محمد مهدي بحر العلوم

المرجعية الدينية وتنظيم المناصب .. السيد محمد مهدي بحر العلوم أنموذجاً

الاجتهاد: انتقلت الحوزة العلمية من النجف إلى كربلاء بين عام ١١٥٠ ـ ١٢٠٨ ه‍ بسبب تمركز مدرسة الاستاذ الوحيد البهبهاني المتوفّى عام ١٢٠٨ ه‍ (1)، وباتت مدرسته الاصولية معروفة بالعمق والنضج الاصولي، بالإضافة إلى تمركز الحركة الفقهية بشخصية علمية موسوعية هامة احتضنتها تلك الفترة، تمثلت بالعلاّمة المحدث الشيخ يوسف البحراني (2) صاحب الموسوعة الفقهية المعروفة بـ « الحدائق الناضرة » المتوفّى عام ١١٨٦ ه‍.

واستمرت الحوزة العلمية في كربلاء تنتهل من هذين المنبعين المهمين قرابة سبعين عاما ، واستطاعت أن « تفتح آفاقا جديدة في الكيان العلمي الكربلائي ، كان له صدى حافل بالإكبار والتقدير » (3).

وعادت جامعة النجف إلى ميدانها العلمي كمركز شاخص للحركة العلمية على يد السيد محمد مهدي بحر العلوم المتوفّى عام ١٢١٢ه‍ (4) تلميذ الوحيد البهبهاني ليفتح فيها آفاقا جديدة لإدارة الجامعة العلمية النجفية، لعلها هي الاولى من نوعها في حياة المرجعية بعد عصر الأئمّة عليهم‌السلام.

وتتجسد مسئولية المرجع الديني بصفته المركز الذي يرجع إليه الناس في امور دينهم ودنياهم، ويتولى شئون المسلمين بأن ينظم أعمال المرجعية بما تنسجم وطبيعة الظروف، وقد وفق السيد محمد مهدي بحر العلوم لهذه المهمة الكبيرة حيث كانت من أولويات أعماله المرجعية تنظيم المناصب التي تخص الإنسان في حياته اليومية، كالتقليد، والفتوى، والقضاء، وحل الخصومات، وإمامة الجماعة، وغيرها من المسئوليات التي تخص مراجع التقليد، وتقتضيها طبيعة العصر، حيث رأى إسناد هذه المراكز الهامة إلى شخصيات مؤهلة لهذه المناصب بجدارة.

فقد ركز الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفّى عام ١٢٢٨ه‍ (5) للتقليد والفتوى حتى أجاز لأهله وذويه الرجوع إلى الشيخ كاشف الغطاء (6).

وقدّم الشيخ حسين نجف المتوفّى ١٢٥١ ه‍ (7) للإمامة والمحراب ، كان يقيم الجماعة في « جامع الهندي » ، ويؤمه المصلون على اختلاف طبقاتهم بإرشاد وتوجيه من السيد بحر العلوم.

كما خصص للقضاء وحلّ الخصومات الشيخ شريف محي الدين (8) « فكان يرشد إليه في ذلك علما منه بمهارته في القضاء ، بتثبته في الدين، وسعة صدره لتلقي الدعاوي والمخاصمات ».

وتفرّغ هو لأعباء التدريس ، والزعامة الكبرى ، وإدارة شئون الخاصة والعامة.

إن هذا التقسيم من السيد بحر العلوم لإدارة شئون الجامعة النجفية دلل على وعي كبير للقيادة الدينية ، وأبرز عصره السيد بحر العلوم بطابع جماعي في تحمل المسئولية القيادية ، وعبّر عن نضج ووعي يختلف كل الاختلاف عن العمل الفردي الذي يسود المرجعية الدينية بما يرهقها بزخم المسئوليات الكبيرة والعديدة.

ولنا أن نسمي هذا العصر عصر النهضة العلمية، لكثرة من نبغ فيه من الفحول الكبار والعلماء، وكثرة تهافت طلاب العلم على الجامعة العلمية.

ومن المؤسف أن هذا التوجه الإداري لم يقدّر له البقاء في الجامعة النجفية إلاّ في حدود حياة السيد بحر العلوم ، ومن بعد وفاته وانتقال المرجعية إلى الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفّى عام ١٢٢٨ ه‍ عادت الامور إلى الانفراد بمسئولية المرجعية، وتحملها كل الالتزامات التابعة لشأن القيادة الدينية، لأن الظروف لم تسمح باستمرار ذلك المنهج ، وانتقلت بعد الشيخ كاشف الغطاء إلى الشيخ محمد حسن النجفي « صاحب الجواهر » المتوفّى ١٢٦٦ ه‍ (9).

 

الهوامش

(1) المولى محمد باقر بن محمد أكمل الاصبهاني البهبهاني، المولود في اصفهان عام ١١١٨ ه‍ ودرس شوطه العلمي في بهبهان، ثم انتقل إلى كربلاء واستفاد من أعلامها جولة علمية رشحته لتسنم زعامة الحركة العلمية فيها، وباتت مدرسته الاصولية معروفة فيها حتى وفاته عام ١٢٠٨ ه‍. ترجمه الخونساري ـ روضات الجنات : ١٢٠ ـ ١٢٥ ( الطبعة الاولى ).

(2) يوسف بن أحمد بن إبراهيم المنتهى نسبه إلى ابن عصفور البحراني، ولد في قرية الدراز إحدى قرى البحرين عام ١١٠٧ ه‍ ، وبعد الدراسة الأولية هناك انتقل إلى كرمان ثم شيراز، ثم إلى كربلاء ليقيم فيها مدرسا وعالما ومرجعا ، وأكمل فيها موسوعته الفقهية كتابه « الحدائق الناضرة » حتى توفّي عام ١١٨٧ ه‍. ترجمه الزركلي ـ الاعلام ٨ / ٢١٥.

(3) محمد باقر الصدر ـ المعالم الجديدة : ٨٤ ـ ٨٥ الطبعة الاولى / النجف.

(4) محمد مهدي بن مرتضى بن محمد بن عبد الكريم، المنتهى نسبه إلى إبراهيم المعروف بـ « طباطبا » ابن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن عليه‌السلام، المولود في كربلاء عام ١١٥٥ ه‍ ونشأ فيها، وربّاه والده المرحوم السيد مرتضى، حيث درس أوليات مقررات الحوزة فيها على أعلام من الحوزة، ثم حضر درس خارج الاصول على والده، وعندما تقدم في المسيرة العلمية، اختص بالشيخ الاستاذ الوحيد البهبهاني في بحث الاصول، وفي الفقه بالشيخ يوسف البحراني، وبقي فيها مفيدا ومستفيدا لعام ١١٦٩ ه‍ حيث انتقل إلى النجف ، وحضر بحوث أعلام عصره في الفلسفة والحكمة ، ثم مرجعا شاخصا حتى وفاته عام ١٢١٢ ه‍ ودفن في الساحة الخارجية لجامع الشيخ الطوسي في النجف الأشرف. انظر ترجمته مفصلا في مقدمة كتابه « الفوائد الرجالية » بقلم العلمين السيد محمد صادق والسيد حسين بحر العلوم، الجزء الأول : ٨ ـ ١٢٦ / طبع النجف مطبعة الآداب ١٩٦٥.

(5) جعفر بن خضر بن شلال الجناجي النجفي ، ( جناجة : إحدى قرى العذار في الحلة ) ، وقد لقب باسم كتابه الفقهي « كشف الغطاء ». ولد في النجف عام ١١٥٤ ه‍ ، فقيه مشهور من شيوخ الشيعة في عصره ، وزعيم اسرته المعروفة بالعلم والأدب والفضيلة في النجف. وآل كاشف من أقطاب الجامعة العلمية النجفية ، وكان الشيخ معاصرا للسيد بحر العلوم ، وأرجع له تقليد الامة في زمانه ، له مؤلفات عديدة من أبرزها كتابه « كشف الغطاء » وله مواقف مشهورة في مجابهة الوهابية ، كما له موقف مع رئيس الأخبارية الميرزا محمد أمين الأسترآبادي الأخباري ، توفّي بالنجف عام ١٢٢٨ ه‍ ودفن بها في مقبرتهم الخاصة. ترجمه محمد حرز الدين ـ معارف الرجال ١ / ١٥٠ ـ ١٥٧ ، والزركلي ـ الأعلام ٢ / ١٢٤ ، والقمي ـ المصدر المتقدم ٣ / ٨٧.

(6) مقدمة رجال السيد بحر العلوم ١ / ٤١ ـ ٤٢ / طبعة النجف.

(7) حسين بن الحاج نجف بن محمد النجفي المولود في النجف سنة ١١٤٩ ونشأ فيها ، من أعلام القرن الثالث عشر الهجري ، وقد وصفته المصادر : إن الشيخ حسين نجف كان مثلا في التقوى والصلاح وطهارة النفس ، حتى كان اعتقاد الناس جميعا فيه على نحو اعتقادهم في سلمان الفارسي رضوان الله عليه ، وأشارت بعض المصادر : إنه كان أخص الناس بالسيد محمد مهدي بحر العلوم ، حتى أنه كان وصيا من بعده ، كما كان إمام جماعة يصلي بمسجد الهندي في النجف بطلب من السيد بحر العلوم ، وعرّفته بعض المصادر: إنه شاعر ، وله ديوان شعر في مدح أهل البيت عليهم‌السلام « ومن الغريب ـ كما تنقل بعض المصادر ـ أنه كان يعجز عن النظم في غير أهل البيت ، وكانت قريحته لا تجود والقوافي لا تطيعه إذا رام النظم في غيرهم ، ولهذا لم يرث استاذه السيد مهدي بحر العلوم مع كونه خصيصه ووصيه » وله قصيدة في مدح أمير المؤمنين عليه‌السلام تزيد على أربعمائة وخمسين بيتا ، ومطلعها :

أيا علة الإيجاد حاربك الفكر 

وفي فهم معنى ذاتك التبس الأمر

وقصيدة اخرى في مدح الإمام علي عليه‌السلام مطلعها :

لعلي مناقب لا تضاها 

لا نبي ولا وصي حواها 

وقصيدة اخرى في نفس الموضوع مطلعها :

بأكرم خلق الله رب الشريعة 

بدأت بمدحي إذ به بدء فطرتي 

توفّي في النجف عام ١٢٥١ ه‍ ، ودفن في إحدى غرف الصحن الحيدري. ترجمه الطهراني ـ الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة ١ / ٤٣٢ ـ ٤٣٥ ، وحرز الدين ـ معارف الرجال ١ / ٢٥٨ ـ ٢٦٢ ، وكاظم عبد الأمير الفتلاوي ـ مشاهير المدفونين في الصحن العلوي الشريف : ١٢٤ / طبع قم ٢٠٠٦ ( الطبعة الاولى ).

(8) في حدود المصادر المتوفرة لدي لم أجد ترجمة للشيخ شريف محي الدين سوى ما جاء في مقدمة كتاب السيد بحر العلوم « الفوائد الرجالية » عنه. الجزء الأول / ٤١ النص الذي أشرنا إليه.

(9) محمد حسن بن باقر بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم الشريف النجفي ، المولود في النجف بحدود عام ١٢٠٢ ه‍ ونشأ فيه ، ودرس في أوليات دروسه على علماء عصره ، وحضر في دروسه الخارجية على السيد محمد جواد العاملي ـ صاحب كتاب مفتاح الكرامة ـ ، والشيخ جعفر النجفي صاحب كتاب ( كشف الغطاء ) ، وانتهت إليه زعامة الشيعة ورئاسة المذهب الإمامي في سائر الأقطار ، وثنيت له وسادة المرجعية العامة زمنا طويلا ، وصنف كتاب « جواهر الكلام » وهو موسوعة فقهية جمعت أبواب الفقه عرضا وتحليلا ، ومناقشة لآراء العلماء السابقين عليه. وبقيت هذه الموسوعة الفقهية مصدرا هاما في الفقه إلى يومنا هذا. توفّي عام ١٢٦٦ ه‍ ودفن في مقبرته الخاصة الملاصقة إلى مسجده في النجف. ترجمه الطهراني ـ الكرام البررة ٢ / ٣١٠ ـ ٣١٤ ، ومحبوبة ـ ماضي النجف وحاضرها ٢ / ١٢٨ وحرز الدين ـ المصدر السابق ٢ / ١٣٧.

 

المصدر:  مقدمة كتاب أصول الفقه للعلامة الشيخ حسين الحلّي “ره” ، –  بعنوان دراسة عن حياة آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي قدس‌سره والتي أعدّها العلاّمة الدكتور السيد محمد بحر العلوم “ره” (2015 – 1927م).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky