالتاريخية والانقضاء؛ لأنه نتيجة التغيُّر، ولا يختلف عن القول بالقراءات المتعدِّدة، ولا يختلف عن القول بالنسبية. إذن يشكل على أصحاب هذه النظرية بذلك، ويشكَل عليهم بأن كلامكم خلاف ما هو مسلَّمٌ، من أن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة. وسوف يتَّضح الجواب عن ذلك قريباً. لكنْ نذكر أولاً ما هو المراد بالتغيُّر؛ وثانياً بعض الأدلة التي ذكرت على ذلك.

خاتمة

تحصَّل إلى هنا أن ما يقول به بعض الفقهاء من تغيُّر الحكم الشرعي بتغيُّر الزمان والمكان يختلف جدّاً عمّا يقول به أصحاب نظريّة القراءات المتعدِّدة أو الهرمنوطيقا؛ حيث إن المجتهد في نظريته يحاول أن يخضع الظروف والمتغيِّرات والمستحدثات للحكم الشرعي، وأسلمتها، وتقنينها بما يتناسب مع الزمان والمكان، وبإرجاعها إلى الأصول والقواعد والمصادر الأساسية التي ذكرناها، أو على الأقلّ أن لا يكون الحكم مخالفاً لها، مراعياً في ذلك ما ذكرناه من الأصلين. فيقوم المجتهد بتشخيص الاختلافات؛ باعتبار الخصوصيات والأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص، وتطبيقها على الجزئيّات المأخوذة من الشرع الشريف.

أما الهرمنوطيقا أو القراءات المتعدِّدة فإن القارئ والمفسِّر يحاول إخضاع النصّ الديني للظروف والأحوال، وتقنينه بحسب ما يقتضيه الزمان والمكان من الحداثة والتمدُّن. فقد تأتي مرحلةٌ من التطوُّر لا تتناسب فيه الصلاة مع هذا النوع من التطوُّر، أو لا يتناسب فيه الحجاب معه ـ كما أن الكثير من الأبواق تنادي بذلك اليوم ـ، وقد تصل المسألة إلى درجةٍ يشعر فيها الإنسان بالحَرَج من الصلاة أو الحجاب، مع أنه في دولةٍ مسلمة، وقد ينادي البعض بحرمة واجب، ووجوب محرَّم أو جوازه، لكنْ ـ كما قلنا ـ لانتشار أهداف العولمة والهرمنوطيقا، والتي منها ـ كما ذكرنا ـ التركيز على الأخلاق، وأن الدين تاريخيٌّ لتاريخية الإنسان، فليس مهمّاً بعد ذلك أن تبقى هناك ثوابت أو لا.

في الختام يمكن القول: إن نظرية تأثُّر الحكم الشرعي بالزمان والمكان أقرب ما تكون إلى الهرمنوطيقا الكلاسيكية؛ وذلك لأن الكلاسيكية تحافظ على نصٍّ ثابت، وفهم ثابت، وتدعي إمكانية فهم وتفسير مراد المؤلِّف والمتكلِّم، لكنْ مع فارقٍ، وهو أن الحكم الشرعي الناتج من الاستنباط المتأثِّر بالزمان والمكان لا ينتجه إلاّ ذوو الخبرة والاختصاص من العلماء، كما مرّ.

وهي أبعد ما تكون عن الهرمنوطيقا الفلسفية؛ وذلك لأن الفلسفية لا تبقي على معنى للنصّ الديني، ولا تذر ولا تبقي للدين قائمةً. وفي نظرنا أن هذه النظرية الفقهية هي نوعٌ من الهرمنوطيقا، بل إن مطلق الاجتهاد نوع من الهرمنوطيقا؛ لأنّ الاجتهاد هو فنّ قراءة وتفسير النصّ الديني، وفهم مراد الشارع؛ إذ ينطبق عليه تعريف الهرمنوطيقا اللغوي، وبالتالي يمكن أن نعتبره نوعاً ثالثاً من فنّ قراءة النصّ المعتمد على قواعد وضوابط ثابتة لا تتغيَّر، مع مراعاة الأحوال والظروف المحيطة بزمن المجتهد.

(*) أستاذٌ في جامعة قم.

(**) طالبٌ في مرحلة الدكتوراه في جامعة قم. من سوريا.

 

المصدر: نصوص معاصرة

لقراءة المقالة كاملة أضغط 

w

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky