الاجتهاد: هناك ظاهرة مهمة تتميز بها حياة الإمام الكاظم (عليه السلام) عن حياة بقية الأئمة المعصومين (عليهم السلام) هي شدة المعاناة التي واجهها الإمام من حكام عصره..
فما عدا استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) بتلك الصورة الفظيعة لم يحدث لأحد من الأئمة ما حصل للإمام الكاظم من المآسي والآلام فقد قضى فترة طويلة من عمره في السجن وهدد بالقتل أكثر من مرة وعانى من التعذيب والتنكيل واستشهد غريباً في أعماق السجون ثم جرى على جثمانه الشريف بعد استشهاده من الإهانة وتأخير التجهيز ما لم يحدث لسوى جده الإمام الحسين.
فلماذا تعاملت السلطات مع الإمام الكاظم بهذه القسوة العجيبة؟
حينما يقرأ الإنسان حياة الإمام الكاظم (عليه السلام) يرى بوضوح كيف أن الحركة الرسالية وصلت في عهده إلى درجة من القوة والنضج والتوسع بحيث أصبحت تشكل خطراً حقيقياً وجدياً على السلطة ومن مظاهر هذه القوة ما يلي:
أولاً: تغلغل الحركة داخل النظام:
فبخطة الإمام الحكيمة وبانضباط كوادر الحركة والتزامهما بأقصى درجات السرية والكتمان استطاع الإمام أن يزرع بعض تلامذته وأتباعه الثقات في أهم أجهزة الدولة.. كعلي بن يقطين والذي ولد بالكوفة سنة 124هـ وكان أبوه موالياً لأهل البيت وعلى صلة بالعباسيين فقد تقلد ابن يقطين منصب (أزمة الأزمة) أي إدارة الأمور في عهد المهدي ومن بعده عينه هارون وزيراً له وقد استأذن الإمام في ترك منصبه فأجابه الإمام:
(لا تفعل فإن لنا بك أنساً، ولإخوانك بك عزاً وعسى الله أن يجبر بك كسيراً أو يكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه.
يا علي: كفارة أعمالكم الإحسان إلى إخوانكم، اضمن لي واحدة أضمن لك ثلاثاً، اضمن لي أن لا تلقى أحداً من أوليائنا إلا قضيت حاجته وأكرمته، وأضمن لك أن لا يظلك سقف سجن أبداً، ولا ينالك حد السيف أبداً، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً.
يا علي من سر مؤمناً فبالله بدأ وبالنبي ثنّى وبنا ثلث).
ومرة أخرى ضاق صدر بن يقطين من معايشته لفساد السلطة وانحرافها فشكا إلى الإمام وطلب منه الرخصة في ترك منصبه فنهاه الإمام قائلاً:
(يا علي إن لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي).
وكان الإمام حريصاً على سلامة بن يقطين واحتفاظه بموقعه وتوجيهه إلى تجنب أي عمل يسبب انكشافه أمام السلطة..
فمرة أهدى الرشيد لعلي بن يقطين ثياباً كانت فيها دراعة فاخرة سوداء منسوجة بالذهب يلبسها الخلفاء.. فبادر ابن يقطين إلى إرسالها للإمام على يد أحد غلمانه وأخذها الإمام من الغلام ثم ردها إلى ابن يقطين على يد رسول آخر مع كتاب قال فيه:
(احتفظ بها ولا تخرجها عنك فسيكون لك بها شأن تحتاج معه إليها).
وصادف أن غضب علي بن يقطين على ذلك الغلام الذي أرسل معه الهدية فسارع الغلام للانتقام منه بإفشاء أسرار علاقة ابن يقطين مع الإمام وكانت الدراعة خير مستمسك لكلامه حيث قال للرشيد:
(إن علي بن يقطين يقول بإمامة موسى الكاظم، وأنه يحمل إليه في كل سنة زكاة أمواله والهدايا والتحف وقد حمل إليه في هذه السنة ذلك مع الدراعة السوداء التي أكرمته بها في وقت كذا).
فكان هذا الكلام صدمة لهارون فقال وقد استولى عليه الغضب:
(لأكشفن عن ذلك فإن كان الأمر على ما ذكرت أزهقت روحه وذلك من بعض جزائه).
وطلب ابن يقطين فوراً فلما مثل عنده سأله:
(ما فعلت بالدراعة السوداء التي كسوتك بها وخصصتك بها من بين سائر خواصي؟).
علي: هي عندي يا أمير المؤمنين، في سفط طيب مختوم عليها.
الرشيد: أحضرها الساعة.
علي: نعم على السمع والطاعة.
وأمر بعض خدمه أن يأتي بها من المكان المعين فأحضرها فوراً فلما نظر إليها الرشيد سكن غضبه وهدأت ثورته وقال:
(ردها إلى مكانها، وخذها وانصرف راشداً فلن نصدق بعدها عليك ساعياً).
ثم أمر له بجائزة وأن يضرب الغلام الساعي ألف سوط فضرب حتى خمسمائة سوط وهلك.
وبقي في منصبه يخدم حركته الرسالية حتى اختاره الله إليه سنة 182هـ وعمره (57) سنة وكان الإمام لا يزال في ظلمات السجون)(1).
وبعض الأقاليم كان يحكمها تلامذة الإمام فمنطقة (الريّ) الكبيرة والمشهورة كان واليها من أتباع الإمام.
تقول الرواية التاريخية أن شخصاً من أهالي الري كانت عليه أموال طائلة لحكومة الريّ فلم يتمكن من أدائها وعلم أن الوالي من أتباع الإمام موسى بن جعفر فسعى لملاقاته في الحج وطلب منه التوسط له لإلغاء ما عليه من ديون فكتب له الإمام رسالة إلى والي (الريّ) جاء فيها بعد البسملة:
(اعلم أن الله تحت عرشه ظلاً لا يسكنه إلا من أسدى إلى أخيه معروفاً، أو نفس عنه كربة، أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك والسلام).
فلما سلم الرسالة إلى الوالي قبّلها وقام تكريماً لها واستجاب لطلب الإمام بإعفاء الرجل من الديون بل وأعطاه من ماله الشيء الكثير(2).
ثانياً: الكوادر الناضجة:
فببركة مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) والتي كانت تضم زهاء أربعة آلاف طالب.. وبالجهود التي بذلها الإمام الكاظم توفرت للحركة الرسالية في عهد الإمام مجموعة كبيرة من الكوادر الناضجة في مختلف المجالات حتى أحصى الشيخ القرشي حفظه الله في كتابه القيم (حياة الإمام موسى بن جعفر) أكثر من ثلاثمائة شخص من تلامذة الإمام أغلبهم كان في مستوى عظيم من الفضل والنضج..
ثالثاً: السرّية والكتمان:
والحركة التي تتحلى بهذه الصفة تستعصي على ضربات السلطة وتمتلك زمام المبادرة وقد استفاد أتباع أهل البيت من تجاربهم السابقة في الصراع مع السلطات الظالمة فأصبحوا في عهد الإمام الكاظم (عليه السلام) ملتزمين بأقصى درجات السرية والكتمان وكانت جهود السلطة تفشل غالباً في اكتشاف أسرار هذا التحرك وأفراده ونشاطاته.
فمحمد بن عمير (رضوان الله عليه) كان أحد خاصة الإمام ولديه السجل العام الذي فيه أسماء شيعة الإمام فاعتقلته السلطات وبقي في السجون سبعة عشر عاماً وجيء به وهو مكبل بالقيود إلى هارون الذي طلب منه تسليم ذلك السجل. والاعتراف بالأسماء التي فيه! ولكنه رفض وأنكر فأمر بضربه مائة سوط وبلغ به الألم القاسي مبلغاً عظيماً يقول: فكدت أن أسمي وأعترف إلا أني سمعت نداء سجين آخر هو يونس بن عبد الرحمن يقول لي: يا محمد بن عمير اذكر موقفك بين يدي الله، فتقويت بقوله وصبرت ولم أخبر والحمد لله(3).
وتأكيداً على ضرورة الكتمان والصمود أمام تعذيب السلطة وعدم الاعتراف بشيء من أسرار التحرك يوصي الإمام أحد أصحابه وهو (صالح بن وافد الطبري) فيقول له:
(يا صالح إنه يدعوك الطاغية فيحبسك في حبسه ويسألك عني فقل: إني لا أعرفه)(4).
رابعاً: الأموال الطائلة:
فخطة السلطات محاصرة المعارضين اقتصادياً حتى لا يتمكنوا من تنفيذ أعمالهم ومشاريعهم.
ويروى أن هارون الرشيد في إحدى رحلاته للحج استقبل الإمام الكاظم بحفاوة بالغة ولكنه حينما وزع الهدايا والهبات على شخصيات المدينة أعطى للإمام أقل مما أعطي الآخرين فتعجب ولده المأمون من ذلك وسأل أباه قائلاً:
(يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار، وسائر قريش وبني هاشم، ومن لا يعرف نسبه خمسة آلاف دينار وتعطي موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار أخس عطية أعطيتها أحداً من الناس).
فأجابه هارون موضحاً سياسته الماكرة:
(اسكت لا أم لك، فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولك من بسط أيديهم).
ولكن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا ربّوا أتباعهم على دفع الأخماس والحقوق الشرعية إليهم ومنها كانوا يموّلون نشاطات الثورة والتغيير.. وفي عهد الإمام الكاظم ولسعة رقعة المؤيدين له كانت تأتي للإمام أموال طائلة فينفقها على نشاطاته وأتباعه.
وهناك شواهد تاريخية عديدة على كثرة الأموال التي كانت تصل للإمام ويكفي أن نعرف أن بعض وكلاء الإمام الذين اعتمدهم لاستلام الحقوق وتوزيعها فترة سجنه قد طمعوا فيما جمعوا من الحقوق وانحرفوا عن خط الإمام بعد شهادته وأنكروا موته ولم يسلموا الأموال لوصيه الإمام الرضا (عليه السلام) ويطلق عليهم (الواقفة) أي الذين وقفوا على إمامته وأنكروا موته..
يقول يونس بن عبد الرحمن: مات موسى بن جعفر وليس من قوّامه أحد إلا وعنده المال الكثير، وكان ذلك سبب وقفهم وجحدهم موته، طمعاً في الأموال، كان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار. وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار(5).
خامساً: التأييد الجماهيري الواسع:
فلم يعد الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) مقتصراً على الحجاز والعراق بل اتسعت رقعته إلى إيران ومصر والمغرب وسائر البقاع.
هذه بعض المظاهر التي تدل على نضج وقوة الحركة الرسالية بقيادة الإمام (عليه السلام) حتى لكأنها دولة داخل الدولة الرسمية الظاهرية مما جعل السلطة تستشعر الخطر الجدي والحقيقي من إمكانية استلام هذه الحركة لأزمة الحكم أي وقت تشاء ويعبر عن هذا القلق لدى السلطة ما قاله أحد عملائها للرشيد: ما ظننت أن في الأرض خليفتين حتى رأيت موسى بن جعفر يسلم عليه بالخلافة، وأن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب!!
وهناك بعض الروايات تشير إلى أن الإمام الكاظم كان مهيئاً ومعداً لإعلان الثورة واستلام الحكم فيكون القائم من آل محمد بالأمر لولا حدوث بعض الأخطاء في صفوف الحركة مكّن السلطة من إجهاض التحرك واعتقال الإمام وقتله.
فعن أبي حمزة الثمالي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام):
إن علياً (عليه السلام) كان يقول:
(إلى السبعين بلاء وبعد البلاء رخاء).
وقد مضت السبعون ولم نر رخاءً!!
فقال أبو جعفر (عليه السلام):
(يا ثابت إن الله تعالى كان وقت هذا الأمر (أي قيام الحكم الإسلامي الصحيح) في السبعين فلما قتل الحسين اشتد غضب الله على أهل الأرض، فأخره إلى أربعين ومائة سنة، فحدثناكم فأذعتم الحديث وكشفتم قناع السر فأخرّه الله ولم يجعل له بعد ذلك وقتاً عندنا ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)(6).
عن داود الرقي قال: ما يلج في صدري من أمرك شيء إلا حديثاً سمعته من ذريح يرويه عن أبي جعفر (عليه السلام)!
قال لي: وما هو؟
قلت : سمعته يقول: سابعنا (أي الإمام الكاظم) قائمنا إن شاء الله.
قال: صدقت وصدق ذريح وصدق أبو جعفر.
قال داود: فازددت والله شكاً.
ثم قال لي: يا داود أما والله لولا أن موسى قال للعالم:
(ستجدني إن شاء الله صابراً) ما سأله عن شيء. وكذلك أبو جعفر (عليه السلام) لولا أن قال إن شاء الله لكان كما قال فقطعت عليه(7).
هذا المستوى الذي وصلت إليه حركة الإمام من استعدادها وتهيئها للانقضاض على سلطة الجور والظلم هو الذي دفع السلطة الحاكمة إلى استخدام أبشع أساليب القمع والإرهاب مع الإمام الكاظم وشيعته المعاصرين.
الهوامش
1 – حياة الإمام موسى بن جعفر: ج2 ص284.
2 – حياة الإمام موسى بن جعفر: ج1 ص161.
3 – حياة الإمام موسى بن جعفر: ج2 ص301.
4 – التاريخ الإسلامي: ص328.
5 – البحار: ج48 ص252.
6 – البحار: ج4 ص114.
7 – البحار: ج48 ص260.
* المصدر: كتاب الثائر والسجن، دراسة في حياة الإمام الكاظم عليه السلام، لسماحة الشيخ حسن الصفار
تحميل الكتاب