الاجتهاد: في مجال الاقتصاد الإسلامي فإن الشهيد الصدر قبل أن يشرع بالتطبيقات الفقهية للمذهب الاقتصادي في الإسلام يعالج مسألة “خداع الواقع التطبيقي” في عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي..
(اقتصادنا) أنموذجاً لوحدة الفكر الاقتصادي عند المسلمين
سماحة الدكتور الشيخ علاءالدين زعتري
أمين عام الفتوى بسوريا
حري بالأمم الحية ان تستذكر عظماءها ورجالاتها الذين عاشوا ظروفها ووعوا حاجاتها وعملوا ما بوسعهم من اجل ان ينقلوا واقعها الى المستقبل المشرق الذي تصبوا اليه، تاركين بصمات اصابعهم الواضحة على كل عمل يزاولونه وكل نشاط يشتركون فيه، على الامم ان تتذكر هؤلاء الرجال وتتدارس حياتهم وخصائصهم ونشاطاتهم لأنها بذلك تتذكر وتدرس خصائصها وظروفها والواقع الذي تعيشه والمستقبل الذي تنشده وتهفوا اليه وسبل تحققه.
وعلى هذا الاساس كانت الدراسة لفكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر من الناحية الاقتصادية.
مع نهاية القرن الرابع عشر الهجري ومستهل القرن الخامس عشر للهجرة: اتجه العلماء والمفكرون الإِسلاميون ليعطوا الموضوع الاقتصادي اهتماماً مركزاً، خاصة مع ازدياد المطالبات بضرورة تحديد نظرية إسلامية في الاقتصاد تتجاوز العموميات بالنسبة إلى مسائل النظام الاقتصادي في الإِسلام.
فالاقتصاد عصب الحياة في العالم، والموجه الرئيسي للسياسة الداخلية والخارجية، وموضع اهتمام العائلة الإنسانية على وجه الأرض.
الاقتصاد يضع المنهج الإنمائي في البلاد على الطريق التصاعدي الصحيح، ويدفع بالمجتمع نحو العمل والنشاط والرفاه، ويقضى على ألوان البؤس وأنواع الشقاء.
ومن أبرز العلماء الذين جددوا مسيرة الفكر الإسلامي وأنقذوا العالم خلال فترة الستينات والسبعينات من الفكر الشيوعي: الشهيد السيد محمد باقر الصدر في كتابه «فلسفتنا» و«اقتصادنا».
ألف الصدر كتابه (اقتصادنا) عام 1972م، وقد طبع مرات عديدة وترجم إلى لغات إسلامية وأصبح مرجعاً للدراسات الاقتصادية في الجامعات وعدّ أفضل كتاب يحتوى للمقارنة بين الأنظمة الإسلام، وأثبت بالبراهين الدامغة تفوق الإسلام على جميع الأنظمة في وضع الحلول الناجعة للمشاكل الاقتصادية.
ولقد كتبه ليطرح من خلاله المذهب الاقتصادي في الإسلام، وتطرق في هذا الكتاب إلى تحليل لواقع الأمة الإسلامية ومدى قابلية المجتمع المسلم لتقبل المذاهب الاقتصادية المستوردة والتفاعل معها وبرهن أن المذهب الاقتصادي في الإسلام هو العلاج الوحيد للقضاء على التخلف الاقتصادي في البلاد الإسلامية.
الاقتصاد الإسلامي:
في كتابه “اقتصادنا” يعد الصدر اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام الخطوة الأولى على طريق بناء مجتمع يتبناها ويطبقها حتى تستأنف الأمة مسيرتها الحضارية.
وقد بدأ الصدر كتابه بعرض للاقتصادين الاشتراكي والرأسمالي، وبعدما أتم عملية التفكيك المعرفي لكليهما مؤكدا أن كلا منهما لا يصلح كنظام اقتصادي للبشرية بحكم انطلاقه من منطلق خاطئ، ثم عرض الاقتصاد الإسلامي بخطوطه العامة، وعملية اكتشاف المذهب، ثم طبق ذلك على أحكام الاقتصاد الإسلامي من خلال مسألتي الإنتاج والتوزيع.
وفي مجال الاقتصاد الإسلامي فإن الصدر قبل أن يشرع بالتطبيقات الفقهية للمذهب الاقتصادي في الإسلام يعالج مسألة “خداع الواقع التطبيقي” في عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي.
وهذه النزعة المنهجية تلازم عمل الصدر حتى في أدق التفاصيل، فالحكم الفقهي عنده ليس مفردة ناشزة عن بقية المفردات، بل لا تجد معناها إلا بوضعها في إطارها الكلي وضمن علائقيتها مع بقية المفردات، فهو يرى أن الوقائع لا يمكن تكرارها كما هي لأن عالم الزمان والمكان والشروط الموضوعية التي تحكم أي واقع متحولة ومتغيرة ضرورة، وعليه فإن الإنسان الذي يعيش ذلك الواقع لابد له عن التأثر بخصائصه، فتكون تجربته التطبيقية مقيدة بالروح الحاكمة على ذلك الواقع، وهذا ما يؤكد نسبية الواقع التطبيقي.
ويرى الصدر أنه لابد من المزاوجة بين النصوص والواقع التطبيقي للاقتصاد الإسلامي في عصر النبوة على أن تكون القيمومة والحاكمية للنص الثابت، لأن النصوص التشريعية للنظرية أقدر على تصوير المذهب من الواقع التطبيقي، لأن التطبيق نص تشريعي في ظرف معين، وقد لا يستطيع أن يعكس المضمون الضخم لذلك النص ولا أن يصور مغزاه الاجتماعي كاملا، فيختلف إلهام التطبيق ومعطاه التصوري للنظرية عن المعطى الفكري للنصوص التشريعية نفسها. ومرد هذا الاختلاف إلى خداع التطبيق لحواس الممارس الاكتشافية نتيجة ارتباط التطبيق بظروف موضوعية خاصة.
الجانب الاقتصادي:
كتب السيد الصدر مكتشفاً «اقتصادنا» ومبرمجاً «صورة تفصيلية عن اقتصاد المجتمع المسلم».
ويحتل كتاب “اقتصادنا” للإِمام محمد باقر الصدر موقعاً علمياً مرموقاً، وقد أثبت مؤلفه قدرة عالية في مناقشة النظريات الاقتصادية في الماركسية والرأسمالية.
حيث أظهر المذهب الاقتصادي الإسلامي، وبين أحكامه الاقتصادية المبثوثة في الأحاديث النبوية وتقريرات الفقهاء.
وطرح قوانين الاقتصاد التي تنظم المجتمع بشكل واضح، وجوهر خطابه الاقتصادي يتشكل من هدفين:
أـ وفرة الانتاج.
ب ـ عدالة في التوزيع.
إن مجمل طرحه الاقتصادي يقوم على التفاعل الحي بين هاتين المسألتين الحيويتين.
ويمكن جمعهما في أصل واحد:
تكييف الوجود لصالح الإنسان بواسطة التشريع.
ولنسمعه يقول: «إن الاقتصاد الإسلامي يتفق مع كل المذاهب الاجتماعية في ضرورة الاهتمام بالإنتاج وبذل كل الأساليب الممكنة في سبيل تنميته وتحسينه وتمكين الإنسان الخليفة من السيطرة على الارض.. ويقوم بتوزيع الثروة.. على أساسين:
أحدهما: العمل.
والآخر: الحاجة.
ويستأصل كل اشكال الانتاج الرأسمالي»([1]).
وعند المقارنة بين النظم الاقتصادية يُلاحظ: أن أشكال الإنتاج الرأسمالي تكيّف الوجود لصالح «فرد»، فيما أشكال الإنتاج الماركسي تكيّف الإنسان لصالح الوجود، أما الإسلام فهو القادر على تكييف الكون لصالح الإنسان.
وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران كتب الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر كتابه:
خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي.
حيث ربط فيه بين الاقتصاد والحياة.
فمبدأ الخلافة العامة الذي نادى به الإسلام يؤمن بأن الله تعالى هو المالك الحقيقي الوحيد للكون وكل ما فيه من ثروات وأنه قد استخلف الإنسان على ما يملك ليتصرف الإنسان في الأمانة التي يتحملها وفقاً لأوامر الله الذي استخلفه على الكون وائتمنه على كل ما يحويه من خيرات وطيبات.
وتحدث عن الإنتاج وأهميته في الاقتصاد الإسلامي
حينما يطرح الإسلام تنمية الإنتاج فإنه يضعها ضمن إطارها الحضاري الإنساني ووفقا للأهداف العامة لخلافة الإنسان على الأرض.
ومن هنا يختلف عن المذاهب الاجتماعية المادية في التقييم والمنهج اختلافا كبيرا فالنظام الرأسمالي مثلا يعتبر تنمية الإنتاج هدفا بذاتها بينما الإسلام لا يرى تجميع الثروة هدفا بذاته وإنما هو وسيلة لإيجاد الرخاء والرفاه وتمكين العدالة الاجتماعية من أن تأخذ مجراها الكامل في حياة الناس وشرطا من شروط تحقيق الخلافة الصالحة على الأرض وأهدافها الرشيدة في بناء مجتمع التوحيد.
فالإنتاج لخدمة الإنسان وليس الإنسان لخدمة الإنتاج.
وتلاحظ إنسانية الاقتصاد الإسلامي وارتكازه على الإيمان بملكية الله العامة، وخلافة الإنسان عنه هو وحده الذي يبرز تقاسم الثروة المنتجة بين الأفراد والجماعة بالمنطق القرآني القائل ” آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه “
وعن التوزيع: فإنه يقوم على أساسين أحدهما العمل والآخر الحاجة.
وعن مسألة التبادل: يمنع من ادخار النقد واكتنازه، ويتجه العمل لمنع أي كسب تولده الأثمان والإحتكارية للنقد بما في ذلك الفوائد الربوية.
وعند الاستهلاك وضع الإسلام قيوداً على الإنفاق لإشباع الحاجات وذلك بتحريم الإسراف وتحريم التبذير والإسراف.
وعن مسؤولية التوازن الاجتماعي فهي تعني:
أولاً: توفير حد أدنى من اليسر والرفاه لكل أفراد المجتمع.
ثانياً: التحديد في الإنفاق والمنع من تجاوز مستوى المعيشة بصورة حادة المستوى.
ثالثاً: الحيلولة من احتكار الثروة وتكدس الأموال في أيدي طبقة خاصة والسعي من أجل توفير إمكانات العمل وفرص الإنتاج للجميع.
وعن مكانة الاقتصَاد الإسلامي يشير الشهيد الصدر بأن الاقتصاد جُزء مِنْ كُل: وبالتالي يجب أن نعي الاقتصاد الإسلامي ضمن الصيغة الإسلامية العامة، التي تنظم شتى نواحي الحياة في المجتمع.
والاقتصاد الإسلامي مترابط في خطوطه وتفاصيله، وهو بدوره جزء من صيغة عامة للحياة، وهذه الصيغة لها أرضية خاصة بها.
وتتكون التربة أو الأرضية للمجتمع الإسلامي، ومذهبه الاجتماعي من العناصر التالية:
أولاً: العقيدة، وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصورة عامة.
وثانياً: المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء، على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.
وثالثاً: العواطف والأحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها، إلى صف تلك المفاهيم، لأن المفهوم ـ بصفته فكرة إسلامية عن واقع معين ـ يفجر في نفس المسلم شعوراً خاصاً تجاه ذلك الواقع، ويحدد اتجاهه العاطفي نحوه.
لا نستطيع في عرضنا هذا، أن نبرز جميع أوجه الارتباط في الاقتصاد الإسلامي، وأوجه الارتباط والتفاعل بينه وبين سائر ما يتصل به من خصائص وعناصر إسلامية أخرى، وإنما نقتصر على نماذج من ذلك كما يلي:
1- ارتباط الاقتصاد بالعقيدة، التي هي مصدر التموين الروحي للمذهب، فإن العقيدة تدفع المسلم إلى التكيف وفقاً للمذهب، بوصفه نابعاً من تلك العقيدة، وتضفي على المذهب طابعاً إيمانياً وقيمة ذاتية، بقطع النظر عن نوعية النتائج الموضوعية التي يسجلها في مجال التطبيق العملي، وتخلق في نفس المسلم شعوراً بالاطمئنان النفسي في ظل المذهب، باعتباره منبثقاً عن تلك العقيدة التي يدين بها. فقوة ضمان التنفيذ، والطابع الإيماني والروحي، والاطمئنان النفس.
2- ارتباط الاقتصاد الإسلامي بمفاهيم الإسلام عن الكون والحياة، وطريقته الخاصة في تفسير الأشياء، كالمفهوم الإسلامي عن الملكية الخاصة وعن الربح. فالإسلام يرى أن الملكية حق رعاية يتضمن المسؤولية، وليس سلطاناً مطلقاً، كما يعطي للربح مفهوماً أرحب وأوسع مما يعنيه في الحساب المادي الخالص، فيدخل في نطاق الربح ـ بمدلوله الإسلامي ـ كثير من النشاطات التي تعتبر خسارة بمنظار آخر غير إسلامي.
3- ارتباط الاقتصاد الإسلامي بما يبثه الإسلام في البيئة الإسلامية من عواطف وأحاسيس، قائمة على أساس مفاهيمه الخاصة، كعاطفة الأخوة العامة، التي تفجر في قلب كل مسلم ينبوعاً من الحب للآخرين، والمشاركة لهم في آلامهم وأفراحهم.
حياة الشهيد الصدر:
ولد السيد الشهيد في الخامس و العشرون من شهر ذي القعدة لسنه 1353 هـ، (المصادف 2/3/1933 م) في مدينه الكاظمية.
و قد حرم من فيض الأبوة وهو في طفولته المبكرة، لذا نشأ وترعرع تحت رعاية أخيه الأكبر وعناية والدته المكرمة.
فى سنه 1378 ه’.ق (1958 م) أنهى السيد الشهيد جميع مراحل دراسته الحوزوية، وكان قد بلغ الخامسة و العشرين من عمره.
و بعد سنه واحده شرع بتدريس (خارج الأصول) الذي يعبر عن أعلى مراحل التدريس في الحوزة العلمية.
أهم نشاطاته:
زاول التدريس في أعلى المراحل العلمية في حوزة النجف الأشرف العلمية لمده تجاوزت العشرين سنه.
أثرى الأمة بالعطاء الفكري والعلمي عبر مجلة (الأضواء) و غيرها.
أثرى كليتى أصول الدين، والفقه بالعطاء الفكري و العلمي.
ترك عشرات المؤلفات القيمة في حقول: الاقتصاد والفلسفة والمنطق وعلم الأصول وعلم الفقه وأصول العقائد وغيرها.
من مؤلفاته:
اقتصادنا: وهو دراسة موضوعية مقارنة، تتناول بالنقد والبحث المذاهب الاقتصادية للماركسية والرأسمالية والإسلام، في أسسها الفكرية وتفاصيلها.
المدرسة الإسلامية: وهي محاولة لتقديم الفكر الإسلامي في مستوى مدرسي ضمن حلقات متسلسلة صدر منها:
أ ـ الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية.
ب ـ ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي؟.
البنك اللاربوي في الإسلام: وهذا الكتاب أطروحة للتعويض عن الربا، ودراسة لنشاطات البنوك على ضوء الفقه الإسلامي.
الإسلام يقود الحياة: ألف منه ست حلقات في سنة 1399 هـ، منها:
صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي.
خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي.
الأسس العامة للبنك في المجتمع الإسلامي.
أقوال العلماء فيه:
قال فيه صاحب كتاب أعيان الشيعة: هو مؤسس مدرسة فكرية إسلامية أصيلة تماماً، اتسمت بالشمول من حيث المشكلات التي عنيت بها ميادين البحث، فكتبه عالجت البُنى الفكرية العليا للإسلام، وعنيت بطرح التصور الإسلامي لمشاكل الإنسان المعاصر.
ومن النتاجات المهمة:
1 ــ فلسفتنا: ألف هذا الكتاب في 29 ربيع الثاني 1379هــ أي سنة 1959م. إن هذا الكتاب دراسة دقيقة وموضوعية للأسس التي تقوم عليها الفلسفة الماركسية ودياليكتيتها ودحضها علمياً رصينا. يقول الشهيد (رض) “فلسفتنا هو مجموعة مفاهيمنا الأساسية عن العالم وطريقة التفكير فيه ولهذا كان الكتاب”.
2 ــ اقتصادنا: لقد عالج السيد الشهيد المشاكل الفلسفية الداخلية في الصراع بكتابة فلسفتنا، ولكن الصراع الذي كان يتناول في جملة ما يتناول النظريات الاقتصادية إضافة للإشكالات الفلسفية وتطرح الشيوعية نظرياتها وكذلك تفعل الرأسمالية ويبقى الإسلام مغبوناً بين هذه الاتجاهات ليدخل عنصراً فاعلاً في ساحة الصراع وسلاحاً بيد الإسلاميين في معركتهم مع الكفر والانحراف.
وبعد ثلاث سنوات من تأليف كتاب فلسفتنا طرح الشهيد كتاب المدرسة الإسلامية لعموم أبناء الشعب، وقد ركز كتاب المدرسة الإسلامية على مبحثين مهمين هما:
1 ــ الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية.
2 ــ ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي: وقد تناول في هذا البحث ما يلي: أ ـ ما هو نوع الاقتصاد الإسلامي، ب ـ الاقتصاد الإسلامي كما نعوض به.
وللشهيد الكريم مؤلفات كثيرة تتجاوز الثلاثين مؤلفاً، منها:
1 ــ البنك اللاربوي في الإسلام.
2 ــ الأسس المنطقية للاستقراء.
3 ــ بحث حول المهدي.
4 ــ بحث حول الولاية.
5 ــ دروس في علم الأصول.
6 ــ بحوث في العروة الوثقى (أربع مجلدات).
7 ــ تعليقة على منهاج الصالحين.
8 ــ لمحة فقهية عن دستور الجمهورية الإسلامية.
9 ــ المرسل والرسول والرسالة.
10 ــ غاية الفكر في الأصول (خمس أجزاء).
وعن الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي يقول السيد الشهيد الصدر:
يتألف الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي من أركان رئيسية ثلاثة يتحدد وفقاً لها محتواه المذهبي، ويتميز بذلك عن سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى في خطوطها العريضة. وهذه الأركان هي كما يلي:
1 ـ مبدأ الملكية المزدوجة.
2 ـ مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود.
3 ـ مبدأ العدالة الاجتماعية.
وللمذهب الاقتصادي في الإسلام صفات أساسيتان، تشعان في مختلف خطوطه وتفاصيله، وهما: الواقعية والأخلاقية.
وعن مسؤولية الدولة من الناحية الاقتصادية يشير الشهيد الصدر إلى : الضمان الاجتماعي، والتوازن الاجتماعي.
تحديد المفاهيم في المنهج العلمي عند الشهيد الصدر:
إذ إن بعض المفاهيم العلمية قد يكون لها معنى محدد واضح مستقر ومتفق عليه بين المتخصصين في علم ما، كالاصطلاحات التي لها معاني محددة. وبعض المفاهيم قد لا يكون هناك اتفاق بين المتخصصين حول معناه، بحيث يفهم كل واحد منهم معنى مختلفاً.
وقد كان الإمام الصدر دقيقاً وواضحاً في تحديد المفاهيم التي استخدمها.
إذ أشار إلى أن بعض المفاهيم حملت شحنة تاريخية من مجتمعات أخرى، وتطبيقها على واقعنا يؤدي إلى مسخ الحقائق وتشويهها. كما أن بعض المفاهيم حمل شحنة ايديولوجية بشكل مستتر أو بشكل ضمني غير واضح، لذلك لا بد للباحث أن يدقق في معاني المفاهيم، وان لا يستخدم المفهوم في غير معناه الذي وضع له.
يقول الإمام الصدر في هذا الصدد: «وبودي أن أقول هنا وفي المقدمة شيئاً عن كلمة «اقتصادنا» وما اعنيه بهذه الكلمة حين أطلقها؛ لأن كلمة الاقتصاد ذات تاريخ طويل في التفكير الإنساني. وقد اكسبها ذلك شيئاً من الغموض نتيجة للمعاني التي مرت بها. وللازدواج في مدلولها بين الجانب العلمي من الاقتصاد والجانب المذهبي. فحين نريد أن نعرّف مدلول الاقتصاد الإسلامي بالضبط، يجب أن نميّز علم الاقتصاد عن المذاهب الاقتصادي. لننتهي من ذلك إلى تحديد المقصود من (الاقتصاد الاسلامي)»([2]).
هنا يحاول الشهيد الصدر ان يزيل الغموض والالتباس فيعرف علم الاقتصاد تعريفاً دقيقاً واضحاً ثم يعرّف المذهب الاقتصادي فيقول: علم الاقتصاد: هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الاحداث والظواهر بالاسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها.
وأما المذهب الاقتصادي: فهو عبارة عن الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية، وحل مشاكله العملية.
ويستمر في تعريف كلمة «الاقتصاد الإسلامي» فيقول: «.. نحن حين نطلق كلمة الاقتصاد الإسلامي لا نعني بذلك علم الاقتصاد السياسي مباشرة، لان هذا العلم حديث الولادة نسبياً، ولأن الإسلام دين دعوة، ومنهج حياة، وليس من وظيفته الآلية ممارسة البحوث العلمية. وإنما نعني بـ «الاقتصاد الإسلامي» المذهب الاقتصادي للإسلام الذي تتجسد فيه الطرقة الإسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية بما يملك هذا المذهب ويدل عليه من رصيد فكري([3]).
إن وظيفة العلم لا تقتصر على الوصف والتقرير فقط. فالعلم يهدف إلى فهم وتفسير الظواهر الاجتماعية. اما عملية تغيير الواقع وتقويمه بالمقاييس الأخلاقية فليست من العلم في شيء. إنها ترتبط بالمذهب الاقتصادي. وعلى الباحث أن يكون حذراً في استخدام المفاهيم وتعريفها. فقد تكتسب المفاهيم مدلولات جديدة.
«..فالكلمة حتى إذا كانت محتفظة بمعناها اللغوي الأصيل على مر الزمن، قد تصبح خلال ملابسات اجتماعية معينة، بين ملدولها فكر خاص أو سلوك معين، مشروطة بذلك الفكر أو السلوك حتى ليطغى أحيانا مدلولها السيكولوجي على معناها اللغوي الأصيل»([4]).
البعد الإنساني في الاقتصاد الإسلامي
وهناك نقطة مهمة لا بد من الإشارة إليها وهي أن الإسلام لا يكتفي بالجانب الموضوعي في تنظيم الحياة الاقتصادية، إنما يهتم بالعنصر الروحي والفكري، أو بتعبير آخر البعد الأخلاقي أو البعد الإنساني.
وكما يقول السيد الصدر «هناك المزاج النفسي العام للمجتمع الإسلامي. وهذا لا يدخل في الحساب العلمي. لان هذا المزاج ليس شيئاً مادياً له درجة محدودة أو صيغة معينة، يمكن أن تفترض مسبقاً وتقام على أساسها النظريات العلمية»([5]).
«فعلم الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يولد ولادة حقيقية، إلا إذا جسّد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع، بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودرست الأحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة»(2).
وما لم يتجسد الاقتصاد الإسلامي في مجتمع معين، ولم يطبق في الحياة الواقعية، لا يمكن وضع علم الاقتصاد الإسلامي. إذ إن العلم لا ينشأ من فراغ، والنظريات العلمية لا تصاغ على أسس افتراضية، بل يجب أن تؤخذ من الواقع المحسوس. والموضوعية في البحث تتطلب أن نقبل الواقع كما هو، وان نبني على أساس تحليل ما هو موجود، لا على ما عندنا من أفكار ودراسات أو أجزاء من دراسات او فروض او نظريات مسبقة. انما يجب ان تنطلق النظرية بالاستقراء العلمي وبالطريقة التجريبية من الواقع الذي نعيشه، وندرس ذلك الواقع دراسة منهجية ثم تصاغ الفكرة صياغة علمية. وذلك بملاحظة الظواهر الاجتماعية ملاحظة دقيقة والسير في البحث خطوة خطوة حتى تنتهي بالقوانين التي تفسر الظواهر الاقتصادية والاجتماعية. والعلم يشمل كل نظرية تفسر واقعاً من الحياة الاقتصادية بصورة منفصلة عن فكرة مسبقة او مثل اعلى للعدالة.
سماته الإمام الصدر الفكرية:
1 ـ السعة والشمول: حيث شملت فعاليات الشهيد الصدر العلمية مجمل العلوم الاسلامية ذات العلاقة بالعقيدة الاسلامية والشريعة الاسلامية والمجتمع الاسلامي.
وعلى نحو الاجمال فقد تناول بالبحث: الفقه، والاصول، والفلسفة، والعقائد، والحديث، والرجال، والتاريخ الاسلامي، وفلسفة التاريخ، والمنطق، والنظام الاسلامي، والاقتصاد السياسي والمجتمع الاسلامي. وقد كان يتناول الموضوع الواحد من خلال ابعاد متعددة ليعطي للشمول سعة وانطلاقا.
2 ـ التحقيق والتجديد والحاجة: ولم يهتم الشهيد الصدر بالشمول كهدف وانما كان العمق في التناول للموضوعات والتجديد فيها هو الهدف من وراء مختلف الابحاث التي كتبها بحيث يلاحظ الباحث والمطالع لها الشئ الجديد دائما او النكهة الجديدة على الاقل.
بالاضافة الى انه يحاول ان يفتش في ابحاثه عن نقاط الفراغ ليملأها ويثري بذلك الابحاث الاسلامية.
3 ـ استكشاف النظرية الى جانب التفصيل: ولم يكتف الشهيد الصدر بالعمق كهدف اساس بل وضع الى جانبه هدفا آخر كان يسعى اليه وهو استكشاف النظريات العامة التي يمكن ان تفسر مجموعة من المفردات وتكون قاعدة يعتمد عليها في الحالات المشابهة. فلم يقتصر في بحثه العلمي على الجزئيات وتعميقها بل كان ينطلق منها الى الكليات التي تجمعها وتربط بينها مما كان يضفي على العمق والتجديد في آن واحد بعدا جديدا مهما يساهم في دعم المواجهة الحضارية التي يخوضها الاسلام مع الحضارات الجديدة.
4 ـ الموضوعية في البحث العلمي: وقد كانت الموضوعية طابعا مميزا لأعماله العلمية بحيث كان يتناول القضايا المختلفة ومن القضايا التي يتحكم بها العرف والذوق الفني بالتحليل العلمي الموضوعي وينتهي بها الى نتائج رائعة تفسرها تكون العرف العام والذوق الانساني، فهو يدرسها كظاهرة اجتماعية او لغوية كما يدرسها العالم في مختبره، ولا يبتعد بها عن اطارها الخاص والارضية التي احتضنتها ونمت فيها.
5 ـ الواقعية والتجربة: والواقعية صفة اخرى يتميز بها البحث العلمي للشهيد الصدر، بل سوف نجد هذه الواقعية اساسا لكل بحث علمي في الشريعة او المجتمع.
الواقعية التي تعني الانطلاق من الواقع القائم، واستنطاق القرآن والشريعة والقوانين العلمية والتاريخية في تفسيره ومعالجته [للمواضيع المبحوثة] و التمييز بين حالة تفسير النص بالواقع، او تفسير النص مع الاغماض عن الواقع وفصله عن اطاره وهدفه وحالة تفسير الواقع بالنص ومعالجته من خلال النص الشرعي والسعي لتحقيق هدف النص الذي ورد لمعالجة هذا الواقع.
وقد اعطى لهذه الواقعية بعدا اعمق حين ادخل عنصر نتائج التجربة البشرية كطرف في البحث والمقارنة، حيث تصبح النظرية التي يراد استنباطها اكثر وضوحا وواقعية كما نشاهد ذلك في مجموعة من اعماله العلمية مثل كتاب فلسفتنا واقتصادنا، والتفسير الموضوعي حيث اعتمد اسلوب المقارنة مع حصيلة التجارب البشرية المعاصرة اساسا في فهم النظرية الاسلامية.
6 ـ الاهتمام بالشكل الى جانب المضمون: وقد اهتم السيد الشهيد بالشكل ـ بالاضافة الى اهتمامه بالمضمون ـ لأن الشكل يخدم المضمون في اهدافه. بالاضافة الى ان السيد الشهيد كان يكتب للامة بكل مستوياتها ولم يكن يكتب لنفسه او للنخبة العلمية فحسب.
7 ـ الممارسة الميدانية والاجتماعية: ولم يكن الشهيد الصدر يكتب عن الواقع من خلال التصور للواقع او تخيله او من خلال ما يقرأ عنه بل كان يعايش الواقع في كثير من الاحيان بعقله وروحه من خلال الممارسة والمشاهدة الحسية لأنه كان يتحرك ضمنه ويتفاعل معه يوميا من خلال الصراع السياسي والاجتماعي المستمر.
التنمية الاقتصادية في فكر الإمام الصدر:
(ان حاجة التنمية الاقتصادية إلى منهج اقتصادي ـ كما يقول الشهيد الصدر ـ ليست مجرد حاجة إلى اطار من اطر التنظيم الاجتماعي تتبناه الدولة فحسب، لكي يمكن ان توضع التنمية ضمن هذا الاطار أو ذاك بمجرد تبني الدولة له والتزامها به. بل لا يمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضد التخلف ان تؤدي دورها المطلوب الا إذا اكتسبت اطاراً يستطيع ان يدمج الاُمّة ضمنه وقامت على اساس يتفاعل معها.. فحركة الاُمّة كلها شرط اساسي لانجاح اي تنمية واي معركة شاملة ضد التخلف لان حركتها تعبير عن نموها ونمو ارادتها وانطلاق مواهبها الداخلية فالتنمية للثروة الخارجية والنمو الداخلي للامة يجب ان يسيرا في خط واحد).
ويرى الشهيد الصدر ان من بين تجارب التنمية المتعددة والمختلفة في هذه المنطقة لا توجد تجربة واحدة توفرت لها عناصر الاستجابة والحماس الضرورين لخوض المعركة ضد التخلف. لان اياً من هذه التجارب لم تشتمل على منهج تنموي مستقل وظلت التبعية ـ في المنهج على الاقل ـ سمة كل هذه التجارب.
كما نلاحظ ان نظرية الشهيد الصدر في التلازم بين التنمية للثروة الخارجية والنمو الداخلي للامة هو من الحقائق التي لا يقتصر انطباقها على حالة الشعوب الإسلامية بل يرى ان «تجربة الإنسان الاوروبي الحديث هي بالذات تعبير تاريخي واضح عن هذه الحقيقة.. وان مناهج الاقتصاد الاوروبي كاطارات لعملية التنمية لم تسجل نجاحها الباهر على المستوى المادي في تاريخ اوروبا الحديث الا بسبب تفاعل الشعوب الاوروبية مع تلك المناهج ومتطلباتها واستعدادها النفسي اللامتناهي خلال تاريخ طويل لهذا الاندماج والتفاعل.
لذلك فان منهج الشهيد الصدر للبديل الاسلامي لمشروع النهوض والتنمية اتسم بطابع السجال الشامل مع الفكر الغربي ومناهجه واطره. ورأى ان الاُمّة الإسلامية لا يمكن ان تنتزع استقلالها الاقتصادي ونموذجها المستقل للتنمية وان تنتصر في معركتها ضد التخلف والتخلف الاقتصادي الا من خلال تعبئة فكرية وروحية ونفسية شاملة تستطيع من خلالها ان تواجه كل اشكال الضغط والمصادرة التي مارسها وسوف يمارسها الاقتصاد الرأسمالي الغربي ـ بالتأكيد ـ ضد اي محاولة لانتاج تنمية اسلامية مزدهرة ومستقلة..
ان الجديد النوعي في منهج الشهيد الصدر هو ادراكه استحالة الانتصار في معركة التنمية المستقلة بدون نسق من القيم المستقلة والمستمدة من عقيدة الاُمّة نفسها.. فقيمة الاستهلاك ـ مثلاً ـ وهي من ابرز قيم المجتمع الغربي المتقدم اقتصادياً حين تتسلل إلى البلاد المتخلفة وتصبح قيمة بارزة من قيم مجتمعاتها فان معركة الاستقلال الاقتصادي تصبح مستحيلة اذ كيف بوسع مجتمع يعلي من قيم الاستهلاك ويحرص عليه ان يخوض معركة ناجحة في التحرر والانفصال عن الدول المنتجة والمصدرة للسلع الاستهلاكية.
لذلك قام منهج الشهيد الصدر على التلازم بين فعل التنمية بوصفها معركة مع تحديات التخلف والتبعية ونمو الحوافز الروحية والفكرية للامة مما يتناسب مع تحمل الضغوط والتحديات التي تفرضها هذه المعركة.
ولقد ادرك الشهيد الصدر في هذا المجال ان الاُمّة لكي تخوض معركتها ضد عوامل التخلف والتبعية الاقتصادية لابد لها ان تستعيد ثقتها بمخزونها الحضاري الكبير.. وان الاُمّة الإسلامية بفعل الهزائم والتجارب الاستعمارية القاسية وبفعل التفكك الذي اصاب وحدتها السياسية فقدت الكثير من عناصر الثقة بذاتها ومكوناتها وداهمتها مشاعر الدونية تجاه مدنية الغرب العملاقة فاستسلمت كثير من قطاعاتها لهذه التبعية ولما يسميه الشهيد الصدر (الامامة الفكرية للغرب).
لذلك فان مشروع الشهيد الصدر للنهوض والتنمية لم يكتف بالدعوة إلى استعادة العقيدة الإسلامية إلى حياة الاُمّة بل خاض مقارعة طويلة ذات طابع فكري فلسفي شامل ضد البنية الفكرية للغرب وضد ادعاءات الصحة المطلقة لنظرياته ومناهجه وشكلت حصيلة هذه المقارعة التي تتضمنها كتبه (فلسفتنا) و(اقتصادنا) و(البنك اللاربوي) و(الاسس المنطقية للاستقراء) وغيرها من المداخلات والابحاث الاساس لكسر حدة الانبهار بفكر الغرب ونظرياته واعادة الثقة للنخب المسلمة بالمخزون الحضاري والمعرفي للامة الإسلامية مما يؤهلها ان تستعيد مكانتها ودورها المصادر في تقرير مصيرها والمساهمة في تقرير النظام العالمي نفسه. فها هي النظريات الغربية سواء في مجال الفلسفة أو الاقتصاد والسياسة تتهاوى امام النقد العلمي الرصين وتعود إلى حجمها الطبيعي واطارها النسبي من الصحة ولا تعود مطلقة وقابلة للتعميم في كل زمان ومكان.. وها هو الإسلام يملك في المقابل امكانات غير محدودة لتأطير حركة النهوض والتحرر الإسلاميين في مجالات المعرفة والتطبيق.
ان الشهيد الصدر بطرحه للاسلام منهجاً شاملاً لحركة التحرر والنهوض والتنمية على مستوى العالم الاسلامي يكون قد وضع مشكلة التنمية في اطارها الصحيح وواجه ازمة التخبط التي تعاني منها تجارب التنمية الفاشلة في العالم العربي والاسلامي.. ومن جهة اخرى يكون قد ارسى اساساً نظرياً وتطبيقياً لملء الفراغ الذي يشكون منه الخطاب الاسلامي المعاصر تجاه احد اهم اسئلة العصر وتحدياته التي هي مسألة التنمية.
ومن المفاهيم السامية انطلقت السياسة الاقتصادية الإسلامية لتستند إلى أسس أخلاقية تعالج الفقر والباطلة، وتسعى إلى توفير العمل، وعمارة الأرض، واستغلال الموارد، مع عدم فرض ضرائب على المحتاجين والمعوزين وأخذها منهم بالقوة، ويقول أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بشأن ذلك لعامله مالك الأشتر:
(وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة).
فإن السياسة الاقتصادية الإسلامية ترتكز على الجانب الأخلاقي في كل جوانبها، وكذلك في تخطيطها، لأنها تعتمد على مبادئ أساسية أهمها: مبدأ العدالة الاجتماعية مع الجميع مسلمين وغير مسلمين، ومبدأ الحرية لأنها حق إنساني طبيعي، ومبدأ الملكية المزدوجة.
وهي مبادئ أثبتت واقعيتها ومصداقيتها بين مبادئ المذهبين (الرأسمالي، والاشتراكي)، اللذين اعترفا بخطئهما(النظري والعملي) المتعلق بنظرية (الشكل الواحد للملكية)، وأجازا بحدود معينة الأشكال الأخرى للتملك، بعد الاصطدام بواقع التطبيق وبروز المشاكل والأزمات الاقتصادية لكليهما. هذه الواقعية الذائبة في المذهب الاقتصادي الإسلامي، إضافة إلى أخلاقياته جعلته يتمايز عن المذاهب الاقتصادية الأخرى، ويوضح المفكر الإسلامي محمد باقر الصدر ذلك في كتابه (اقتصادنا) ص 306 بقوله:
ـ (إن الإسلام يهتم بالعامل النفسي، خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق أهدافه وغاياته… يعني بوجه خاص بمزج العامل النفسي والذاتي بالطريقة التي تحقق تلك الغايات. فقد يؤخذ من الغني مال لإشباع الفقير مثلاً، ويتأتى بذلك للفقير أن يشبع حاجاته، وتوجد بذلك الغاية الموضوعية التي يتوخاها الاقتصاد الإسلامي من وراء مبدأ التكافل. ولكن هذا ليس هو كل المسألة في حساب الإسلام، بل هناك الطريقة التي تم بها تحقيق التكافل العام.
لأن هذه الطريقة قد تعني مجرد استعمال للقوة في انتزاع ضريبة من الأغنياء لكفالة الفقراء. وهذا وإن كفى في تحقيق الجانب الموضوعي من المسألة، أي إشباع الفقير… ولكن الإسلام لا يقر ذلك مادامت طريقة تحقيق التكافل مجردة عن الدافع الخلقي، ولعامل الخير في نفس الغني. ولأجل ذلك تدخّل الإسلام، وجعل من الفرائض المالية ـ التي استهدف منها إيجاد التكافل ـ عبادات شرعية، يجب أن تنبع عن دافع نفسي نيّر يدفع الإنسان إلى المساهمة في تحقيق غايات الاقتصاد الإسلامي بشكل واع مقصود طلباً بذلك رضا الله تعالى والقرب منه). ويضيف الإمام الصدر:
ـ (ونتيجة لشعور الإنسان المسلم بتحديد داخلي يقوم على أساس أخلاقي لصالح الجماعة التي يعيش ضمنها يحس بارتباط عميق بالجماعة التي ينتسب إليها وانسجام بينه وبينها بدلاً من فكرة الصراع التي سيطرت على الفكر الأوروبي الحديث). ويؤكد أيضاً:
ـ (إذا اُلبست الأرض إطار السماء واُعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة، وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي). ويمضي الإمام الصدر في تحليله الرائع قائلاً بمبدأ:
ـ (الارتباط بين المذهب الاقتصادي والسياسة المالية للدولة، إلى درجة تسمح باعتبار السياسة المالية جزءاً من برنامج المذهب الاقتصادي للإسلام. لأنها وضعت بصورة تلتقي مع السياسة الاقتصادية العامة، وتعمل لتحقيق أهداف الاقتصاد الإسلامي. فالسياسة المالية في الإسلام لا تكتفي بتموين الدولة بنفقاتها اللازمة، وإنما تستهدف المساهمة في إقرار التوازن الاجتماعي والتكافل العام. ولهذا كان من الضروري اعتبار السياسة المالية جزءاً من السياسة الاقتصادية العامة).
وهكذا فإن الاقتصاد الإسلامي يبدأ بواقعيته وموضوعيته لحل المشاكل والأزمات، التي تنشأ بعد التطبيق، واضعاً أمامه مبادئه الأخلاقية في كل حركة يخطوها باتجاه الأهداف المرجوّة، لهذا تمايّز عن (المناهج الاقتصادية) الأخرى، التي لا تقيم للأخلاق وزناً، حيث جعلتها أموراً نسبية متغيرة ترتبط بالزمان والمكان، وبمقدار المصالح والامتيازات!! بمعنى أن الاستغلال والاحتكار والربح الفاحش تصبح قضايا مشروعة تقتضيها العلاقات الاقتصادية الجديدة، الداعية إلى تضخيم رأس المال دون البحث عن مصادره المشروعة.
ومثل هذه (المناهج) لا تستقيم مع طبيعة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فمنيت بفشل ذريع، لأنها لا تعبّر عن روح وضمير الأمة وتطلعاتها المستقبلية. والغريب أن بعض المفكرين العرب فسّروا فشل (الأنظمة والمناهج المستوردة) تفسيراً مبتوراً، عندما ربطوا بين تطبيقها و(الظروف المصطنعة) التي أوجدها الاستعمار، دون أن يتلمسوا الأسباب (الذاتية والموضوعية) الأخرى، التي ترتبط بنوعية (المنهج المطبق) وفلسفته وآلياته.
فيما ذهب آخرون إلى (التنظير المجرد)، أو البحث العقيم عن (طرق خاصة) لهذه (المناهج) تتلاءم مع المجتمعات العربية والإسلامية، وأدى ذلك بطبيعة الحال إلى تطبيق نفس (المناهج المتغربة) بكل ثقافتها وفلسفتها وأساليبها، وتكريس أزماتها ومشاكلها في المجتمع. وهذه الظاهرة قد أدركها المفكرون الأوروبيون مؤخراً، مما دعا (جاك اوستردي) إلى المراوغة والكذب في كتابه (التنمية الاقتصادية) حيث قال:
ـ إن فشل (الأنظمة الغربية) في البلاد الإسلامية مردها إلى (استسلام الإنسان للقدر واتكاله على الظروف والفرص وشعوره بالعجز الكامل عن الخلق والإبداع)!! في حين ان الفشل كان في طبيعة هذه (المناهج والأنظمة)، التي جمدت إبداع الإنسان المسلم، لأنها جعلته يشعر بإحباط نفسي كبير، عطّل قدراته على التغيير، وجعلته مستسلماً محبطاً، لا يرى أمامه سوى (النموذج الغربي) كطريق لتقدّمه. والإسلام يريد للإنسان المسلم غير ذلك… يريده قوياً يؤثر فيما حوله… وينشر الخير والسلام والمحبة والعدل على الناس، كل الناس مسلمين وغير مسلمين…لأنه يمتلك رسالة سماوية سمحاء تصنع الحياة الحرة الكريمة.
وأستطيع أن أضيف: بأن المنهج الإسلامي هو الحل للخروج من المأزق التأريخي الذي نعيش، فمن تجليات هذا المنهج افتضاحاً أنه يعبّر عن حس المجتمع العربي ودواخله أفضل تعبير. فالمنهج الصحيح يكون بالضرورة متفاعلاً مع مجتمعه بوشائج حية، وتراث أصيل، فهو ليس لصيقاً أو متغرباً أو مستورداً، بل حالة (ديناميكية) نشطة تعكس وجه المجتمع، وتعيش تفاصيله ومفرداته طولاً وعرضاً، لتعطينا إجابة موضوعية للأزمات والمشاكل المعاشة. وهو بذلك وجه من أوجه الحضارة، التي تكون أيضاً غير لصيقة أو مستوردة، بل تعيش حالة (حراك داخلي) متمثلة بعناصرها ومقوماتها المحلية الأصيلة، وحالة (حوار مع الحضارات) الأخرى، وحالة (صراع استثنائي) مع بعض (الحضارات المتزمتة).
الهوامش:
([1]) صورة تفصيلية لاقتصاد المجتمع الإسلامي، ص 41ـ 47.
([2]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا، الطبعة العشرون، المقدمة ص 26.
([3]) اقتصادنا، ص29.
([4]) اقتصادنا، ص 386.
([5]) اقتصادنا، ص 315.
بقلم :الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري: alzatari.net