العزاء الحسيني .. قراءةٌ في الأصول الفقهية الاجتهادية / الدكتور الشيخ عباس كوثري

الاجتهاد: يسعى هذا المقال إلى دراسة الأمور التالية: أولاً: ذكر الأدلة والمباني الروائيّة للعزاء، ودراستها ضمن قسمين: السند؛ وكيفية دلالتها. ثانياً: جواز واستحباب مصاديق العزاء ومظاهره، وذلك بالاستناد إلى الروايات، وتوضيحها. ثالثاً: دراسة الموضوع الهامّ (التطبير؛ أي الضرب على الرأس، وإخراج الدم منه)من منطلق فقهيّ، بالإضافة إلى دراستها على ضوء الفلسفة الاجتماعيّة ـالسياسيّة للعزاء.

لقد تمّ تناول مسألة العزاء والمصاب على أهل بيت الرسالة”عليهم السلام”من جهات وأبعاد مختلفة؛حيث عالجها بعضهم من نظرة عرفانية،وأشار إلى تأثيرها الكبير على السير والسلوك النفسي للإنسان؛ وتناولها بعض آخر من منطلق التحليل الاجتماعي، مشيراً إلى مكانة هذه المصائب في بيان الحقّ والباطل، وأثرها على قيام الثورات الإسلاميّة في العالم الإسلامي؛

واعتبرها بعضهم مواساةً لأهل البيت “عليهم السلام” في مصائبهم وحزنهم والبلاء الذي حلّ بهم، ومن جهة أخرى يرَوْن أنّ إحياء تلك المصائب تمثّل تكريماً وبياناً للفداء الذي قام به أهل البيت”عليهم السلام” في سبيل تفعيل القيم الإلهيّة والإنسانيّة وإحيائها، لذا فقد صار لمسألة العزاء موقع أخلاقي، وصارت تبحث على أساس أنّها أحد المفاهيم الأخلاقيّة.

إلاّ أنّ لهذه الظاهرة التاريخية ومكانة العزاء الكبيرة بُعداً آخر بين الأولياء الإلهيين والأنبياء. ويمكن من خلال هذا البُعد استكشاف نظرة مختلفة، وذلك بالاعتماد على المصادر الروائيّة، مع عدم الابتعاد عن سائر مباني علم النفس ومعرفة أبعادها النفسيّة.

لكنّ البناء الأساسي لموضوع العزاء هو النظرة الفقهيّة والأدلّة المتقنة التي يمكن الاستناد إليها في ذلك، وهذا ما أدّى إلى انتشار هذه النظرة بين المسلمين ـ وبالأخصّ الشيعة منهم ـ. لذا يسعى هذا المقال إلى الأمور التالية:

أولاً: ذكر الأدلة والمباني الروائيّة للعزاء، ودراستها ضمن قسمين: السند؛ وكيفية دلالتها.

ثانياً:جواز واستحباب مصاديق العزاء ومظاهره، وذلك بالاستناد إلى الروايات، وتوضيحها.

ثالثاً: دراسة الموضوع الهامّ (التطبير؛ أي الضرب على الرأس، وإخراج الدم منه) من منطلق فقهيّ، بالإضافة إلى دراستها على ضوء الفلسفة الاجتماعيّة ـ السياسيّة للعزاء.

1ـ الأدلّة الشرعيّة للعزاء

1ـ 1ـ الروايات

أـ روايات استحباب البكاء على أهل البيت”عليهم السلام”

يمكن القول بأنّ هذا النوع من الروايات وصل إلى حدّ التواتر المعنوي؛ أي إنّ كثرة هذه الروايات بلغت حدّاً بحيث يمكن أن يحصل لأيّ مطَّلع عليها الاطمئنان بصدور مضمون أهمّية البكاء من المعصومين”عليهم السلام”، مع غضّ النظر عن العبارات الخاصّة التي صدرت عنهم”عليهم السلام” في كلّ رواية([1]).

من هنا يعتقد بعض العلماء بأنّ جميع روايات كتاب كامل الزيارات حجّة، دون الحاجة إلى النظر في سندها؛ وذلك لأنّ الكاتب صرّح في بداية هذا الكتاب بوثاقة جميع الرواة المذكورين فيه، حيث يقول: «وقد علمنا أنّا لا نحيط بجميع ما روي عنهم”عليهم السلام” في هذا المعنى، ولا في غيره، لكنْ ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته، ولا أخرجتُ فيه حديثاً رُوي عن الشذّاذ من الرجال»([2]).

ويكتب الحرّ العاملي حول ذلك: «وقد شهد عليّ بن إبراهيم ـ أيضاً ـ بثبوت أحاديث تفسيره، وأنَّها مرويّة عن الثقات، عن الأئمّة”عليهم السلام”. وكذلك جعفر بن محمد بن قولويه فإنَّه صرّح بما هو أبلغ من ذلك في أوّل مزاره (أي كتاب كامل الزيارات)»([3]).

وكذلك كان السيد الخوئي يرى هذا الرأي؛ حيث إنّه بعد نقله كلام الحرّ العاملي السابق قال: «إنّ ما ذكره متينٌ، فيحكم بوثاقة مَنْ شهد عليّ بن إبراهيم أو جعفر بن محمد بن قولويه بوثاقته، اللهمّ إلا أن يُبتلى بمعارض. وقد زعم بعضهم اختصاص التوثيق بمشايخه فقط، ولكنَّه خلاف ظاهر عبارته، كما لا يخفى»([4]).

وسوف نتناول في بحثنا هذا دراسة قسم من روايات كلّ موضوع ـ مع غضّ النظر عن هذا المبنى ـ، مشيرين إلى التحقيق في الجهات السنديّة لها، مع الأخذ بعين الاعتبار آراء الرجاليين. وتكمن أهمّية هذا البحث ـ كما أشرنا سابقاً ـ في أنّ بعض الأشخاص مع اعتقادهم بأهل البيت”عليهم السلام” قد يشكِّكون في موقعيّة هذه الروايات واعتبارها.

وسنشير في ما يلي إلى روايتين مع ذكر سندهما:

1ـ رواية محمد بن مسلم، عن الإمام الباقر”عليه السلام”: «كان عليّ بن الحسين”عليهما السلام” يقول: أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين”عليه السلام” حتّى تسيل على خدّيه بوّأه الله بها غرفاً يسكنها أحقاباً؛ وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه في ما مسّنا من الأذى من عدونا في الدنيا بوّأه الله مبوّأ صدق؛ وأيّما مؤمن مسّه أذى فينا، فدمعت عيناه حتّى تسيل على خده من مضاضة ما أُوذي فينا، صرف الله عن وجهه الأذى، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار»([5]).

وراوي الحديث هو الشيخ الصدوق، عن محمد بن موسى المتوكِّل. وقد وثَّق كلٌّ من العلامة وابن داوود في كتابَيْهما محمد بن موسى. ويرى ابن طاووس أن وثاقته مورد اتفاق الجميع. وأما الراوي الآخر عبد الله بن جعفر فقد كتب فيه النجاشي العبارة التالية: «عبد الله بن جعفر بن الحسين بن مالك بن جامع الحميري، أبو العباس، القمّي: شيخ القمّيين ووجههم»([6]). كما يذكره الشيخ الطوسي بعنوان (ثقة)([7]).

وأما الشخصية الأخرى الواردة في سند هذا الحديث فهو أحمد بن محمد بن عيسى بن عبد الله بن سعد. ويكتب حوله النجاشي بأنّه: «شيخ القمّيين ووجههم وفقيههم»([8]). كما مدحه الشيخ الطوسي أيضاً.

وكذا الحسن بن محبوب، الذي وقع في سند هذا الحديث، والذي يرى بعض الرجاليين أنّه من أصحاب الإمامين الكاظم والرضا’، معتبراً أنّه من أصحاب الإجماع([9]).

والراوي الآخر هو العلاء بن رزين، الذي يكتب حوله الشيخ الطوسي أنّه «ثقة، جليل القدر»([10]). وعبَّر عنه النجاشي بعبارة: «وكان ثقة وجهاً»([11]).

وأما محمد بن مسلم فهو رجلٌ معروف على مستوى الحديث والتقوى. وعدَّه الكشي في الرجال الذين أجمعت العصابة على تصديقهم([12]). ويكتب فيه النجاشي: «فقيه ورع، صحب أبا جعفر وأبا عبد الله’، وروى عنهما، وكان من أوثق الناس»([13]).

أما من جهة دلالة الرواية على الاستحباب فيكفي الالتفات إلى الثواب الكبير والوعود الأخروية المترتّبة على إقامة العزاء التي ذكرت في هذه الرواية، بحيث ذكرت أنّ ثواب ذلك هو السكن الدائم في غرف الجنة. وكذا مَنْ جرت دموع عينيه على خدَّيه على ما أصاب أهل البيت”عليهم السلام” من المصاب والأذى فسوف يجعله الله تعالى في منزل صدق. وكذا مَنْ تأذّى لمصاب أهل البيت”عليهم السلام” ودمعت عيناه فسوف يصرف الله تعالى عنه أذى الدنيا والآخرة، ويؤمنه في يوم القيامة من غضبه، ومن عذاب النار.

2ـ رواية الفضل بن يسار، عن الإمام الصادق”عليه السلام”: «مَنْ ذكرنا عنده ففاضت عيناه، ولو مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر»([14]).

وهذه الرواية من ناحية السند صحيحة؛ حيث ورد فيها أحمد بن محمد بن خالد. وقد ذكره النجاشي بقوله: «أحمد بن محمد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي البرقي، أبو جعفر، أصله كوفي ـ وكان جدّه محمد بن عليّ حبسه يوسف بن عمر بعد قتل زيد”عليه السلام”، ثم قتله، وكان خالد صغير السنّ، فهرب مع أبيه عبد الرحمن إلى برق روذ ـ، وكان ثقةً في نفسه، يروي عن الضعفاء، واعتمد المراسيل. وصنَّف كتباً، منها: المحاسن، وغيرها…»([15]).

والراوي الثاني هو محمد بن أبي عمير، الذي يذكر الشيخ الطوسي في حقّه العبارة التالية: «وكان من أوثق الناس عند الخاصّة والعامة، وأنسكهم، وأورعهم، وأعبدهم»([16]).

واعتبره الكشّي من الفقهاء الكبار، ومن أصحاب الإجماع. كما يرى أنّ صحة حديثه مورد اتّفاق([17]).

وأما الراوي الآخر الوارد في سند هذه الرواية ـ وهو بكر بن محمد ـ فيكتب فيه النجاشي: «بكر بن محمد بن عبد الرحمن بن نعيم الأزدي الغامدي، أبو محمد: وجهٌ في هذه الطائفة، من بيت جليل بالكوفة… وكان ثقةً»([18]).

وأما الفضيل بن يسار، الراوي الأخير في سلسلة سند هذا الحديث، فقد عدّه الكشّي من أصحاب الإجماع، ونقل أنّ أبا عبد الله “عليه السلام” إذا رأى الفضيل بن يسار قال: «بشِّر المخبتين. مَنْ أحبّ أن ينظر رجلاً من أهل الجنة فلينظر إلى هذا»([19]).

وحدَّث ربعي بن عبد الله قال: حدَّثني غاسل الفضيل بن يسار، قال: إنّي لأغسِّل الفضيل بن يسار، وإنّ يده لتسبقني إلى عورته، فخبرت بذلك أبا عبد الله×، فقال لي: «رحم الله الفضيل بن يسار، وهو منّا أهل البيت»([20]).

وأما مضمون هذا الحديث فهو أنّ كل مَنْ ذُكرنا عنده فبكى ـ بناء على أنّ ذُكرنا مبنيّ للمجهول ـ، أو ذَكَرَنا عنده ـ بناء على كونها مبنيّة للمعلوم ـ، وجرى من عينيه مقدارٌ بسيط من الدموع، ولو بمقدار جناح ذبابة، فسوف يغفر الله له ذنوبه جميعاً، ولو كانت ذنوبه كزبد البحر. وهذا المضمون ورد باختلافٍ يسير في تفسير عليّ بن إبراهيم القمي بسندٍ معتبر، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن بكر بن محمد، عن الإمام الصادق”عليه السلام”، أنه قال: «من ذَكَرَنا أو ذُكِرْنا عنده فخرج من عينه دمعٌ مثل جناح بعوضة غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر»([21]).

ومن الواضح أنّ عدد الذنوب التي تغفر عند ذكر أهل البيت”عليهم السلام” والبكاء على مصابهم يدور مدار أهمّية العزاء، والمكانة الدينية التي يحتلّها، وهو ما يؤول في النتيجة إلى إثبات الاستحباب الشرعي، الذي معناه رجحان الفعل مع الترخيص في الترك.

ب ـ روايات إحياء أمر أهل البيت”عليهم السلام”

يعدّ ذكر أهل البيت”عليهم السلام” من وسائل استمرار الحقائق الدينيّة والإلهيّة وترسيخها في أذهان الناس. وقد ورد التأكيد على هذا الأمر في القرآن، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله﴾‏ (إبراهيم: 5)، كما يقول في مكانٍ آخر: ﴿ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾‏ (الحجّ: 32).

هذه هي الرسالة والمسؤولية التي يحملها كلّ واحد من أصحاب الثقافة الدينية مقابل الجيل اللاحق الذي سيأتي بعده. فثقافة أهل البيت”عليهم السلام” هي الثقافة الإسلامية الأصيلة، الثابتة بحديث الثقلين المتواتر. وهذه الثقافة هي التي تدعو الإنسان إلى النجاة من الضياع والضلال. وإنّهم”عليهم السلام” ـ إلى جانب القرآن ـ يقودون البشر نحو منزل السعادة والصفاء. وقد سعى أهل البيت”عليهم السلام” للعمل على إبقاء هذه الثقافة عبر التوصية والحثّ على تشكيل مجالس الذِّكر ـ والتي منها مجالس العزاء ـ، معتبرين أنّها تصب في تكريمهم، وإحياء أمرهم، وبيان أهدافهم.

ومن جملة تلك الموارد ما نقله الحرّ العاملي عن كتاب قرب الإسناد، بسند صحيح ومعتبر: «عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد، عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله”عليه السلام”، أنّه قال للفضيل: تجلسون وتتحدَّثون؟ فقال: نعم، فقال: إنّ تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا، فرحم الله مَنْ أحيا أمرنا. يا فضيل، من ذَكَرَنا أو ذُكرنا عنده ففاضت عيناه، ولو مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر»([22]).

أمّا سنده فيذكر النجاشي عن عبد الله بن جعفر أنّه «شيخ القمّيين ووجههم»([23]). وذكره الشيخ الطوسي بعنوان «ثقة»([24]). ومدحه العلاّمة الحِلّي بأنّه شيخ القميين ووجههم، وثقة، من أصحاب أبي محمد العسكري([25]).

وأما أحمد بن إسحاق فيقول الشيخ الطوسي في حقّه: «أحمد بن إسحاق بن عبد الله بن سعد بن مالك بن الأحوص الأشعري، أبو عليّ، كبير القدر، وكان من خواصّ أبي محمد”عليه السلام”، ورأى صاحب الزمان”عليه السلام”، وهو شيخ القمّيين ووافدهم»([26]).

وبكر بن محمد، الذي ورد في سند هذه الرواية، تقدّم في ما سبق الكلام في نقل وثاقته من كتب الرجاليين.

وبالتالي تكون الرواية من الناحية السندية معتبرة.

إنّ هذا الحديث يَعِدُ ـ من جهةٍ ـ مقيمي العزاء على أهل البيت”عليهم السلام” بالمغفرة؛ ومن جهةٍ أخرى يعتبر أنّ إقامة العزاء من مصاديق إحياء أمر أهل البيت، والمحافظة على تحقيق أهدافهم، معلِناً أنّ هذه المجالس محطّ عناية الإمام الصادق”عليه السلام” واهتمامه.

كما يشكِّل هذا الأمر غطاءً هامّاً لاعتقاد شيعة أهل البيت ومحبِّيهم بمقام العصمة. فالمحافظة على إحياء مبادئ المعصومين”عليهم السلام” من أعظم الأهداف التي وقفوا أنفسهم على تحقيقها، واستشهدوا في سبيل الوصول إليها، وقدَّموا أغلى ما لديهم وأعزّ الأشخاص عندهم فداءً لها.

لكنْ مع ذلك نرى أنّ البعض يحاول تحليل الروايات بشكلٍ خاطئ؛ إذ يرى أنّ روايات فضيلة البكاء على أهل البيت”عليهم السلام” واستحقاق الثواب عليه مختصٌّ بزمان يمثِّل فيه العزاء والبكاء حالة جهاد ومقارَعة للخلفاء الظالمين، أما في عصرنا هذا الذي لا يعدّ البكاء فيه جهاداً فلا يترتَّب عليه أيّ ثواب.

وقد كتب بعض هؤلاء المحلِّلين في هذا الصدد: «وأما في زمان لا محاربة بين أهل البيت وأعدائهم ـ كزماننا هذا ـ فلا يصدق على ذكر الحسين والبكاء عليه عنوان الجهاد، كما أنه لا يلقى ذاكر الحسين إلاّ الذكر الجميل والثناء الحسن. بل يأخذ بذلك أجرةً، والباكي على الحسين يشرَّف ويكرَّم، ويقال له: قدمت خير مقدم، ويقدَّم إليه ما يشرب ويتفكَّه. فحيث لا جهاد في البكاء عليه فلا وعد بالجنة، وحيث لا عذاب ولا نكال ولا خوف نفس فلا ثواب كذا وكذا»([27]).

لكنَّه لم يلتفت إلى أنّ الثواب والفضيلة الموجودة في الروايات إنّما تتفرّع عن ذكر أهل البيت”عليهم السلام”. وهذا الأصل أصلٌ ثابت في جميع العصور والأزمان، وجارٍ فيها دائماً. وغير خافية تلك الآثار التي تجلَّت على امتداد العصور في مسألة إقامة العزاء على أهل بيت محمد”عليهم السلام”، وخاصّة سيد الشهداء”عليه السلام”؛ حيث أثمرت استمرار حياة الشيعة وبقائهم في المخاضات التي مرَّت عليهم.

ولعلّ أهمية جهاد أعداء أهل البيت”عليهم السلام” تكمن في إحياء اسمهم، وإعلاء قيمهم، لا في خصوص محاربة هؤلاء الأعداء وقتالهم فقط.

ج ـ معتبرة معاوية بن وهب

لقد ورد في هذه الرواية: عن أبي عبد الله”عليه السلام” ـ في حديثٍ ـ قال: «كل الجزع والبكاء مكروه، سوى الجزع والبكاء لقتل الحسين”عليه السلام”»([28]).

وقد وقع في سند هذه الرواية كلٌّ من: الشيخ الطوسي؛ والشيخ المفيد؛ وابن قولويه. أما الراوي الأخير للرواية فهو الحسن بن محمد، ابن الشيخ الطوسي، الذي كان من العلماء الأجلاّء والموثَّقين. وقد مدحه كبار العلماء والمحقِّقين، حيث يكتب العلاّمة المجلسي في حقّه: «وأمالي ولده العلاّمة… لا يقصر عن أماليه (أي الشيخ الطوسي) في الاعتبار والاشتهار، وإنْ كان أمالي الشيخ عندي أصحّ وأوثق»([29]).

وقد ورد في سندها محمد بن قولويه، والد جعفر بن محمد بن قولويه، الذي ذكره النجاشي، في ذيل ترجمته لجعفر، بقوله: «وكان أبوه يلقب مسلمة، من خيار أصحاب سعد»([30]). كما أنّ جعفر روى مباشرة عن والده، ووثَّقه من خلال ما ذكره في بداية كتابه، بأنّه لن ينقل في هذا الكتاب إلاّ عن الثقات([31]).

وبعده ورد الراوي سعد بن عبد الله، الذي عبّر عنه النجاشي بأنّه «شيخ هذه الطائفة، وفقيهها، ووجهها».

كما ورد في سندها أحمد بن محمد بن عيسى والحسن بن محبوب، اللذان تقدَّمت وثاقتهما في ما سبق.

وأما أبو محمد الأنصاري فيكتب حوله السيد الخوئي: «أبو محمد الأنصاري هذا يعتدّ بقوله؛ لقول محمد بن عبد الجبّار في رواية الكافي المتقدِّمة أنَّه خيِّر»([32]).

وأما معاوية بن وهب، وهو الراوي المباشر عن الإمام”عليه السلام”، فقد وثّقه النجاشي.

ومن جهة الدلالة فالإمام يشير في الرواية إلى أنّ الجزع والبكاء أمرٌ مكروه، إلاّ إذا كان هذا البكاء والجزع على الإمام الحسين”عليه السلام”. وبذلك يمكن لهذه الرواية ـ بشكلٍ عام ـ أن تكون شاملة لجميع أشكال العزاء التي تُظهر هاتين الحالتين؛ لأن الإمام أطلق المسألة على نحو القضية الحقيقية، والكبرى الكلّية.

1ـ 2ـ سيرة المعصومين”عليهم السلام”

لقد عكست بعض الروايات وجود هذه السيرة بين المعصومين”عليهم السلام”. وسوف نشير في ما يلي إلى نماذج من هذه الروايات:

ينقل الشيخ الكليني عن «عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عليّ بن الحكم، عن يونس بن يعقوب، عن أبي عبد الله”عليه السلام” قال: قال لي أبي: يا جعفر، أوقِفْ لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمِنى أيّام منى»([33]).

ويشار إلى أنّ جميع رواة هذه الرواية من الثقات والمعتبرين. وبما أنّ الشيخ الكليني قال: عدة من أصحابنا، وكان قد شخّص مَنْ هم هؤلاء العدّة في ما سبق في كتابه، والذين بينهم رجال ثقات…، فلا يعود ثمّة إشكال في القسم الأول من السند. وأحمد بن محمد هو ابن خالد المتقدِّم توثيقه من الشيخ الطوسي والنجاشي؛ والدليل على أنّه ابن خالد هو قرينة الراوي والمروي عنه.

وأمّا بالنسبة إلى عليّ بن الحكم، والذي يعبَّر عنه أحياناً بعلي بن الحكم الأنباري، أو عليّ بن الحكم بن الزبير أيضاً، فقد قال في حقّه الشيخ الطوسي: «علي بن الحكم الكوفي: ثقة، جليل القدر»([34]).

ويكتب النجاشي عن يونس بن يعقوب: «اختصّ بأبي عبد الله وأبي الحسن’، وكان يتوكَّل لأبي الحسن”عليه السلام”، ومات بالمدينة في أيام الرضا”عليه السلام”، فتولى أمره. وكان حظيّاً عندهم، موثَّقاً، وكان قد قال بعبد الله، ورجع»([35]).

وأما مضمون الحديث فهو يبيِّن بوضوح كيف أنّ الإمام الباقر”عليه السلام” كان يتصرَّف في مسألة إقامة العزاء.

ويقول الشيخ الصدوق؛ انطلاقاً من هذه الرواية: «وأوصى أبو جعفر”عليه السلام” أن يُندَب في المواسم عشر سنين»([36]).

وبعد أن ينقل صاحب الجواهر هذه الرواية، واصفاً إياها بالصحيحة، يقول: «وقد يستفاد منه استحباب ذلك إذا كان المندوب ذا صفاتٍ تستحقّ النشر؛ ليقتدى بها»([37]).

وينقل في كامل الزيارات، في روايات مختلفة، عن أبي هارون المكفوف، وكذا الكشّي عند كلامه عن جعفر بن عفّان، أنّ الإمام الصادق”عليه السلام” أمره أن ينشده شعراً في الحسين”عليه السلام”، وبعد أن بكى الإمام بيَّن له فضيلة ذكر مصابه”عليه السلام”([38]).

ولا شكّ في أن هناك الكثير من الدلالات الأخرى، إلاّ أننا نكتفي بهذا المقدار في مقام إثبات استحباب هذا الأمر. وإنْ كان يكفينا إثبات الاستحباب، حتّى دون أن نثبت صحّة سند هذه الروايات، وذلك بناءً على ما ذهب إليه الكثير من الفقهاء والأصوليين من تمسُّكهم بمؤدّى أخبار «مَنْ بلغ». فحتى لو كان لدينا روايات ضعيفة يمكننا بهذه القاعدة أن نثبت الاستحباب أيضاً. وقد عُبِّر عن هذه القاعدة في الكتب الأصوليّة بقاعدة «التسامح في أدلّة السنن». وقد بحثها كلٌّ من: الشيخ الأنصاري في الرسائل؛ والآخوند الخراساني في آخر بحث البراءة من كفاية الأصول.

2ـ طريقة إقامة العزاء

لكلّ منطقة وبلد تقاليد خاصة في إقامة العزاء. والأساليب المعروفة الآن في العزاء هي من قبيل: اللطم؛ والتشبيه (تمثيل بعض وقائع عاشوراء)؛ ولبس السواد؛ والضرب بالسلاسل؛ والتطبير (ضرب الرأس وإخراج الدم منه). وسوف نتناول كلاًّ من هذه الأساليب بشكلٍ خاصّ؛ لنرى مدى جواز أو استحباب هذه الأمور.

أـ اللطم

ينقل صاحب الجواهر دليلين على جواز البكاء واللطم على الصدور والرؤوس في مصائب أهل البيت”عليهم السلام”، وبالأخصّ سيد الشهداء”عليه السلام”؛ حيث يعتمد أوّلاً على حسنة معاوية بن وهب، التي ترى أن الجزع على الإمام الحسين جائز؛ لأنّ المراد بالجزع هو الأمور التي يقوم بها الشخص المفجوع، من قبيل: لطم الوجه والصدر. وهذا ما يمكن استفادته من كلام الإمام الباقر”عليه السلام”، الذي يشير إلى مصاديق الجزع، بقوله: «أشدّ الجزع الصراخ بالوَيْل والعويل، ولطم الوجه والصدر، وجزّ الشعر»([39]).

والثاني هو سيرة المتشرِّعة منذ القِدَم، دون أن يعترض أحدٌ عليها([40]).

وقد يقال: إنّ السيرة إنّما تكون حجة إذا أحرز اتّصالها بزمن المعصوم”عليهم السلام”، ولا دليل على ثبوت هذه السيرة المتَّصفة بذلك في عصرنا الحاضر.

وقد أجاب صاحب الجواهر عن هذا الإشكال بأنّ الدليل على ذلك «ما يحكى من فعل الفاطميات، كما في ذيل خبر خالد بن سدير، عن الصادق”عليه السلام”، بل ربما قيل: إنّه متواتر»([41])؛ إذ المستفاد من هذه الجملة أنّ لطم بنات السيدة الزهراء”عليها السلام” وجههن على الحسين”عليه السلام” بلغ من الواقعيّة والثبوت بحيث وصل إلى حدّ التواتر. وهذا ما يشير إلى وجود سيرة في زمن المعصوم”عليهم السلام” قائمة على ذلك.

ويؤيِّد هذا الأمر خبر خالد بن سدير، عن الإمام الصادق”عليه السلام”، أنّه قال: «ولقد شققن الجيوب، ولطمن الخدود، الفاطمياتُ على الحسين بن عليّ’. وعلى مثله تلطم الخدود، وتشقّ الجيوب»([42]).

كما ورد في زيارة الناحية المقدّسة وصف مؤلم لحالة بنات فاطمة÷ في المصيبة التي حلَّت بهنّ؛ حيث يقول الإمام الحجة# في تلك الزيارة: «فلما رأين النساء جوادك مخزياً، ونظرن سرجك عليه ملويّاً، برزنَ من الخدور، ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات…»([43]).

ومع كون المراد بالجزع هو لطم الصدر والرأس، ويؤدّي هذا العمل عادةً إلى تغيُّر لون الصدر والوجه، واحمرارهما، بل قد يؤدّي إلى خروج الدم منهما أحياناً…، يمكن القول بأنه يستفاد من معتبرة معاوية بن وهب جواز كلّ تلك الحالات. وهذا ما ذكره الشيخ النائيني في جواب استفتاء حول هذا الأمر، حيث يقول: «لا إشكال في جواز اللطم بالأيدي على الخدود والصدور حدّ الاحمرار والاسوداد، بل يقوى جواز الضرب بالسلاسل أيضاً على الأكتاف والظهور إلى الحدّ المذكور، بل وإنْ تأدّى كلّ من اللطم والضرب إلى خروج دمٍ يسير، على الأقوى»([44]).

ب ـ التشبيه

والمراد من التشبيه هو إقامة عرض تمثيليّ يبيِّن فيه واقعة مصيبة كربلاء، حيث يضطرّ الرجال ـ أحياناً ـ إلى لبس ثياب نسائيّة فوق لباسهم؛ لأداء هذه الأدوار.

ويعدّ التشبيه من مصاديق إقامة العزاء، وسبباً لتذكّر مصائب أهل البيت”عليهم السلام”، والبكاء عليها. والأدلّة الدالة على استحباب إقامة العزاء والبكاء والإبكاء شاملةٌ لهذا المورد أيضاً.

وما يمكن أن يكون دليلاً على عدم جواز التشبيه هو لبس الرجال لباس النساء. والأدلة الدالة على عدم جواز التشبُّه بالنساء على نحوين:

1ـ روايات النهي عن تشبُّه الرجال بالنساء، والعكس أيضاً

وهنا يوجد روايات عديدة، سوف نذكر روايتين منها:

الأولى: ينقل الحرّ العاملي عن «محمد بن عليّ بن الحسين ـ في العلل ـ، عن أبيه، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن عليّ، عن آبائه، عن عليّ”عليه السلام”، أنه رأى رجلاً به تأنيثٌ في مسجد رسول الله|، فقال له: اخرج من مسجد رسول الله|، يا لعنة رسول الله|، ثم قال عليّ”عليه السلام”: سمعتُ رسول الله| يقول: لعن الله المتشبِّهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال»([45]).

وفي روايةٍ أخرى ينقل الحرّ العاملي عن «محمد بن يعقوب [الكليني]، عن أبي عليّ الأشعري، عن محمد بن سالم؛ وعن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، جميعاً، عن أحمد بن النضر؛ وعن محمد بن يحيى، عن محمد بن أبي القاسم، عن الحسين بن أبي قتادة، جميعاً، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر”عليه السلام”، قال: قال رسول الله| في حديثٍ: لعن الله المحلل والمحلل له ومَنْ تولى غير مواليه، ومَنْ ادَّعى نسباً لا يعرف، والمتشبِّهين من الرجال بالنساء، والمتشبِّهات من النساء بالرجال، ومَنْ أحدث حَدَثاً في الإسلام أو آوى مُحدثاً، ومَنْ قتل غير قاتله، أو ضرب غير ضاربه»([46]).

وبناءً على هاتين الروايتين فقد تمّ لعن كلّ مَنْ تشبَّه من النساء بالرجال ـ سواء كان تشبُّهاً في اللباس أو في غير اللباس ـ. وهذا يفيد حرمة هذا العمل، ويكشف عن مبغوضيّته. وبالتالي يكون التشبيه الذي يتمّ فيه لبس الرجال لباس النساء؛ لأداء دور معيَّن، من مصاديق التشبُّه، وسيكون مشمولاً لهذه الروايات.

لكنْ يُرَدّ على الاستدلال بهذه الروايات بإشكالين:

الأول: ضعف سند الرواية الأولى؛ حيث ورد فيه الحسين بن علوان، الذي كتب فيه النجاشي: «الحسين بن علوان الكلبي، مولاهم، كوفيّ عامّي»([47]).

الثاني: ورد في سند الرواية الثانية عمرو بن شمر، الذي ذكر النجاشي أنّه «ضعيف جدّاً، زيد أحاديث في كتب جابر الجعفي يُنسب بعضها إليه»([48]).

وأما سائر الروايات التي وردت في هذا المضمون فبعضها مرسلٌ، وبعضها الآخر يوجد في سندها رواة غير موثَّقين وضعاف. يكتب صاحب مصباح الفقاهة: «إنه ورد النهي عن التشبُّه في الأخبار المتضافرة: ولعن الله ورسوله المتشبِّهين من الرجال بالنساء، والمتشبِّهات من النساء بالرجال. ولكنّ هذه الأخبار كلّها ضعيفة السند، فلا تصلح دليلاً للقول بالحرمة»([49]).

نعم، بناءً على القاعدة الأصولية التي تفيد أنّ الشهرة جابرة لضعف السند يمكن لنا أن نعتبر هذه الرواية قويّة، كما ذهب إلى ذلك السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب([50]). وقد ذكر الشيخ الأنصاري في مقام الاستدلال بهذه الروايات: «وفي دلالتها قصور؛ لأنّ الظاهر من التشبّه تأنُّث الذكر، وتذكّر الأنثى (كما هو الحال في اللواط والسحاق)، لا مجرّد لبس أحدهما لباس الآخر مع عدم قصد التشبُّه»([51]).

وادّعاء هذا الظهور إنّما كان بسبب أنّ هيئة التشبُّه إذا تعدَّت بالباء تفيد أن التشبُّه كان في العمل، وقد ورد في المنجد أن التشبُّه هو مساواة المشبَّه به في العمل.

وفي هذه الحالة لن يصدق على لبس كلٍّ من الرجل والمرأة لباس الآخر مع عدم قصد التذكُّر والتأنُّث (بالمعنى السلبيّ) عنوان اللبس المحرَّم، الوارد في الروايات.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري، في مقام تأييد هذا الرأي، رواية العلل، ورواية يعقوب بن جعفر الواردة في خصوص المساحقة، وبعد ذلك قال: وفي رواية أبي خديجة، عن أبي عبد الله”عليه السلام”: «لعن رسول الله| وسلم المتشبِّهين من الرجال بالنساء، والمتشبّهات من النساء بالرجال، وهم المخنَّثون، واللائي ينكحن بعضهنّ بعضاً»([52]).

2ـ روايات النهي عن التشبُّه في اللباس

وهذه الروايات ـ خلافاً للطائفة السابقة ـ تختصّ بالتشبّه بخصوص اللباس. يذكر صاحب الوسائل باباً في هذا الخصوص، وينقل تحته هاتين الروايتين: «الحسن الطبرسي في (مكارم الأخلاق)، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله وأبي الحسن’، في الرجل يجرّ ثيابه؟ قال: إنّي لأكره أن يتشبَّه بالنساء»([53]).

«وعن أبي عبد الله، عن آبائه”عليهم السلام”، قال: كان رسول الله”عليه السلام” يزجر الرجل أن يتشبّّه بالنساء، وينهى المرأة أن تتشبَّه بالرجال في لباسها»([54]).

لكنّ الرواية الأولى مرسلة؛ حيث لم يذكر فيها السند الذي يصل الطبرسي بسماعة.

وأما الرواية الثانية فلم يذكر فيها أيّ سند بتاتاً.

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ كلتا هاتين الروايتين قاصرة عن الدلالة في مضمونها. وفي ذلك يكتب الشيخ الأنصاري: «وفيها ـ خصوصاً الأولى؛ بقرينة المورد ـ ظهورٌ في الكراهة. فالحكم المذكور لا يخلو عن إشكال»([55]).

وإذا فرضنا صحّة السند والدلالة، وخصوصاً في الرواية الثانية، التي وردت بعبارة النهي والزجر، فيمكن القول بأنّ هيئة التشبُّه الواردة فيها إنّما هي التشبُّه من جميع الجهات، كما تفيده المراجع اللغوية، فيصير المراد بالتشبُّه في اللباس هو التزيُّن وخروج كلٍّ من المرأة والرجل في مظهر الآخر، كما هو الحال في المطربين والمغنّين في مجالس اللهو والفسق. وبناء على ذلك لا يصدق على التشبُّه المحرَّم ما يتم تداوله بين ممثِّلي حادثة عاشوراء، من لبس الرجال لباس النساء فوق لباسهم؛ للقيام بدور تمثيلي حول ما جرى في كربلاء.

ولهذا السبب يرى الشيخ النائيني عدم حرمة هذا العمل؛ إذ يقول: «الظاهر عدم الإشكال في جواز التشبيهات والتمثيلات التي جرت عادة الشيعة الإمامية باتّخاذها لإقامة العزاء والبكاء والإبكاء منذ قرون، وإنْ تضمَّنت لبس الرجال ملابس النساء، على الأقوى؛ فإنّا وإنْ كنّا مستشكلين سابقاً في جوازه، وقيَّدنا جواز التمثيل في الفتوى الصادرة منّا قبل أربع سنوات، لكنّا لمّا راجعنا المسألة ثانياً اتَّضح عندنا أنّ المحرَّم من تشبيه الرجل بالمرأة ما كان خروجاً عن زيّ الرجال رأساً، وأخذاً بزيّ النساء، دون ما إذا تلبَّس بملابسها مقداراً من الزمان، بلا تبديل لزيِّه؛ كما هو الحال في هذه التشبيهات»([56]).

وكذا يرى السيد الخوئي؛ إذ ينقل في مصباح الفقاهة: «بل الظاهر من التشبّه في اللباس المذكور في الروايتين هو أن يتزيّا كلٌّ من الرجل والمرأة بزيّ الآخر، كالمطربات اللاتي أخذنَ زيّ الرجال، والمطربين الذين أخذوا زيّ النساء. ومن البديهي أنّه من المحرَّمات في الشريعة، بل من أخبث الخبائث، وأشدّ الجرائم، وأكبر الكبائر. على أنّ المراد في الرواية الأولى هي الكراهة؛ إذ من المقطوع به أنّ جرّ الثوب ليس من المحرَّمات في الشريعة المقدَّسة. وقد تجلّى ممّا ذكرناه أنّه لا شكّ في جواز لبس الرجل لباس المرأة؛ لاظهار الحزن، وتجسم قضية الطفّ، وإقامة التعزية لسيد شباب أهل الجنّة”عليه السلام”. وتوهُّم حرمته؛ لأخبار النهي عن التشبُّه، ناشئٌ من الوساوس الشيطانيّة؛ فإنّك قد عرفتَ عدم دلالتها على حرمة التشبُّه»([57]).

وكذلك يرى الإمام الخميني، إذ يقول: «إذا لم يكن التشبيه مشتملاً على محرَّمات، وموجباً لوَهْن المذهب، فلا مانع منه، وإنْ كان ذكر المصائب أفضل، والعزاء على سيِّد المظلومين من أفضل القربات»([58]).

ج ـ التطبير

والمراد بالتطبير هو جرح الرأس بموسى أو سيف؛ إظهاراً لشدّة الحزن على مصائب الإمام الحسين”عليه السلام”.

وثمّة رأيان حول التطبير:

1ـ جواز التطبير

وذلك ضمن شروطٍ خاصّة. ويذكر الشيخ النائيني، في جواب استفتاءٍ في ذلك، أنّ التطبير جائزٌ بثلاثة شروط: الأمن من الضرر؛ وعدم كسر العظم؛ وعدم إخراج الدم الكثير، حيث يقول: «وأمّا إخراج الدم من الناصية بالسيوف والقامات فالأقوى جواز ما كان ضرره مأموناً، وكان مجرد إخراج الدم من الناصية بلا صدمة على عظمها، ولا يتعقّب عادة بخروج ما يضرّ خروجه من الدم، ونحو ذلك، كما يعرفه المتدرِّبون العارفون بكيفية الضرب… لكنّ الأَوْلى أن لا يقتحمه غير العارفين المتدرِّبين، ولا سيّما الشبّان الذين لا يبالون بما يوردون على أنفسهم؛ لعظم المصيبة، وامتلاء قلوبهم من المحبّة الحسينيّة»([59]).

وكذا يشترط سائر المراجع هذه الشروط، فيرَوْن أنّ التطبير الذي يؤدّي إلى الموت، أو تلف بعض أعضاء البدن، محرَّم([60]).

وقد أقيم على جواز التطبير دليلان:

أـ أصالة الإباحة: وذلك إذا لم يكن التطبير موجباً للضرر، ولم يكن هناك مبرِّر لانطباق عنوان ثانويّ عليه، ولم يكن مصادقاً للآية الشريفة: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة: 195)؛ لأنّ فرض الجواز إنّما هو إذا كان يأمن من وصوله إلى الهلاك والموت. وفي هذه الحالة، مع عدم وجود دليلٍ على الحرمة، سوف تجري أصالة الإباحة، التي تؤدي إلى الحكم بالجواز.

ب ـ معتبرة معاوية بن وهب، التي ورد فيها: «كلّ الجزع والبكاء مكروهٌ، سوى الجزع والبكاء لقتل الحسين”عليه السلام”»([61]).

والمراد بالجزع كلّ فعل يقوم به الإنسان بشكل عفويّ، من قبيل: لطم الوجه والرأس، كما ورد في رواية الإمام الباقر”عليه السلام” المتقدّمة، حيث عبَّر عن مثل هذه الأفعال بالجزع، بقوله: «أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل، ولطم الوجه والصدر، وجزّ الشعر»([62]).

ويمكن القول في المحصِّلة: إنّ التطبير في عزاء سيّد الشهداء أبي عبد الله”عليه السلام” من مصاديق الجزع المباح.

2ـ عدم جواز التطبير

ومقابل القول بالجواز هناك رأيٌ آخر يرى المنع من التطبير، حيث يجيب الإمام الخميني على سؤالٍ عن حكم التطبير بأنّه لا يجوز ذلك في الوقت الحاضر.

ويستند هذا الرأي في الواقع إلى دليلين:

أـ إجراءات حاكم الشرع والفقيه الجامع للشرائط

يمكن لأدلة ولاية الفقيه أن تُمضي مثل هذه الإجراءات التي يقوم بها الحاكم. فعند وجود حكم ولائي بعدم جواز أمرٍ معيَّن سيكون ملزماً للمعتقدين بولاية الفقيه، وإنْ كان الحكم الأوّلي له هو الجواز. ومن هنا نرى أن الشيخ النائيني، الذي أفتى بجواز التطبير في ظروف خاصّة، يثبت في مباحثه الاستدلاليّة ودراساته الفقهيّة ـ من قبيل: المكاسب والبيع، وكتاب منية الطالب ـ ولاية الفقيه من طريق مقبولة عمر بن حنظلة، ويقول: «نعم، لا بأس بالتمسُّك بمقبولة عمر بن حنظلة؛ فإنّ صدرها ظاهرٌ في ذلك؛ حيث إنّ السائل جعل القاضي مقابِلاً للسلطان، والإمام”عليه السلام” قرَّره على ذلك، فقال: سألتُ أبا عبد الله”عليه السلام” عن رجلَين من أصحابنا تنازعا في دَيْن أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحلّ ذلك؟…إلى آخره. بل يدلّ عليه ذيلها أيضاً، حيث قال”عليه السلام”: ينظر إلى مَنْ كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضُوا به حَكَماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً. فإنّ الحكومة ظاهرةٌ في الولاية العامة، فإنّ الحاكم هو الذي يحكم بين الناس بالسيف والسَّوْط، وليس ذلك شأن القاضي»([63]).

كما أنّه يبيِّن نظير هذا المطلب في مكانٍ آخر، ويضيف: إنّ الرواية وإنْ كانت واردة في مسألة القضاء، إلاّ أنّها لا توجب رفع اليد عن عموم جواب الإمام”عليه السلام”حين قال: «فإني قد جعلته عليكم حاكماً»؛ وذلك لأنّه إذا لم يتم القبول بأنّ معنى الحكومة هي الولاية العامة فيمكن أن تكون الرواية الأولى شاهداً قويّاً على عموم لفظ «حاكماً» في كلا المعنيين([64]). ومن الواضح أنّه مع هذا المبنى سيكون أيّ حكم صادر عن الولي الفقيه الجامع للشرائط، في أيّ موضوع، نافذاً. ومن تلك الموارد مسألة التطبير. وعلى ضوء ذلك لا يمكن أن تنفي كلتا هاتين النظرتين النظرة الأخرى في حدودها؛ إذ الحكم بالجواز إنّما يكون إذا فُرض أنّ الفقيه الجامع للشرائط لم يصدر حُكْماً بالمنع منه، وخصوصاً مع مراعاة المصالح الإسلامية الأخرى.

ب ـ قانون الأهمّ والمهمّ

يعدّ قانون الأهمّ والمهمّ من المسائل والقواعد الأصولية العملية([65])؛ فأحياناً يحصل تزاحم بين دليلين، لكنْ مع الأخذ بعين الاعتبار أهميّة أحدهما يتمّ ترجيحه على الآخر.

فمثلاً: إذا دار الأمر بين التصرُّف في المال الخاصّ لشخصٍ معين وبين إنقاذ روح إنسان مؤمن، فبناء على هذه القاعدة لا بُدَّ من الحكم بوجوب إنقاذ المؤمن، وتقديمه على حرمة التصرُّف في مال الغير بدون إذنه.

وكذا الأمر إذا كانت الاستفادة من بعض الأمور المباحة سبباً في تسلُّط الدول الاستكبارية والظالمة على المجتمعات الإسلامية، فيمكن للفقيه تطبيق هذه القاعدة، والحكم بتحريم تلك المباحات، كما هو الحال في الحكم الذي أصدره الميرزا الشيرازي في تحريم التنباك، في ما بات يُعرَف بثورة التنباك. ويذكر الشهيد مطهري في ذلك: «وعلى كل حال باب التزاحم يعني باب التناحر بين مصالح المجتمع.

وهنا يمكن للفقيه أن يفتي فتوى يرفع فيها اليد عن بعض الأحكام الأخرى عمليّاً. ومن الواضح أنّ هذا الأمر ليس نسخاً. عندما أرادوا أن يشقُّوا الطريق الذي يمرّ بالقرب من مرقد ابن بابويه إلى الطرف الآخر من المدينة (قم) سُئل المرحوم البروجردي: هل نفعل ذلك أم لا ـ حيث لم يكن أحدٌ في وقته يجرؤ أن يقوم بأيّ شيء دون إذنه المباشر ـ؟ قال: إنْ لم يؤدِّ ذلك إلى هدم مسجدٍ فلا مانع منه، اهدموا البيوت، وأعطوا قيمتها لأصحابها. ومن الطبيعيّ أن هذا تصرُّفٌ. والحال أنّ السيد البروجردي يعلم أكثر من أيّ شخص آخر أنه لا يجوز التصرّف في ملك الغير بغير إذنه. لكنْ عندما تكون مصلحة مدينة بأكملها توجب ذلك لن يكون رضاه شرطاً في جواز التصرُّف»([66]).

ومهما يكن فهذه القاعدة محطّ قبول جميع المجتهدين والفقهاء، سواء كانوا من المعتقدين بولاية الفقيه أم لا. وإذا لوحظ اختلافٌ بينهم فهو اختلاف في تعيين مصداق هذه القاعدة وتطبيقها، لا في أصل ثبوتها.

ولعله يمكن القول: إنّ التطبير أيضاً كذلك. فإذا كان الحكم الأوّلي للتطبير هو الجواز، فمع ملاحظة المقتضيات التي يفرضها العصر الحاضر من التقنية الحديثة والتصوير، التي تساعد كثيراً في توهين الشيعة، وتوجيه أصابع الاتّهام إليهم، وإبعادهم عن ساحة القدس…، يمكن للفقيه أن يمنع من القيام به، ويحرِّمه. لذا نلاحظ أنّ الذين شاهدوا الأفلام المعَدّة والمصوَّرة عن عمليات التطبير في الدول الأجنبية يقرّون بأن هذه الأفلام قد عكست صورة سيّئة جدّاً عن الشيعة، وإنْ كان الملاحظ أن هذه الأفلام المعَدّة مبالَغٌ فيها كثيراً. وفي مثل هذه الحالة التي يتمّ النيل من المفاهيم الشيعية الأصيلة يمكن للحكم الثانوي عندئذٍ أن يكون في المنع من التطبير.

3ـ فلسفة العزاء

من الواضح أنّ أحد أهم المباني الشيعيّة في الأحكام هي مسألة التعامل على أساس المصالح والمفاسد. وهنا نرى من المناسب أن نتأمَّل قليلاً في ملاك ومصلحة الحكم باستحباب العزاء، والإشارة بشكلٍ سريع إلى بعض فلسفتها ورموزها. لذا سنشير في ما يلي إلى علّتين منها:

أـ إظهار المواساة للحقّ

يقول أمير المؤمنين”عليه السلام”: «حقٌّ؛ وباطل. ولكلٍّ أهل…»([67]). والحقّ والباطل هما عبارة عن الحركة المتقابلة للإنسان على امتداد التاريخ، وهما رمز صراع الإنسان بين الشكر أو الكفر. ولعلّ الظهور الأوضح للاختلاف بين الحقّ والباطل إنما يكون فيما إذا كان الإمام”عليه السلام” في طرف الحقّ، ففي هذه الحالة سيكون لتحديد موقعية كلٍّ منهما أثر في دعمه وتثبيته. وقد تمّ تناول هذه المسألة في فلسفة الحقوق في الإسلام.

وعليه فعندما يكون هناك دعمٌ للباطل يقول العلماء بأنّه في هذه الحالة يحرم أخذ الحقّ الشخصي إذا كان من خلال القاضي الظالم. لذا ورد في مقبولة عمر بن حنظلة: «مَنْ تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً، وإنْ كان حقاً ثابتاً له»([68]).

وكذا ورد في روايةٍ: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الظَّلَمة وأعوان الظَّلَمة وأشباه الظَّلَمة، حتى مَنْ برى لهم قلماً، ولاق لهم دواة، قال: فيجتمعون في تابوتٍ من حديد، ثم يرمى بهم في جهنم»([69]).

ونقرأ في روايةٍ أخرى عن أبي عبد الله”عليه السلام” أنّه قال: «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم»([70]).

ومن جهةٍ أخرى نرى أنّه إذا كان الإنسان ملازماً للحقّ وجانبه فإنّ أقلّ الأعمال ستوجب ثواباً له، حتى لو كان من قبيل إيصال رسالة؛ فقد ورد في حديثٍ عن وهب، عن جعفر، عن أبيه’، قال: قال رسول الله|: مَنْ بلّغ رسالة غازٍ كان كمَنْ أعتق رقبة، وهو شريكه في ثواب غزوته»([71]).

وبالإضافة إلى ذلك إذا كان قلب المسلم فرحاً لما ظفر المسلمون به من نصر في الحرب بين الحقّ والباطل، فسوف يحسب له أجر مَنْ شارك في تلك الحرب؛ حيث ورد عن أمير المؤمنين”عليه السلام”، «لمّا أظفره الله بأصحاب الجمل، وقد قال له بعض أصحابه وددتُ أن أخي فلاناً كان شاهدنا؛ ليرى ما نصرك الله به على أعدائك. فقال له”عليه السلام”: أَهَوى أخيك معنا؟ فقال: نعم، قال: فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان، ويقوى بهم الإيمان»([72]).

من هنا فالذي يجري دمعه على خدّه علامة على حبّ الإمام الحسين”عليه السلام”، وتأييده، ورغبته للمشاركة في جبهة الإمام ضدّ مَنْ عاداه…، سيكون له ثواب على فعله ذلك؛ لأنّ هذه الدمعة بمثابة الوقوف في وجه يزيد وأتباعه. وعندما تكون الحرب بين الحقّ والباطل لا يفرق حينئذٍ في أيّ موقع من جهة الحقّ يكون. وقد ورد في رواية الإمام الصادق”عليه السلام” أنّه قال لعبد الله بن حمّاد البصري: «بلغني أنّ قوماً يأتونه [أي قبر الحسين”عليه السلام”] من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم، ونساء يندبنه، وذلك في النصف من شعبان، فمن بين قارئ يقرأ، وقاصّ يقصّ، ونادب يندب، وقائل يقول المراثي، فقلتُ له: نعم، جعلتُ فداك، قد شهدت بعض ما تصف، فقال: الحمد لله الذي جعل في الناس مَنْ يفد إلينا، ويمدحنا، ويرثي لنا، وجعل عدوّنا مَنْ يطعن عليهم، من قرابتنا وغيرهم، يهدرونهم [يهدرون دمهم]، ويقبحون ما يصنعون»([73]).

يكشف الإمام”عليه السلام” في هذه الرواية أنّ فلسفة العزاء هي بيان ومدح طريق أهل البيت”عليهم السلام”، والنيل من أعدائهم، وأنّ ذكر مساوئ أعدائهم، وإعلان البراءة من أعمالهم، من جملة العزاء، حتّى أضحى ذلك عَلَماً ينضوي تحته متَّبعو الحقّ في محاربتهم للباطل.

ب ـ ذكر الشعائر

لقد كان أهل البيت”عليهم السلام” النموذج العيني والعملي للإسلام، وباسمهم وذكرهم بقي القرآن، وبانت الحقيقة. من هنا فقد عمل أعداؤهم على محو ذكرهم من أذهان الناس، ونأوا بهم عن الحياة السياسية والاجتماعية، ومنعوا الشيعة من اللقاء بهم والتردُّد إليهم. وعندما كانوا يرَوْن أنّ ذلك لم يكن يثْنِ الناس عن حبِّهم والارتباط بهم، بل كان يزيد من تعلُّق قلوبهم بأئمتهم”عليهم السلام”…، كانوا يقتلونهم، معتقدين أنّهم بذلك يصلون إلى مآربهم، وينتصرون عليهم، وأنهم يستطيعون أن يبلغوا أهدافهم الشيطانية.

لكنّ التكليف الذي انصبّ على إحياء مجالس العزاء من قبل المعصومين”عليهم السلام” تجلّى بوضوحٍ في هذا الزمان، الذي ظهر فيه هذا التجلّي الكبير للتحدّي ومقارعة الظلم. فقد ورد عن زينب الكبرى أنّها قالت للإمام زين العابدين”عليه السلام”: «وينصبون بهذا الطفّ عَلَماً لقبر سيد الشهداء، لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام»([74]).

وعلى أساس هذه الروايات فقد أصدر الأئمة”عليهم السلام” أمراً يقتضي إبقاء أسماء المعصومين حيّة، وبيَّنوا فضيلة إقامة مجالس العزاء بصفتها واحداً من أساليب إحياء ذكر أهل البيت”عليهم السلام”، كما ورد عن الإمام الصادق”عليه السلام”، في حديثه للفضيل بن يسار: «تجلسون وتتحدَّثون؟ فقال: نعم، فقال: إنّ تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا رحم الله مَنْ أحيا أمرنا. يا فضيل، مَنْ ذكرنا أو ذكرنا عنده ففاضت عيناه، ولو مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر»([75]).

وفي روايةٍ أخرى عن عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن أبيه، قال: قال الرضا×: مَنْ تذكَّر مصابنا، فبكى وأبكى، لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون؛ ومَنْ جلس مجلساً يُحيا فيه أمرنا لم يمُتْ قلبه يوم تموت القلوب»([76]).

إنّ جميع هذه الأمور الواردة في هذه الروايات تمثِّل في الواقع المكانة الخاصة لذكر أهل البيت، والأثر الذي يتركه في استمرار الإسلام الواقعي، والإبقاء على الشيعة.

نسأل الله تعالى أن ينوِّر عيوننا ـ عاجلاً ـ بنور وجود بقية الله الأعظم”عليه السلام”، وننظر في طلعته البهية جمال الأهداف الحسينيّة المباركة، وأنْ نرى في دولته الكريمة الحقيقة التامّة والمظهر الأكمل للثورة الحسينيّة.

 

الهوامش

(*) أستاذٌ في الحوزة والجامعة، وباحثٌ في مجال الفقه الإسلامي.

([1]) ذكر هذه الرواية الحرّ العاملي في كتاب وسائل الشيعة 10: 391، تحت عنوان: «باب استحباب البكاء لقتل الحسين× وما أصاب أهل البيت^». كما ذكرها ابن قولويه في كامل الزيارات: 109 ـ 110، في أبواب متعدِّدة، وتحت عناوين مختلفة. وكذا نقلها العلامة المجلسي في بحار الأنوار 44: 278، تحت عنوان ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمّة^.

([2]) جعفر بن محمد بن قولويه، كامل الزيارات: 20.

([3]) وسائل الشيعة 20: 68.

([4]) الخوئي، معجم رجال الحديث 1: 50. يشار إلى أنّه غيَّر رأيه بعد ذلك، وذهب إلى اختصاص التوثيق بمشايخه المباشرين فقط.

([5]) وسائل الشيعة 10: 392، باب 66 من أبواب المزار وما يناسبه، ح3.

([6]) رجال النجاشي: 219.

([7]) الطوسي، الفهرست: 167.

([8]) رجال النجاشي: 82.

([9]) معجم رجال الحديث 5: 89.

([10]) الفهرست: 182.

([11]) رجال النجاشي: 298.

([12]) الطوسي، اختيار معرفة الرجال 2: 507.

([13]) رجال النجاشي: 323.

([14]) وسائل الشيعة 10: 391، باب 66 من أبواب المزار وما يشابهه، ح1.

([15]) رجال النجاشي: 76.

([16]) الفهرست: 218.

([17]) اختيار معرفة الرجال: 556.

([18]) رجال النجاشي: 108.

([19]) اختيار معرفة الرجال 2: 472.

([20]) المصدر السابق: 473.

([21]) تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 2: 292.

([22]) وسائل الشيعة 10: 391 ـ 392، باب 66 من أبواب المزار، ح2.

([23]) رجال النجاشي: 219.

([24]) الفهرست: 167.

([25]) راجع: وسائل الشيعة 20: 234.

([26]) الفهرست: 70.

([27]) محمد باقر البهبودي، حاشية بحار الأنوار 44: 293.

([28]) وقد ورد السند على الشكل التالي: الحسن بن محمد الطوسي، عن أبيه، عن المفيد، عن ابن قولويه، عن أبيه، عن سعد، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي محمد الأنصاري، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله×.

([29]) وسائل الشيعة 20: 38 (الهامش).

([30]) رجال النجاشي: 123.

([31]) كامل الزيارات: 22؛ وراجع: وسائل الشيعة 20: 340.

([32]) معجم رجال الحديث 22: 35 ـ 36.

([33]) الكليني، الكافي 5: 117؛ وسائل الشيعة 12: 88.

([34]) الفهرست: 151.

([35]) رجال النجاشي: 441.

([36]) الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 1: 182، ح547.

([37]) النجفي، جواهر الكلام 4: 366.

([38]) اختيار معرفة الرجال: 574؛ كامل الزيارات: 201 ـ 202.

([39]) وسائل الشيعة 3: 271.

([40]) لم نعثر على هذه المناقشة في كتاب الجواهر. (المترجم).

([41]) جواهر الكلام 4: 371.

([42]) وسائل الشيعة 15: 583.

([43]) المجلسي، بحار الأنوار 98: 322.

([44]) فتاوى العلماء الأعلام في تشجيع الشعائر الحسينية: 5.

([45]) وسائل الشيعة 12: 211، باب 87 من أبواب ما يكتسب به، ح2.

([46]) المصدر السابق، ح1.

([47]) رجال النجاشي: 52.

([48]) المصدر السابق: 287.

([49]) التوحيدي، مصباح الفقاهة 1: 334 (تقرير أبحاث السيد الخوئي).

([50]) اليزدي، الحاشية على المكاسب 1: 16.

([51]) الأنصاري، المكاسب 1: 174.

([52]) المصدر نفسه.

([53]) وسائل الشيعة 3: 354، ح1.

([54]) المصدر السابق، ح2.

([55]) الأنصاري، المكاسب: 175.

([56]) فتاوى العلماء الأعلام في تشجيع الشعائر الحسينيّة: 6.

([57]) مصباح الفقاهة 1: 338.

([58]) الخميني، الاستفتاءات (فارسي) 2: 27.

([59]) فتاوى العلماء الأعلام في تشجيع الشعائر الحسينية: 6.

([60]) المصدر السابق: 19، 20، 21.

([61]) وسائل الشيعة 2: 923؛ 10: 394.

([62]) وسائل الشيعة 3: 271.

([63]) الخوانساري، منية الطالب 1: 237 (تقرير بحث الشيخ النائيني).

([64]) النائيني، المكاسب والبيع 2: 336.

([65]) المراد به هنا هو تقديم الأهمّ ملاكاً عند حصول تزاحم بين أمرين. (المترجم).

([66]) مرتضى مطهري، الإسلام ومقتضيات الزمان (فارسي) 2: 84.

([67]) نهج البلاغة، الخطبة 16.

([68]) وسائل الشيعة 18: 99، باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح1.

([69]) وسائل الشيعة 12: 131، باب 42 من أبواب ما يكتسب به، ح16.

([70]) المصدر السابق: 128، ح2.

([71]) وسائل الشيعة 11: 14، باب 3 من أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه، ح2.

([72]) نهج البلاغة، الخطبة 12.

([73]) كامل الزيارات: 539.

([74]) المصدر السابق: 263.

([75]) وسائل الشيعة 10: 392، باب 66 من أبواب المزار وما يناسبه، ح1.

([76]) المصدر السابق، ح4.

المصدر نصوص معاصرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky