الاجتهاد: وقع النزاع بين الاصوليين والإخباريين (رحمهم الله) في شأن الدليل العقلي، فذهب الاصوليون إلى حجيَّة الدليل العقلي القطعي وصلاحيّته للدليليّة على الحكم الشرعي، وأمّا الإخباريون فقد اختُلف في مركز نزاعهم مع الاُصوليين، وهل انَّ اختلافهم مع الاصوليين كبروي أو صغروي.
ذهب الشيخ صاحب الكفاية (رحمه الله)الى انَّ النزاع مع الإخباريين صغروي، بمعنى انَّهم لا ينكرون حجيّة الدليل العقلي لو كانت نتيجته قطعيّة إلاّ انَّهم يدعون عدم امكانية حصول القطع بالنتائج العقليّة، فالعقل قاصر دائماً عن إدراك الحكم الشرعي.
وأمّا السيّد الخوئي (رحمه الله) وجمع كبير من الأعلام فقد ذهبوا إلى انَّ مركز النزاع بين الاُصوليين والإخباريين كبروي، بمعنى انَّ الدليل العقلي ساقط عن الحجيَّة انتج القطع أو لم يُنتجه، ولهذا قالوا بعدم حجيّة القطع الناشئ عن مقدمات عقليّة.
وكيف كان فلابدَّ من بيان المراد من الدليل العقلي الذي يرى الاصوليون صلاحيته لإثبات أو نفي الحكم الشرعي فنقول:
انَّ كلّ قضيّة يكون الواسطة في إثبات محمولها لموضوعها هو المُدرك العقلي بحيث تتأهل تلك القضيّة بعد ذلك لأن تكون لها صلاحية الكشف عن حكم شرعي أو نفي حكم شرعي فهذه القضيّة يُعبَّر عنها بالدليل العقلي في اصطلاح الاُصوليين.
مثلا: (الظلم قبيح) قضيّة ثبت فيها حكم لموضوع وذلك بواسطة إدراك العقل، فهي إذن قضيّة عقليّة، والتعبير عنها بالدليل باعتبارها صالحة للكشف عن حكم شرعي أو المساهمة في الكشف عنه، فدليليّة هذه القضيّة باعتبار توسطها في اثبات حكم شرعي أو نفي حكم شرعي.
ثم انَّ هنا أموراً أربعة يتحدد بها المراد من الدليل العقلي:
الأمر الأوّل: انَّ المراد من المدركات العقليّة التي يرى الاصوليون انَّ لها الدليليّة على الحكم الشرعي هي خصوص المدركات العقليّة القطعيّة، وأمّا الظنيّة فهي خارجة عن مقصود الاُصوليين أعني الاماميّة منهم.
وبهذا يتّضح انَّ النزاع الواقع بين الاصوليين والاخباريين انّما هو في المدركات العقليّة القطعيّة، وهو غير النزاع الواقع بين الإماميّة وبين أهل السنّة حيث ذهب كثير من أهل السنّة إلى حجيّة الظنون العقليّة، وهو ما يمنعه جميع الاماميّة دون استثناء، وما وقع من بعض الإخباريين من نسبة القول بحجيَّة الظنون العقليّة إلى الاصوليين فهو ناشئ عن الغفلة عما هو مبنى الاصوليين في الدليل العقلي أو ناشئ عمّا وقع في بعض كلمات الاُصوليين في مقام معالجة بعض المسائل الشرعيّة الفرعيّة، إذ انَّ بعض كلماتهم قد توهّم تبنِّي الظنون العقليّة إلاّ انَّ ذلك ناشئ عن الإشتباه في تطبيق كبرى حجيَّة الدليل العقلي القطعي على صغرياته، وليس ذلك بعزيز فقد يقع الإشتباه في تطبيق كبرى حجيّة الظهور مثلا إلاّ انَّ ذلك لا يعني تبنِّي القول بحجيَّة المجمل.
وقد يكون منشأ هذه النسبة من بعض الإخباريين هو ما يراه بعضهم من تعذُّر القطع بنتائج المدركات العقليّة وانَّ أقصى ما يُنتجه الدليل العقلي هو الظن بالحكم الشرعي إلاّ انَّ ذلك بحث صغروي قد يتبنّاه بعض الاصوليّين أيضاً.
الأمر الثاني: انَّ المدركات العقليّة التي لها الدليليّة على الحكم الشرعي هي الأعم من المدركات العقليّة العمليّة والمدركات العقليّة النظريّة، فكلُّ مُدرك عقلي صالح لأن يُتستنبط منه حكم شرعي فهو مشمول للدليل العقلي الذي يقول الاصوليين بحجيّته.
مثلا: الإستلزامات العقليّة تدرك بواسطة العقل النظري فهي داخلة بلا ريب في المقصود من الدليل العقلي، وهكذا الكلام في المستقلات العقليّة المدركة بواسطة العقل العملي.
وقد شرحنا المراد من الإستلزامات والمستقلاّت وكذلك العقل العملي والنظري كلّ واحد تحت عنوانه.
الأمر الثالث: انَّ المدركات العقليّة التي هي محلّ البحث في علم الاصول هي التي يمكن ان يُستفاد منها استكشاف حكم شرعي أو نفي حكم شرعي، فهي إذن خصوص المدركات الواقعة في رتبة الكتاب والسنة الشريفين والتي لها نفس الدور الثابت لهما، أي دور الدليليّة والكاشفيّة عن الأحكام الشرعيّة.
وبذلك يتّضح خروج نحوين من المدركات العقليّة عن البحث الاصولي.
النحو الاول: وهي المدركات العقليّة التي تثبت بها حجيّة الكتاب والسنّة الشريفين، فهي إذن ليست في رتبة الكتاب والسنّة بل هي الموجبة لحجيّتهما، وذلك لأنَّ ثبوت الحجيّة لهما لا يمكن أن يتمّ بواسطة نفس الكتاب والسنّة وإلاّ لزم الدور المستحيل، كما انَّ الاعتقاد بصدق الكتاب والسنّة من الاصول الاعتقاديّة والتي لا يكتفى فيها بالظن فلا سبيل لثبوت الحجيّة لهما إلاّ الأدلّة العقليّة القطعيّة، وهذه الأدلّه ليست محلا للبحث الاصولي كما انَّها لم تقع محلا للنزاع.
النحو الثاني: وهي المدركات العقليّة الواقعة في رتبة معلولات الأحكام الشرعيّة، أي انَّها متأخّرة عن الحكم الشرعي ويكون الحكم الشرعي بمثابة العلّة لوجودها، فلولا تقرّر الحكم الشرعي في رتبة سابقة لما كان لذلك الإدراك وجود.
ومثال هذا النحو من المدركات العقليّة هو ما يُدركه العقل من حسن الطاعة وقبح المعصية، فإنَّ هذا الإدراك مترتّب على وجود أوامر للمولى، فالعقل لا يحكم بحسن الطاعة وقبح المعصية لو لم تكن أوامر للمولى جلَّ وعلا، فلو قطع المكلّف بعدم وجود تكليف إلزامي تجاه فعل معيّن فإنَّ العقل لا يُدرك حينئذ حسن الطاعة وقبح المعصية تجاه هذا الفعل، ولمزيد من التوضيح راجع (الأمر الإرشادي).
وبذلك يتّضح انَّ المدركات العقليّة الواقعة محلا للبحث الاُصولي هي خصوص المدركات الواقعة في رتبة الكتاب والسنّة والتي يمكن ان يُستنبط منها حكم شرعي أي انّها واقعة في رتبة علل الاحكام الشرعيّة.
الأمر الرابع: انَّ المقصود من الدليل العقلي هو الأعم من الصغرى والكبرى الواقعتين في القياس المنتج لدليليّة الدليل العقلي.
فدليليّة الصغرى باعتبار وقوعها صغرى في قياس نتيجته دليلية الدليل العقلي، وهكذا الكلام في الكبرى، فكلّ منهما يُساهم في نتيجة القياس والتي هي دليليّة الدليل العقلي أي حجيَّة المدرك العقلي المعيّن.
وبتعبير آخر: انَّ البحث الاصولي عن الدليل العقلي يقع في مقامين:
الاول: صغروي وهو البحث عن اثبات القضايا العقليّة أو قل المدركات العقليّة مثل حسن العدل وقبح الظلم وانَّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه وهكذا، فهل انَّ العقل يُدرك هذه القضايا حقاً وهل انَّ ادراكه لها – لو كان – قطعي ؟
الثاني: كبروي وهو البحث عن حجيَّة المدركات العقليّة، بمعنى انَّ القضايا التي ثبت في البحث الصغروي انّها مدركات عقليّة هل لها الدليليّة على الحكم الشرعي وهل هي صالحة للتنجيز والتعذير أو لا؟
إذ من الواضح انَّ إدراك العقل لقضيّة من القضايا لا ينهي البحث ولا يُثبت الدليليّة لما أدركه العقل إلاّ أن يقوم الدليل على حجيَّة هذه المدركات، وهذا ما يتصدى له البحث الكبروي، فلو تمّ في البحث الاصولي حجيَّة كلّ ما يُدركه العقل فحينئذ تثبت دليلية الدليل العقلي، أي تثبت الحجيّة للقضيّة المدركة بواسطة العقل في البحث الصغروي.
المصدر: معجم أون لاين للفقه والأصول في موقع الاجتهاد