الاجتهاد: يُعد النضج المبكر من العلامات الفارقة التي تثير تساؤلات تتطلب أنظار العلماء المختصين، فكل شيء حول هذه الظاهرة يحتاج إلى تفسير، و لو بحث ذوو الدراسات النفسية عن ميدان للوقوف على حالات من هذا النوع فإن الحوزات العلمية المباركة تعد زاخرة بهذه النماذج.
ـ فماذا يعني مشهد الاجتهاد الفتي؛ إذ أن كثيرا من الفقهاء نال رتبة الفقاهة في أوان البلوغ أو قبله وهم في العصر الماضي كثير كالشيخ البهائي، وفي عصرنا اشتهر منهم السيد علي الفاني، والسيد محمد كاظم شريعتمدار، والسيد الشهيد الصدر، ومنهم الفقيد السيد محمد صادق الروحاني“رضي الله عنهم جميعا”.
ـ وماذا يعني مشهد التبكير والابتكار في جانب من العلوم فقط كالمسائل العقلية الدقية فيما لا جديد يتحدث به بعض ذوي النضج المبكر في العلوم النقلية بالرغم من بساطتها قياسا على العلوم العقلية؟ حتى قيل بان السيد علي الطباطبائي يعتمد على طلابه في مسائل الفقه المرتبطة بالهيئة، وقيل ان الشيخ الأنصاري في الرجال ليس على ما هو عليه في الاصول والفقه بالرغم من محاولته الجادة للكتابة في هذا الباب!!
ـ وماذا يعني مشهد التبكير في الهيمنة على مختلف العلوم مع تأخر ولادة الابتكار الى قريب الخمسين كما يبدو من حديث الشيخ الرئيس ابن سينا عن نفسه؟؟
ـ وماذا يعني مشهد التبكير في الاستيعاب والاحاطة دون أي ابتكار علمي يذكر حتى آخر العمر لدى بعضهم، بل ربما فاق عليهم غيرهم من ذوي النضج المتأخر اذا ما قارنا النتاج العلمي بين شخصيتين اجتهدت احداهما دون العشرين والاخرى في الاربعين مثلا لكن الاخيرة استطاعت أن تطلع بآراء أو نظريات ذات صدارة تاركة قرينتها المبكرة خلفها ؟؟
ـ وماذا يعني مشهد التبكير في النضج ـ روحيا لا أقل ـ إذا لم يدّع معه صاحبه الاستقلالية ولم يسابق اعلام عصره في طلب المناصب وكراسي البحث، بل تجده ملتزما ببحث من يرى فيه عظيم الاساتذة لمدة طويلة، كما حكي لنا ان كلا من السيد الروحاني والشهيد الصدر بقي حبيسا في قاعة بحث استاذه وهو الخوئي قرابة الخمسة عشر عاما بالرغم من اجتهادهما وعبقريتهما !!
وإن بعد كل هذه التساؤلات دروسا و حقائقا حاجة طلبة العلم (والمبتدئون منهم خاصة) إلى الوقوف عليها والاستفادة منها حاجة كبيرة، وكنت أتوخى الفرص والمناسبات لإثارتها منذ زمن غير قصير، فكانت وفاة هذا العالم الجليل محطةً، وآمل أن تتبعها محطات أخرى إن شاء الله تعالى.
وفي كل الاحوال فان النضج المبكر بصوره الرائعة قد وَجَدَ على أرض الحوزات العلمية منبتا طيبا وكان أحد ثماره الغالية سماحة المرجع الديني السيد محمد صادق الروحاني “تغمده الله بالرحمة”، ومهما تحدثت عن تجلي هذا الجانب في روحه و مسيرته فانه سيبقى حديثا قاصرا؛ لأنني لم أتشرف بالتخرج على يده والدراسة عنده، بلى.. قد قضيت عهدا طويلا مع مصنفاته المنيفة، ومن هنا اود ان اشارك في تخليد ذكراه العلمية بما لاح لي من ملامحه وانا انظر اليه على مسافة كتاب وكتاب!
الطرح المبكر في المستحدثات:
في الثمانينات والتسعينيات الهجرية بدأت التطلعات الى بحث المسائل الجديدة وما يعرف بالمسائل المستحدثة او فقه النوازل المستجدة، فصار كبار الفقهاء امام الحاح طلابهم ولعل أول مبادرتين متزامنتين هي بحوث فقهية للشيخ حسين الحلي بقلم عز الدين بحر العلوم، والثانية هي المسائل المستحدثة للسيد الفقيد أعلى الله مقامهم جميعا، وقد شق نور هذين العملين الشرعيين أفق الفقه الامامي في عام ١٣٨٤هـ، ثم تلتهما بحوث وكتابات لفقهاء آخرين.
ومن جميل الخواطر اني اكتفيت بصحبة هذا الكتاب في رحلتي الى مشهد في العام ١٤١٦هـ فكان هو مائدتي العلمية الرئيسة في تلك السفرة، والمتعة الفكرية معها لا توصف خصوصا ما استوقفني حينها مع بحثه حقوق التأليف.
بين كفتي الفقه والاصول:
لقد ألفيت هذا السيد الكبير واحدا من شخصيتين لاحت الاصابع بين علماء وفضلاء قم في الاشارة الى فقههما قبل أصولهما والعِدل الاخر هو شيخنا الجواد التبريزي “قدس الله مشهديهما” وهذا ما جعلني اتحدث احيانا عن خلافي مع هذا الانطباع السائد فان لكليهما مادة في الاصول قابلة للتعريف والتوصيف بما لا يتخلف عن تراثهما الفقهي ان لم يتقدمه!!، ولعل ذلك وليد التكرار في الطرح للمادة في عدة دورات فسماحة السيد الروحاني كتب دورته الأصولية عدة مرات الاولى عام ١٣٦٤ وحينها لم يتجاوز العشرين عاما!! والاخيرة في عام ١٣٨٦ اي حين كان مشغولا بانجاز موسوعته فقه الصادق،
و في كل الاحوال فهناك نقاط يتوافقان فيها:
١ كلاهما طاف وجال في فلك الكفاية للاخوند الخرساني.
٢ كلاهما عقب على حملة فكر الاخوند وبالاخص النائيني والاصفهاني، ولا معتب في ذلك فمن اجدر من النائيني بعد الاخوند؟؟ فهو الذي لا يكاد يبارى في قدرته على التفريع والتشقيق في المسألة الاصولية بل لست اغالي لو عبرت عنها بـ”الفرادة النائينية” كما صنع في تشقيقات التزاحم وتقسيمات الترجيح في مبحث الترتب ، وكذا تنويعه لاشكال دوران الامر بين الاقل والاكثر وغير ذلك الكثير،
واشير ايضا الى ان العلمين التبريزي والروحاني قد اختلفا عن باقي تلامذة السيد الخوئي انهما لا يقصان اثره بشكل راتب وفي كل مبحث مبحث، بل هناك استقلالية في نسج وبناء النظرية، فانت ربما تطوي المسائل دون ان تقرأ شاهدا واحدا يذكرانه عن استاذهما مع عميق الاعتراف به عندما تاتي المناسبة للنقل عنه او لمحاورة افكاره ومبانيه.
كتاب زبدة الأصول:
نكتشف ومن خلال هذه الدراسة الاصولية بعض العناوين الفكرية في صفحات حياة هذا السيد الجليل الروحاني، التي ليس من اليسير جمعها في مقالة تأبينية، ولكن ومن باب ان الميسور يغني عن المعسور اذكر لفيفا منها:
١ – تسلّط حضرته السامية على المطالب الكلامية والحكمية يبدو ذلك لنا عندما يناقش كلامية المسألة من أصوليتها وهذا في عدة مواضع من مباحث الكتاب، وايضا يمكنك ان تتعرف على تمرسه في معالجته لمسألة الحسن والقبح في بحث القطع، واشارته الى اشتباه الخرساني حينما طبق المقولات على الاعتباريات كالملكية ووضع الفرق الدقيق للمقولات،
ويزداد الامر وضوحا عند وقفته المطولة في مسألة الجبر والاختيار والتي تعرض فيها لسلسلة من القوانين والقضايا العويصة من قبيل تجرد النفس عن المادة، وقانون العلية، وعدم استحالة الترجيح بلا مرجح، وقانون الوراثة، وتعلق افعال العبادة لارادة الله من عدمها، حقيقة السعادة والشقاء، البداء، والكلام النفسي، وان اتقانه في هذه الرسالة هو وليد عنايته الخاصة بها حيث انه الفها ثم اعاد تأليفها بعد مدة، وبتقديري فان قراءة طلاب العلم لرسالته (الجبر والاختيار) في طبعتها الثانية والتي جاءت ضمن دورته الاصولية مما يستحق على تركه اللوم!!
حقا انه يصنع لنا العبرة من خلال عادته في اعادة التأليف لمرتين او اكثر في المسائل العقلية كالكلام والاصول!
٢ – باعُه العميق في علم المنطق عندما يطارد الاخوند وغيره، ملفتا الى غفلتهم او قصور ما أسسوا عليه من مسائل منطقية، لذا نراه يفتح نافذة على مسألة اللفظ وشرح الاسم هذه القضية التي طالما بنى عليها الاخوند تسامحه في تجاوز بعض الحقائق!!
وقد اتفق منه ذلك في مستهل بحث العام والخاص، ثم أعاده بدقة أكبر في مبحث الاستصحاب.
٣ – اشارته شبه المتكررة الى مطالب الحكيم السبزواري وقبله الملا صدرا الذي يأتي التعبير عنه بالعارف الشيرازي تارة، وصدر المحققين تارة اخرى…
٤ – اختيار البيان السلس القريب نسبيا بالرغم من غلاسة الابحاث والمطالب الاصولية.
٥ – ترجيحه لبعض النظريات المحاطة بالبحث والنظر، بل وخروجه بشيء ليس له سابق عهد في الابحاث على كثرتها.
منها: تفصيله للمبنى الذي اجمله استاذه في ضابطة المسألة الاصولية وان المسألة المسلمة تخرج عن كونها أصولية وقد جعل ذلك وجها لاعراض الاصحاب عن بحث مسألة القياس واضرابها؛ اذ ان الجميع مسلم بعدم جوازه بل هي من الضروريات
ومنها: مذهبه الى الاستقلالية وعدم الالية في المعنى الحرفي وهو بهذا يذكرني بمذهب احد النحاة ويدعى ابن النحاس على ما يحضرني الان من كتاب شرح همع الهوامع للسيوطي!
ومنها: تعميم التجري حتي في مخالفة الامارات والاصول وليس في حالة القطع بالخلاف فقط.
ومنها: ان التضاد بين الاحكام ليس ذاتا.
ومنها: انتصاره للنظرة التي شيدها استاذه في عدم حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية.
٦ – لم يتخذ سبيل بعض الاعلام كالبجنوردي والحكيم والعديد من المحققين في الاشارة بنعوت خاصة لاساتذتهم تحكي منزلتهم عندهم وتساعد القارئ على معرفة العيلم المقصود في كل موضع يذكر فيه بل نراه رحمه الله يعبر عن استاذه الخوئي متى ذكره بتعابير مختلفة كـ”الاستاذ الاعظم”، وهو الغالب، او”الاستاذ”، او المحقق الخوئي، وغيرها من العبائر، كما ان وصفه للاصفهاني وهو احد اساتذته لا يأتي في قالب واحد فغالبا ما يقول:””ما افاده المحقق الاصفهاني””، وقد يشير اليه بالاستاذية فيقول:” بعض اساتيذنا المحققين””.
٧ – ربما تعدى الاعلام الثلاثة من تلامذة الخرساني الى الشيخ الحائري اليزدي فينقل من كتابه الدرر ويخضعه للنقد والنظر.
ان من أمائر التوفيق الالهي ـ فيما اشعر به ـ ان يتمكن السيد الروحاني من انهاء شرح كامل على متن “تبصرة المتعلمين” لإمام علماء الطائفة العلامة الحلي، والذي تعذر على الكثير ان يبلغوا مقصودهم في شرح متونه فما اكثر الشروح المنقطعة دون الغاية خصوصا مع مختصريه ارشاد الاذهان والتبصرة وهو امر طالما كنت احتار في وجهه فياسبحان الله!!
وقد وفق الروحاني الجليل في انجاز شرحه على هذا المتن الشريف، في ثلاثين عاما تقريبا.. والحقيقة ان العوادي قد تظافرت عليه هو الاخر، لتقطع عليه طريق المواصلة؛ اذ قد اُخذ بالاحكام التعسفية و نفي عن داره ودياره من قبل حكومة الشاهنشاه، ولكنه استطاع ان يكسب التحدي ويستجيب له المدد الالهي فاتم في حال الشدة والعسرة شرح باب الاطعمة والميراث وذيله بقوله:””وقد وقع الفراغ …في قرية ميكون من قرى طهران حين ما كنت محبوسا هناك بجرم الدفاع عن حريم القرآن{وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}…””.
وفي الطابع العام فان دراسته شاملة وموسعة يستدل ويناقش ما يُستدل به ويمتاز بنفسين:
ـ ذوقه في الاجمال والتبيين بالنسبة للروايات فكثيرا ما يختص من بين نظرائه في هذا الباب وذاك بالاشارة الى اجمال دليل من آية أو رواية..
ـ تكراره للمبحث المهم مع اختلاف محمود في الاضافة والتفصيل، استعرضنا بعض الامثلة في الاصول، وقد كان منه ذلك في مبحث ولاية الفقيه الذي تناوله في مبحث صلاة الجمعة وباب البيع من المتاجر بحثا مشبعا والتي فرق فيها بين الفقيه الحاكم وغير الحاكم، وحرمة تضعيف حكومته الاسلامية..
لوددت ان القي ببعض الاضواء على تعليقته الرصينة على مكاسب الشيخ الاعظم ولكني لا اجد فسحة في الوقت، وحسبي ما جرى به القلم في يوم مدفنه ..
وصدقا.. فان المشهد في قم في هذه الايام التي فقدنا فيها العَلَم الروحاني ولد فيّ مشاعر كريمة، وحملني على منارات الرصد الروحي التي مكنني ارتفاعها المعنوي من ان ارى قوة هيمنة الولاية لاهل البيت عليهم السلام على قلوب اتباعهم فهاهم جميع مدرسي قم المقدسة يصدّرون بيانات الحزن والتأبين انصافا واعترافا لسلطان من سلاطينها دافنين ما هنالك من اختلاف في منطلقات التكليف الشخصي، وظني ان هذا ما لن يروق لاعدائنا ولذا ادعو نفسي واخواني لليقظة والحمد لله رب العالمين على نعمة الولاية الماحقة لكل خلاف غير مسيس بالدين والمبادئ.
واخيرا اضرع الى المولى سبحانه واسأله ان يتولاه برحمته وان يجزيه عن الاسلام والمسلمين وعن شيعة أهل البيت الطاهر خير جزاء المحسنين، وان يتقبل مني هذه السطور بقبول التجاوز عن قصوري .
موقع قبس – الشيخ عبدالجليل بن سعد