المشي

المشي في الزيارة والشعائر .. لمحة تأريخية / الدكتور صادق المخزومي

الاجتهاد: يكاد المشي في المجال الديني يمثل الخطوات الأولى التي سعى بها الإنسان إلى المعبد، وإن تكرارها شكّلها بصبغة المقدس، ولعل أول بيت للعبادة كان البيت الحرام، فقد تذاكرت الروايات أن آدم (ع) حجّ إليه أربعين حجّة على رجليه (1). ثمة خبر: “أن إبراهيم وإسماعيل (ع) حجّا ماشيين”، وعليها قال مجاهد: “كانوا يحجّون ولا يركبون (2)، فأنزل الله – تعالى: ( يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } (الحج 27).

يبدو أن المشي دخل ضمن الشعائر في الحج، منذ عصر خليل الله إبراهيم ورحلته إلى مكة، رحلة الألف ميل التي انتهت بخطوة عند البيت الحرام، حيث ترك زوجه وولده فيها، ودعا لهم: (رَّبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ) وجعلت هاجر ووليدها إسماعيل – بعدئذ نقد ما لديها من ماء- تواجه عطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوی،

فانطلقت تسعى على قدم تبحث عن ماء إلى الصفا، أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات، وإليه تشير رواية ابن عباس عن النبي (ص): “فَذَلِكَ سعْيُ النَّاسِ بيْنَهُما”(3)، أي اتُّخذ هذا السعي من المشاعر المقدسة في الجاهلية والاسلام.

لعل هذا السعي الذي كان سببًا في تدفق الماء بصورة إعجازية، كان مدعاة لاحتفال الجاهليين تعبيرا عن فرحهم الديني، ولا يستبعد بعض الباحثين(4) أن السعي بين الصفا والمروة كان رقصا في الأصل، فكان الساعون يرقصون، ويغنون أغاني دينية، في تمجيد رب البيت، والتقرب إليه، كما كانوا يرقصون في المعابد الأخرى.

ويظهر أن الصفا والمروة من المواضع التي كان لها أثر خطير في عبادة أهل مكة، في حج أهل مكة طوافان: طواف بالبيت، وطواف بالصفا والمروة؛ حيث وضعوا أصنامهم، فكان إساف بالصفا، وأما نائلة فكان بالمروة(5).

أما في الإسلام فعُدّ السعي بينهما مشعرا، فأنزل الله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (البقرة 158). فالسعي ها هنا – وهو مشهور في اللغة: المشي على الأقدام بسرعة، والاشتداد فيه، وهو المشي الحثيث، ومنه السعي بين الصفا والمروة (6).

ارتبط المشي بالمقدس عندما اتخذت الهجرة إلى الله حيّزا من حياة الأنبياء الفكريّة والعمليّة، منذ هجرة إبراهيم من بابل، وهجرة موسى إلى الله، وهجرة المسيح يسوع، وهو يريد شعبه على المشي المقدس، والمشي في البر والحب، وقد جعلت تلك التجربة دانيال تاب من أي ذنب، أنه كان على علم بأن التغيير في مشيته مع الله(7).

وفي الإسلام عدّ المشي توصيفاً للمؤمنين و “وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً} (الفرقان 63).

فرست ثقافة المشي المقدس في الهجرتين: هجرة جعفر ابن أبي طالب والصحابة إلى الحبشة، وهجرة الرسول محمد إلى يثرب، وكانت فاطمة بنت أسد أول امرأة بايعت النبي (ص)، وهاجرت إلى المدينة مع علي وفاطمة مشيا على الأقدام(8).

عُني الرسول محمد “صلى الله عليه وآله” – في مجال التشريع – بالمشي في لقاء مع ربه، ففي سؤال له: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: في الكفارات(9)، قال: وما الكفارات؟ قلت: المشي على الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المسجد خلاف الصلوات، وإبلاغ الوضوء في المكاره؛ قال: من فعل ذلك عاش بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه(10).

واختلف العلماء في السعي إلى الصلاة لمن يسمع الإقامة، فروي أنَّ عبد الله بن عمر “سمع الإقامة، وهو بالبقيع، فأسرع المشي إلى المسجد”(11).

وكان قد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: “من اغبَرّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار”(12)، شرحه المناوي: أي أصابهما غبار، أو صارتا ذا غبار، والمراد: المشي في سبيل الله: أي في طريق يطلب فيها رضا الله، فشمل: طريق الجهاد، وطلب العلم، وحضور الجماعة، والحج، وغير ذلك(13)،

لا ريب أن فيه تنبيها على فضيلة المشي على الأقدام للطاعات، وأنه من الأعمال الرابحة التي يستوجب العبد بها معالي الدرجات والفردوس الأعلى.

وتشكّل النية في سبيل الله منحى فضيلا في المشي، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “لغدوة في سبيل الله أو روحةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها” (14).

كان النبي (صلى الله عليه وآله) مثالا يحتذى في استيعاب المشي كفضيلة للأعمال في سبيل الله، فبإزاء توليه قيادة المقاتلين بنفسه، قطع النبي المسافة بين المدينة و”أحد” مشيا على الأقدام، وكان يستعرض جيشه طوال الطريق، ويرتب صفوفهم(15)، يقول الحلبي(16): سار رسول الله إلى أن وصل ” رأس الثنية ” … وأدلج في السحر فخانت صلاة الصبح بالشوط ،… ومضى (صلى الله عليه وآله) حتى نزل الشعب من أحد.

تغيرت – مع سبطي الرسول في سيرهما إلى الله وبيته- تجربة المشي مع الله، وتجلت تأصيلا للمشي المقدس، وتجسيدا للمعنى الديني والاجتماعي، من خلال تكرارها مرارا، إذ أنها كانت مؤثرة في معاصريهما، فقد ندم ابن عباس”ندامة الكسعي”(17)، أنه لم ينل نوال الحج راجلا، وأنه شديد الأسي عليها بمقارنته مع الإمام الحسن – بحسب روايته: “ما ندمت على شيء فاتني في شبابي، الا أني لم أحج ماشياء ولقد حج الحسن بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا، وأن النجائب لتقاد معه، ولقد قاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات، حتى كان يعطى الخف ويمسك النعل(18) .

وتواترت الرواية بأن الحسين حج خمسا وعشرين حجة ماشياً، ونجائبه تقاد معه(19)، وقيل: علي بن الحسين بن علي هو الذي حج ماشيا، والنجائب تقاد خلفه(20)، فسار عشرين يوما من المدينة إلى مكة(21).

ظلت فضيلة المشي تنحصر في أهل البيت، ففي رواية أبي نعيم، قوله: أتعرفون هذا العلوي، فقالوا: نعم يحج معنا كل سنة ماشيا … إلى أن قال: إن الذي رأيت في عشيتك فهو صاحب زمانكم(22).

تؤكد تأثير طريقة الحسنين في مجتمعهما رواية ابن الرافعي، قال: رأيت الحسن والحسين (عليهما السلام) يمشيان إلى الحج، فلم يمرا براكب إلا نزل يمشي، فثقل ذلك على بعضهم، فقالوا لسعد بن أبي وقاص (55/ 674): قد ثقل علينا المشي، ولا نستحسن أن نركب، وهذان السيدان يمشيان. فقال سعد للحسن: يا أبا محمد، إن المشي قد ثقل على جماعة ممن معك، والناس إذ رأوكما تمشيان، لم تطب أنفسهم أن يركبوا، فلو ركبتما؟ فقال الحسن (ع): لا نركب، قد جعلنا على أنفسنا المشي إلى بيت الله الحرام على أقدامنا، ولكنا نتنكب الطريق، فأخذا جانباً من الناس(23).

تكاثرت الأحاديث الدالة على استحباب المشي على القدم في حج البيت، وتضافرت في الدلالة عليه، حتى ورد فيه: “ما عبد الله بشيء أشد من المشي، ولا أفضل”، وروي أنه “ما تقرب العبد إلى الله – عز وجل – بشيء أحب إليه من المشي إلى بيته الحرام على القدمين”(24)، و”إن الحجة الواحدة تعدل سبعين حجة”(25)، إلى غير ذلك من الروايات.

يرى الفقهاء(26): أن المقصود من هذه الأدلة الحث على المشي الذي يكون راجحا في الشريعة، وهو ما يقصد به الحاج الماشي على قدميه تعظيم الله واجلاله، واظهار شدة العبودية له، وكمالا لانقطاع إليه، أو يريد به إعظام شعائر الله، وتقديس شريعته وأحكامه، أو يريد به اظهار حرمة البيت والمشاعر الكريمة، أو ينوي به نيل مزيد القرب منه والمثوبة لديه،

فإن أفضل الأعمال أحمزها كما في الحديث، وأشباه هذه الغايات، فإذا نذر الانسان أن يمشي على قدميه في حجة الاسلام الواجبة عليه، أو في حجته المنذورة، أو في حجه المندوب لإحدى الغايات المذكورة، انعقد نذره ووجب عليه الوفاء به،

وكذلك إذا نذر المشي في الحج، لأصل رجحان المشي واستحبابه الذي دلت عليه مطلقات الأحاديث المشار إليها، فينعقد نذره ويلزمه الوفاء به، وإذا نذر أن يحج ماشيا فكان نذره لأصل الحج، والإتيان به ماشیا، انعقد نذره، لوجود الرجحان المشترط في كل من الحج والمشي، وهو واضح.

تعددت الروايات عن فضل زيارة المشاهد المقدسة، ملاكها حث الأئمة أهل البيت شيعتهم على الزيارة، وبخاصة إذا كانت مشيا، لما يرافقها من تجشّم العناء الذي يتوافق معه – بحسب اعتقادهم – إمكانية الثواب والمغفرة؛ فورد عن علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: كأني بالقصور قد شيدت حول قبر الحسين (ع)، وكأني بالحامل تخرج من الكوفة إلى قبر الحسين، ولا تذهب الليالي والأيام حتى يسار من الآفاق، وذلك عند انقطاع ملك بني مروان(27) .. عن أبي عبد الله (ع) قال: “ما عبد الله بشيء أفضل من المشي”(28).

وقال (ع): من زار جدي عارفا بحقه، كتب الله له بكل خطوة حجة مقبولة وعمرة مبرورة، والله … ما يطعم الله النار قدما تغيرت في زيارة أمير المؤمنين، ماشيا كان أو راكباً(29)،

وفي مورد آخر يقول: من أتى قبر الحسين (ع) ماشيا كتب الله له بكل خطوة حسنة، ومحى عنه سيئة، ورفع له درجة،

وفي رواية ثانية: من أتى قبر الحسين ماشيا كتب الله له – بكل خطوة، وبكل قدم يرفعها، ويضعها- عتق رقبة من ولد إسماعيل.(30)
لا شك أن التكرار في أي عمل عبادي يرسخ مصداقية العمل، ويتجه بمحصلة الاعتناق إلى الإيمان، واليقين بما يعتقد، والإتقان بما يعمل، ليكون سنّة وعادة؛ ومن هنا وردت روايات حث من لدن أهل البيت على تكرار زيارة المشاهد المقدسة، وبخاصة قبر الامام الحسين،

عن الصادق (ع) قال: “من زار قبر الحسين بن على (ع) ثلاث سنين متواليات … غفرت له ذنوبه البتة”(31).

وعن زيد بن علي يقول: “من زار قبر الحسين بن على (ع) لا يريد به الا الله – تعالى- غفر له جميع ذنوبه …. فاستكثروا من زيارته يغفر الله لكم ذنوبكم”(32).

أما ما ورد في مجال الشريعة من الثواب على بعض المقدمات، مثل ما ورد من الثواب على المشي على القدم إلى الحج أو زيارة الحسين (ع) وأنه في كل خطوة كذا من الثواب، فينبغي -على هذا- أن يحمل على توزیع ثواب نفس العمل على مقدماته، باعتبار أن أفضل الأعمال أحمزها، وكلما كثرت مقدمات العمل، وزادت صعوبتها، كثرت حمازة العمل ومشقته، فينسب الثواب إلى المقدمة مجازا ثانيا وبالعرض، باعتبار أنها السبب في زيادة مقدار الحمازة والمشقّة في نفس العمل، فتكون السبب في زيادة الثواب، لا أن الثواب على نفس المقدمة (33).

ثمة سؤالات لبعض المتشرعة حول زيارة مشاهد الأئمة أهل البيت عليهم السلام، منها:

ضمن الأمور المستحبة إذا ترتب عليها الضرر، فهل يجوز فعلها، أملا؟ مثلا: لو كان الذهاب إلى زيارة الإمام الحسين (ع) مشيا على الأقدام، يؤدي إلى ورم القدمين أو مرض، قد يطول شهرا مثلا، فهل يجوز في مثل هذه الحالة أم لا؟

أجاب السيد أبو القاسم الخوئي: ما لم يكن الضرر المؤدي إليه، مما يحتمل أن يؤدي إلى هلاك النفس، فلا بأس بالعمل بها

التبريزي: ما لم يكن الضرر الهلاك، أو الضرر المحسوب من الجناية على النفس، فلا بأس به، والله العالم(34)..

ما هو رأي السيد السيستاني بزيارة الأئمة (ع) مشيا على الأقدام؟ وهل من دليل شرعي على ذلك ؟ الجواب: ورد ذلك في عدة روايات في خصوص زيارة أمير المؤمنين والإمام الحسين (ع)، ولا بأس بذلك في زيارة غيرهما من الأئمة (ع) أيضا(35).

ويرى الشيخ الكراكي أنه: يشترط في متعلق النذر أن يكون مقدورا للناذر، فلو نذر زيارة قبر الحسين (ع) مشيا على الأقدام، ولم يكن قادرا عليه لم يصح.(36)

هناك إثارة ل “محمد ثابت” (1377/ 1958) في أسفاره: “أن النجف بدت وضّاءة وسط البادية، في رواء و بریق، يراه المشاة من الحجاج محط آمالهم، وموضع عقيدتهم، وفخارهم، وكثير منهم يقوم من بغداد على الأقدام، وكم أجهد منهم الإعياء، والجوع؛ فماتوا في الطريق”(37).

في ضوئها استنكر السيد محسن الأمين (1371/ 1952) الوجود التاريخي لفكرة الزيارة سيرا على الأقدام، بقوله: “لم نسمع أن أحدا قام من بغداد على الأقدام لزيارة النجف… والذين يزورون النجف من البغداديين كانوا يزورونه ركبانا، قبل السكة الحديدية والسيارات في العهد الذي جاء فيه إلى النجف”(38).

على الرغم من أن الأمين كان في معرض تفنيد مقالات محمد ثابت، لما فيها من خلط، وافتراءات، أو مغالاة، نابعة من العاطفة المذهبية، الممعنة في الخلاف، فكان الرد بنفس النفس العاطفي، على أن محمد ثابت كان هنا يسرد مشاهداته لزيارة الناس الفقراء إلى النجف، في معرض الظن الحسن، ويبدو أن سعيهم كان على مرحلتين: من بغداد إلى كربلاء، ومن كربلاء إلى النجف، ولعل كثيرا منهم لديه نذر في الزيارة مشيا، أو اعتقد بثوابه مواساة وطلبا لزيادة الأجر، وإن كان يبالغ في كثرة موت الزائرين المشاة.

ثمة تجارب دونها التاريخ، وبخاصة حراك الملوك والوزراء، ففي العصر البويهي، أخذت الزيارة الى المشاهد المقدسة تكون تقليدا في المجتمع الشيعي، بل السير على الأقدام أضحى نمطا مألوفا في الزيارة، ذكرت المصادر التاريخية(39) أنه في سنة (431/ 1040) خرج الملك جلال الدولة لزيارة المشهدين بالحيْر والكوفة، ومعه أولاده والوزير كمال الملك، وجماعة من الأتراك، فبدأ بالحائر، ومشى حافيا من العلقمي، ثم زار مشهد الكوفة، فمشي حافيا من الخندق، وقدْر ذلك فرسخ.

وفي سنة (366/ 976) تحرك ما كان في نفس عضد الدولة من قصد العراق، فاستخلف عز الدولة على بغداد الشريف أبا الحسن محمد بن عسر، وخرج معه ابن بقية، فزارا مشهد الحسين (ع) (40).

وفيات (398/ 1007) أحمد بن إبراهيم، أبوالعبّاس البُروجردي، الوزير لفخر الدولة أبي الحسن بن بُوَیه. كان يلقّب بالأوحد الكافي، وكان أديبا شاعرا. توفي في صفر، وأُخرج تابوته، وشيّعه الكبار والأشراف، وحُمل إلى مشهد كربلاء، ودُفن به، وكان يتشيّع، وسافر مع تابوته جماعة.

لعل تجارب الناس في الزيارة – كملاحظة وممارسة – تعبّر عن مدى تطور الزيارة مشيًا إلى مشاهد أهل البيت، وبخاصة زيارة الإمام الحسين، فقد أرّخ لبعض مناحيها أغا بزرك الطهراني(41) في ترجمة استاذه حسين النوري، قائلا: ومما سنّه في تلك الأعوام زيارة سيد الشهداء مشيا على الاقدام (من النجف)، فقد كان ذلك في عصر الشيخ مرتضى الأنصاري (1281/ 1864) من سنن الأخيار وأعظم الشعائر، لكن ترك في الأخير، وصار من علائم الفقر، وخصائص الأدنين من الناس، فكان العازم على ذلك يتخفّى عن الناس، لما في ذلك من الذل والعار،

فلما رأى شيخنا ضعف هذا الأمر اهتم له، والتزمه فكان – في خصوص زيارة عيد الأضحي- يكتري بعض الدواب لحمل الأثقال والأمتعة، ويمشي هو وصحبه، لكنه لضعف مزاجه، لا يستطيع قطع المسافة من النجف إلى كربلاء بمبيت ليلة، كما هو المرسوم عند أهله، بل يقضي في الطريق ثلاث ليال يبيت الأولى في “خان المصلي” (الربع)، والثانية في “خان النصف” (الحماد)، والثالثة في “خان النخيلة”، فيصل كربلاء في الرابعة، ويكون مشيه كل يوم ربع الطريق، نصفه صبحا ونصفه عصرا، ويستريح وسط الطريق، لأداء الفريضة، وتناول الغذاء في ظلال خيمة يحملها معه.

وفي السنة الثانية والثالثة زادت رغبة الناس والصلحاء في الأمر، وذهب ما كان في ذلك من الإهانة والذل، إلى أن صار عدد الخيم في بعض السنين- أزيد من ثلاثين، لكل واحدة بين العشرين والثلاثين نفرا.

في السنة الأخيرة يعني زيارة عرفة 1319/ 1902- وهي سنة الحج الأكبر التي اتفق فيها عيد النيروز والجمعة والأضحي في يوم واحد،… تشرفت بخدمة الشيخ إلى كربلاء ماشيا، واتفق أنه عاد بعد تلك الزيارة إلى النجف ماشيا أيضا – بعد أن اعتاد على الركوب في العودة – وذلك باستدعاء الميرزا محمد مهدي بن المولى محمد صالح المازندراني الأصفهاني (1346/ 1927) صهر الشيخ محمد باقر بن محمد تقي محشي (المعالم)، وذلك لأنه كان نذر أن يزور النجف ماشيا، ولما اتفقت له ملاقاة شيخنا (النوري) في كربلاء، طلب منه أن يصحبه في العودة ففعل،

وفي تلك السفرة بدأ به المرض الذي كانت فيه وفاته يوم خروجه من النجف، وذلك على اثر اكل الطعام الذي حمله بعض أصحابه في اناء مغطى الرأس، حبس فيه الزاد بحرارته، فلم ير الهواء، وكل من ذاق ذلك الطعام ابتلي بالقيء والإسهال، وكان عدة أصحاب الشيخ قرب الثلاثين، ولم يبتل بذلك بعضهم لعدم الأكل، وانا كنت من جملتهم، وقد ابتلي منهم بالمرض قرب العشرين، وبعضهم أشد من بعض، وذلك لاختلافهم في مقدار الأكل من ذلك، ونجا أكثرهم بالقيء الا شيخنا، لما عرضت له حالة الاستفراغ امسك شديدا حفظا لبقية الأصحاب عن الوحشة والاضطراب.

فبقاء ذلك الطعام في جوفه أثر عليه، كما أخبرني به بعد يومين من ورودنا كربلاء، قال: إني أحس يجوفي قطعة حجر، لا تتحرك عن مكانها، وفي عودتنا إلى النجف عرض له القيء في الطريق، لكنه لم يجده، وابتلي بالحمى، وكان يشتد مرضه يوما فيوما إلى أن توفي في ليلة الأربعاء لثلاث بقين من جمادی الثانية (1902/1320).

في مدونة الأنصاري (1405/ 1985) (42) عن الزيارة قال: قد اتفق لي ذلك مرارا منذ كنت مراهقا، وحتى يومي هذا، وأنا أطوي الخامسة والأربعين، وأرى من المناسب أن أذكر قضية واحدة منها : كان المؤمنون في العراق يهتمون بقضايا عاشوراء وواقعة الطف، للأوامر الكثيرة الواردة عن أئمة أهل البيت(ع) في ذلك،

ومن جملة الشعائر التي كانوا يهتمون بها شعيرة المشي على الأقدام لزيارة الإمام الحسين (ع) من جميع مدن العراق، ومنها النجف الأشرف، وقد تشوقت أن أمشي مع ركب من أقربائي، وكان ذلك في أوان بلوغي، فاستخرت الله عند السيد الخوئي، فاستخار لي بالمصحف الشريف، ولا أذكر الآية بالخصوص، إلا أنها كانت من سورة يوسف، فقال لي: إن الذي تقصده فيه مشاكل وصعوبات، إلا أن عاقبته جيدة.

فتوكلت على الله وسرت مع الركب، وبعد سويعات من خروجنا من الكوفة – وقد اخترنا طريق الماء على طريق البر- واجهنا عاصفة شديدة ومطرا غزيرا كأفواه القِرَب، وكان قد أقبل علينا الليل، ومع ذلك فقد جهدنا أن نسير، لكن لم نتمكن فتوقفنا في سقيفة قرب” العباسية” ، وهي تبعد عن الكوفة نحو فرسخين، وقد حطمتها العاصفة، ثم رجعنا إلى الكوفة راكبين، وبقينا تلك الليلة في بيت أحد أقربائنا.

ولما أصبحنا ذهب جماعة ليتفحصوا ويجدوا الطريق، هل يمكن السير فيه أولا؟ لكني ترددت في أصل السير، فاستخرت الله بالمصحف الشريف، فخرجت هذه الآية الشريفة “وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (البقرة196)، فذكرت ذلك للرفقة، فصمم الجميع على المسير، فسرنا على بركة الله سالمين آمنين.

كاد المسير مشيا على الأقدام إلى زيارة الحسين (ع)، يكون تقليدا شعبيا يتفرد فيه الشيعة، حتى صار عنوانا لافتا على مستوى العالمية، كأكبر تظاهرة طقوسيّة سلميَّة على أديم البسيطة، وهذا التقليد آخذ في التوسع سنويا في محرم وصفر، وأعلى ما سجلته الإحصاءات من محصلة، هي في زيارة الأربعين في العراق، حيث تتجه ملايين الشيعة، وبمشاركة بعض أبناء السنة وأصحاب الديانات الأخرى من محافظات العراق المختلفة، مشيا على الأقدام إلى كربلاء، وتصل بعض المسافات إلى 600 كيلو متر من جنوب العراق وشماله، بل ثمة مشاركات من مسافات أبعد، تصل إلى نحو ألفي كيلومتر من بلدان الشرق الإسلامي، مثل: مشهد وأصفهان وأردبيل، من المدن في إيران وما يحيق بها من البلدان التي يكثر فيها التشيع، نحو طاجكستان وأذربيجان وغيرها.

 

الهوامش

1- الثعلبي، الكشف والبيان عن تفسير القرآن 274/1؛ البغوي، معالم التنزيل في تفسير القرآن 115/1 ، ابن الأثير، الكامل 38/1، المقداد السيوري، كنز العرفان 338/1، وقيل: حج آدم سبعين حجه ماشيا على قدميه،الصدوق، عیون أخبار الرضا 1/ 220؛ وقيل: سبعمائة حجة ماشياء، وسائل الشيعة 128/11 ، البروجردي، جامع أحاديث الشيعة 201/10.
2- الجصاص، أحكام القرآن 303/3.
3- البخاري، الصحيح 4/ 114.
4- علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/ 122.
5- على، م. ن. 11/ 380.
6- ابن عبد البر، الاستذکار،380/1.
7- هولغر نيلسون، “حدث هذا بعد وفاة دانيال” https://www.apg29.nu/index.php?hl=ar&artid=4542
8- النعمان المغربي، شرح الأخبار 3/ 215ب الخوارزمي، المناقب، ص 277 شرح نهج البلاغة 1/ 14.
9- كفِّروا تكفيرا: اخضُعوا وانقادوا. وكافور، وكِفر: الوعاء. الأزهري، تهذيب اللغة 10/ 114
10- أحمد بن حنبل، المسند،66/4 ،5 / 378، الطبراني، المعجم الكبير 136/2، 142/20 الهيثمي، مجمع الزوائد 176/7.
11- مالك، الموطأ 72/1.
12- الدارمي، السنن 1550/3، أحمد، المسند 23 / 205، 36 / 275، البخاري، الصحيح 2 / 7
13- محمد عبد الرؤوف، فيض القدير شرح الجامع الكبير، بيروت، 1994، 99/6.
14- أحمد، المسند 19/ 424، البخاري، الصحيح 16/4، مسلم، الصحيح 3/ 1499.
15- مکارم، ناصر الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، لا. ط، 671/2.
16- السيرة الحلبية، 2/ 299 – 302.
17- أنظر المثل:” أندَمُ من الكُسَعيَّ”. الميداني، مجمع الأمثال، دار المعرفة، بيروت 2/ 348.
18- الجصاص، أحكام القرآن، 303/3، النعمان المغربي، شرح الأخبار 536/3، الحاكم النيسابوري، المستدرك 169/3 ، البيهقي، السنن الكبرى 331/4، ابن شهر آشوب، المناقب 3 / 180؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق 242/13 ، النووي، المجموع 91/7.
19۔ ابن عبد ربه، العقد 133/5 البغوي، معجم الصحابة 16/2، ابن عبد البر، الاستیعاب 1/ 397؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق 14/ 180؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب 224/3؛ ابن المغازلي، مناقب علي بن أبي طالب، ص 315؛ ابن الجوزي، صفة الصفوة 1 / 321؛ ابن الأثير، أُسد الغابة 2/ 30، الذهبي، سير أعلام النبلاء 4/ 353، الهيثمي، مجمع الزوائد 9/ 201.
20- ابن الجوزي، المنتظم 5 /349.
21- العاملی، وسائل الشيعة 440/14.
22- الصدوق، کمال الدين وتمام النعمة، ص 473، العطوسي، الغيبة، ص 259، البروجردي، جامع أحاديث الشيعة 200/10.
23- المفيد، الإرشاد، 250، النعمان المغربي، شرح الاخبار 111/3 ابن شهر آشوب، المناقب 3 / 399
24- الصدوق، الخصال، ص 630، الطوسي، الاستبصار 141/2 ، تهذيب الأحكام 11/5 العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 95/7.
25- الصدوق، من لا يحضره الفقيه 218/2 ، العلامة، تحرير الأحكام 536/1، منتهى الطلب 31/10 العاملی، وسائل الشيعة 40/7.
26- زين الدين، محمد أمين،( 1998/1419 )، كلمة التقوى، قم، 1413ه،174/3.
27- المنقري، وقعة صفين، ص 140، الصدوق، الأمالي،199، 213، عيون أخبار الرضا .53/2
28- الطوسي، الاستبصار 2/ 142.
29- الطوسی، التهذيب 6/ 41، العاملي، الوسائل 14 / 376.
30۔ وسائل الشيعة 441/14.
31- ابن قولویه، کامل الزیارات، ص 253.
32- ابن قولویه، م. ن، ص 275.
33- المظفر، محمد رضا، (1383/ 1963) أصول الفقه، قم، لا. ت، 326/2.
34- الخوئي، صراط النجاة، تعليق الميرزا جواد التبريزي، دار الاعتصام للطباعة، 1417هـ، 2 /418.
35- السيستاني، على، استفتاءات، لا.ط، 2000م، ص 450.
36- الأراكي، محمد على، المسائل الواضحة، قم، 1414هـ، 2/ 143.
37- المصري، محمد ثابت، جولة في ربوع الشرق الأدني، ط2، القاهرة، 1936، ص 104.
38- الشيعة في مسارهم التاريخي، مركز الغدير للدراسات، قم، 1421ه، ص 226.
39- ابن الجوزي، المنتظم 8/ 105، الذهبي، تاريخ الإسلام 29/ 319ي النويري، نهاية الأرب 26 / 259
40- الطبري، تاريخ 11/ 453، الهمذاني: تكملة تاريخ الطبري، ص 231.
41- طبقات أعلام الشيعة: نقباء البشر في القرن الرابع عشر 547/2.
42- الأنصاري، محمد علي، الموسوعة الفقهية الميسرة، بيروت، 1418، 286/2. 

 

المصدر: الصفحة 169 من كتاب زيارة الأربعين دراسة سوسيولوجية ميدانية للأستاذ الدكتور صادق المخزومي.

زيارة الأربعين دراسة سوسيولوجية ميدانية

 

فهرس محتوبات الكتاب

رابط تحميل و قراءة الكتاب في مكتبة النور

 

 

زيارة الأربعين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky