خاص الاجتهاد: من أفضل الخدمة للإمام الحسين “سلام الله عليه” أن نخدم الحوزة العلمية في مدينته، لأن خدمة العلم كما في الأخبار له أثره الخاص وهو المصداق الحي للثبات على نهج سيد الشهداء “سلام الله عليه”. هذا ما تفضّل به لدى إجابته على سؤال حول حوزة كربلاء وحركتها العلمية آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري أستاذ البحث الخارج في الحوزة العلمية بمدينة كربلاء والمشرف العام على مدرسة العالم الجليل ابن فهد الحلي قدس سره.
ولد سماحته في كربلاء عام 1964م، بدأ بدراسة العلوم الشرعية في قم المقدسة عام 1980م، ودرس بحوث الخارج في الفقه والأصول على يد مجموعة من الأعلام (آية الله الشيخ الوحيد الخرساني، آية الله المنتظري، آية الله الشيخ ميزرا جواد التبريزي ….وغيرهم. له مجموعة من الأبحاث والتأليفات في الفقه والأصول، وبحوث في علم الكلام، التفسير الموضوعي، علوم القرآن وتاريخ الحوزة. كما يواصل سماحته محاضراته اليومية في مكتبه بكربلاء بحضور ومشاركة جمع من الشخصيات الدينية والثقافية وعامة المؤمنين.
حاورنا سماحته في مكتبه والذي رحب بنا وفتح لنا آفاق حول تاريخ الحركة العلمية في كربلاء والتنافس العلمي الموجود فيه وجوانبها العلمية والاجتماعية والسياسية.
وفي ما يلي نص الحوار :
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
وبعد:
الحديث عن حوزة كربلاء حديث ذو شجون، لأنّ المظلومية الموجودة في التاريخ لحوزة كربلاء غمرت هذه الحوزة، ولو أردنا أن ننظر إلى تاريخ الحوزات العلمية_ وقد أشرتُ إلى ذلك في بعض المكتوبات _ نجد أنّ حوزة المدينة المنورة هي الأصل في الحوزات، ثم من المدينة إلى الكوفة، ثم إلى بغداد الأولى، ثم من الكوفة إلى بغداد الثانية، وبعدها بين بغداد وحوزة قم ومدارسها، هذه في جهة.
وليس محلّ حديثنا فعلاً عن حوزة بغداد وامتيازها عن حوزة قم القديمة؛ ولكن نشير إلى أنّ حوزة بغداد تمتاز بالعقلانية خلافاً لحوزة قم؛ التي كانت مقتصرة على الجانب الأخباري، ولا أعني الأخباري الاصطلاحي في زماننا؛ بل الأخباري على الاصطلاح القديم، لأنّه في ذاك الزمان لم تكن الحوزة الأخبارية مقابلة للحوزة الأصولية، بل كانت تقابل الاستفادة من الجانب العقلي، وجانب التحليلات العقلية التي امتازت بها حوزة بغداد لأنها كانت الحاضنة.
حينما ننظر إلى حوزة كربلاء، تارة ننظر إليها كمدارس، وأخرى كونها مهداً علمياً، أمّا جانب المهد العلمي؛ فهناك دراسة تقول أنّ أوّل من جعل كربلاء مهداً للعلم هو الإمام الصادق “عليه الصلاة والسلام” حينما كان فترةً في الكوفة بين سنة مئة وأربعين إلى سنة مئة وثلاثة وأربعين، كان يُجلب الإمام ويودع في الكوفة، ومنها كان يأتي إلى الحائر الحسيني، وهناك مقام باسم مقام الإمام الصادق(ع)، هذه المنطقة تسمى “بشمال كربلاء” و”بالجعفريات” قديماً، وكان هناك موطن الإمام الصادق مع تلامذته، فهنا تأسيس الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام وصارت مَعْلَماً ومهداً للعلم.
أي أنّه كان هناك إقامة للدروس؟
كانوا يأخذون من الإمام الصادق(ع) بعنوان المَعلَم العلمي والمهد العلمي.
هل كانت إقامته لفترة زمنية طويلة؟
الشيخ عبد الكريم الحائري: لا، يقال أنّه ثلاثة أشهر أو أقل أو أكثر، وادّعى البعض خمسة عشر شهراً، والظاهر أنّه لا يوجد دليل تاريخي واضح حول المدة الزمنية لهذا الأمر، ولكن لا أريد الآن أن أعتمد على هذا الجانب مئة بالمئة.
عثمان بن زياد الرواسي الذي كان من تلامذة الإمام موسى بن جعفر “عليه السلام”، جاء إلى كربلاء في سنة مئة واثنين وثمانين (بين مئة وثمانين إلى مئة وثلاثة وثمانين؛ سنة وفاته)، وكان أول راو من الرواة يدُفن في كربلاء، هذا أيضاً مَعلَم لكن لم يتضح أنّه مَن التقى به في فترة تواجده في كربلاء.
الجانب الثالث: من المسلّم به مجيء ” حُميد بن زياد النينوي ” _مؤسس جامعة العلم في كربلاء المتوفي 310هـ_ إلى كربلاء الذي أخذ عنه الكليني وعلي بن إبراهيم، وكانا من تلامذته. كان يسكن كربلاء وتوفي ودفن فيها، لعلّه أجلى مَعلم وأجلى وقت تبيّنت فيه كربلاء هو هذا الوقت، فوفاته كانت سنة ثلاثمئة وعشرة، ومعنى ذلك أنّه لو كان في كربلاء عشرين سنة _ يحتمل أنّه كان في كربلاء أكثر من عشر سنوات_ يعني قبل ثلاثمئة، وعليه نستنتج أنّه من أواخر القرن الثالث كان في كربلاء الرواة.
وهناك كتاب للمحقق المرحوم الحاج عبد الحسين الشهيدي الذي هو ممن كتب في دائرة المعارف الشيعية في طهران، وله مجموعة من الكتب ومن المحققين المحترمين، هو عم هذا الوزير الصالحي، من بيوتات كربلاء العلمية وقزوين، لأنّ هؤلاء لهم تاريخ عريق في كربلاء وفي قزوين، الغرض أنّه كتب حول الحوزات العلمية في الأقطار الإسلامية،
ومنها فصل في كربلاء أشبعه بأسماء العلماء الذين كانوا في هذه المدينة، ويضاف إلى ذلك “دائرة المعارف الحسينية” للمحقق الكرباسي _ وهي بحق موسوعة جليلة جداً_ هناك نقل عن المصادر التأريخية أنه في القرن الرابع في سنة ثلاث مئة وثمانية وستين إلى ثلاث مئة وسبعين زار الحاكم الإيراني في ذاك الوقت كربلاء، وبنى مدرسة في الباب المعروف بباب السلطانية، هناك كانت مدرسة علمية، أمر ببنائها سنة ثلاث مئة وستين أو سبعين، في تلك الفترة، ومنه نستنتج بالتحليل أنّه حينما جاء إلى كربلاء رأى فيها من كان مؤهلاً لأن تبنى له مدرسة، وفي السنة التي تليها عاود زيارة كربلاء وأمر ببناء مدرسة ثانية، حيث رأى أنّ الأمر قد اتسع، وأن هذه المدرسة ضيقة، فبنى مدرسة ثانية، كما أمر ببناء دُور على نهر العلقم للعلماء وطلبة العلم، .
يعني كان هناك مجموعة من حملة العلم وطالبيه، وهؤلاء كأنّه كانوا يعيشون في ضيق في منازل ضيقة، أو مستأجرة أو خانات وكاروانسرا وأمثال ذلك؛ فأمر ببناء البيوت لهم، وهذا يجعل من الجلي والواضح أنّه كان يوجد مدارس وحوزة علمية فعالة.
وبعد وفاة المرحوم الشيخ المفيد في سنة أربع مئة وثلاثة عشر، بعده بسنوات؛ لما حصلت معركة في بغداد، وما استطاع الشيخ الطوسي أن يبقى فيها، هاجر إلى كربلاء وبقي سنة في حوزة كربلاء، ثم انتقل إلى النجف وأسس حوزتها.
وهذه من الأمور المغفولة عنها ومن مظلومية حوزة كربلاء، فهي كانت قائمة وفيها الحركة والحياة، لا أقول أنّها كانت الرائدة والأولى دائماً، لا، وإنما كانت موجودة وقائمة، وهذا نقله الشيخ الكرباسي مفصّلاً في كتابه.
وقد صنّف الشيخ الكرباسي بعد ذلك كتاب “الأضواء على مدينة الحسين” في ثلاثين جزء، وبيّن الحركة العلمية في كربلاء، وهناك كتاب بعنوان “الحركة العلمية في كربلاء” لنور الدين الشاهرودي، طبع قبل حوالي الثلاثين سنة في قم، وهو كتاب جيّد، ولكن لم يبيّن فيه الجذور العميقة لحوزة كربلاء،
وقد اعتنى بتبيينه المرحوم الشيخ الحاج عبد الحسين الشهيدي الصالحي البرغاني_ وجاء تسمية هذه العائلة بالشهيدي باعتبار أنّ الشهيد الثالث منهم، ويقال لهم الصالحي باعتبار لقبهم الآن، ويقال لهم البرغاني باعتبار جدهم الكبير البرغاني الذي كان من علماء كربلاء وقزوين_ وقد بيّن في كتابه “الحوزات العلمية في الأقطار الإسلامية” أنّه كان يوجد وشيجة قوية بين حوزة كربلاء وحوزة أصفهان، وبين حوزة كربلاء وحوزة قزوين، كان هناك ارتباط قوي وتبادل للعلماء، تارة من هنا(كربلاء) يذهبون إلى أصفهان وقزوين وأخرى من هناك يأتون إلى هنا، في فترة الألف وبعد الألف، كان هناك روابط قوية، كان هناك روابط علمية وسفرات متبادلة.
وهكذا على مرّ الأجيال كانت حوزة كربلاء موجودة، ولكن مركز الحوزات كانت تختلف وتدور، فقد كانت بغداد هي مركز الحوزات في زمن الشيخ المفيد، وفترةً كانت كربلاء، وبعد ذلك النجف لمّا أسسها الشيخ الطوسي، وبعدها صارت الحِلّة وبعد الحلة كربلاء برئاسة الوحيد البهبهاني، وصاحب الحدائق كان في كربلاء، متزامنا مع وحيد البهبهاني، ولهم قصص النزاع وغيرها في كربلاء في الأصولية والأخبارية حدثت في كربلاء، وتاريخها واضح وقصصها كثيرة.
تقصدون أنّ مركز التنافس العلمي كان في كربلاء؟
الشيخ عبد الكريم الحائري: نعم صحيح، في كربلاء أقام شريف العلماء المازندراني الذي حضر عنده الكثيرون؛ حتى كُتب عنه أنّه كان يحضر عنده قرابة ستمئة مجتهد في كربلاء، ومن هؤلاء الأعلام كاشف الغطاء، والشيخ الأنصاري رضوان الله عليهم جميعاً، وهناك كتاب للمرحوم الشيخ مرتضى الحائري ابن المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري؛ مؤسس الحوزة العلمية في قم، وترجمة الكتاب إلى العربية جاءت بعنوان “والدي “، ويتضمن قصص المرحوم الشيخ التي نقلها الشيخ مرتضى الحائری،
ومن جملتها ينقل هذا المعنى؛ يقول: والدي “الميرزا” قبل أن ينتقل إلى سامراء، أيام الشيخ الأنصاري والسنة الأخيرة من حياته يقول: كنا في كربلاء _أربع سنوات كانوا في كربلاء هو ووالدته_ يوم من الأيام جاء الشيخ الأنصاري مع طلبته لزيارة الإمام الحسين صلوات الله و سلامه عليه، و كان من أبرز طلبته الميرزا الشيرازي رضوان الله عليهم جميعاً،
يقول: أنا كنت شابا ذهبت إلى الحرم (يبدو أنّه كان يعرف الميرزا وكان قد التقى به أكثر من مرة سابقاً) التقيت بالميرزا الشيرازي، وقلت له أنّ من عادة الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه أن تطول زيارته؛ فتعالى معي لنذهب إلى درس الشيخ زين العابدين المازندراني، فقبل بالأمر واصطحبته معي، وجئنا إلى درس الشيخ زين العابدين المازندراني، وهناك طرح الشيخ المازندراني إشكالاً على أحد آراء الشيخ الأنصاري،
وقد كان إشكالا في علم الأصول، طرح إشكال رقم واحد، إشكال رقم اثنين، وتلميذه الأبرز الآن هو في الدرس موجود، كأنّه الشيخ الحائري نظر إلى الميرزا حتى يتكلم ويدافع عن أستاذه، ولكنّه سكت ولم يدافع، إلى أن انتهى الدرس وخرجنا، فقلت له: سيدنا لماذا لم تذبّ عن أستاذك وتدافع عنه؟ قال: كلما عصرت ذهني أن أدافع ما استطعت، ورأيت كأنّ الإشكال وارد وصحيح، ولكنّي سأذكره لسماحة الشيخ الأستاذ، فذهبنا إلى الحرم الشريف، والتقى بأستاذه، ثم بعد ذلك إلى حرم أبي الفضل العباس(ع)، ثم بعد ذلك ودّعتهم، وقلت ألتقيه مرة أخرى وأسأله، قلت: سيدنا أريد الجواب منك فيما بعد، قال إن شاء الله.
يقول: فيما بعد، أنا التقيت بالميرزا الشيرازي، وسألته ماذا حصل؟ قال لما ذهبنا إلى طويريج، وركبنا الطرّاد، قلت للشيخ الأنصاري: سماحة الشيخ أنا في أثناء زيارتكم ذهبت إلى الشيخ المازندراني وحضرت عنده وأشكَلَ عليكم إشكالين ما استطعت أن أردّهما، فأريد الجواب منكم حتى أبعث الجواب إلى تلامذة الشيخ، فينقلوه له، فوقف الشيخ فترة وأخذ يفكر وما أجابني، وقال: إذا وصلنا للنجف إن شاء الله، وصلنا إلى النجف، وهناك سألت الشيخ عن الرد؛ فقال: لا، الإشكالان واردان إنصافاً. انتهى كلامه، فيبدو إذن أنّه في حوزة كربلاء كان هناك من يُشكل على الشيخ الأنصاري، والشيخ يسلّم لإشكاله.
فأردت أن أستشهد أنه كربلاء مَعلم علمي كان. كربلاء ومن ذلك ما نقله صاحب “الضوابط” السيد إبراهيم القزويني عن السيد إبراهيم القزويني كان يحضر عنده ألف شخص، وكلّهم يراهق الاجتهاد؛ فهؤلاء الأعاظم والأكابر من صاحب الحدائق ومن الوحيد البهبهاني ومن بعدهم؛ السيد المجاهد، صاحب الرياض، كلهم من علماء كربلاء هؤلاء. فلذا اصطلحنا على كتبهم أنّها فقه كربلاء.
ما هي مزايا هذا الفقه؟
الشيخ عبد الكريم الحائري: أنا ذكرت بعض هذه الأمور في دروسنا في بحث الخارج بمناسبة بعض المطالب، فحينما تكون هناك مسألة ترتبط بالروايات، يحاول صاحب الحدائق إن لم تكن الرواية عنده مقبولة، أن يوجد لها تأويلاً، وكذلك هذا النفس موجودٌ في الرياض.
الجانب الثاني أنّه هناك فقه كتب بعد الرياض وفقه قريبٌ من عصرنا، لما تراجع هذه الكتب التي كتبت في مدرسة أخرى، تعاملت مع هذه الرواية التي تعامل معها صاحب الرياض وصاحب الحدائق تعامل معها بالتأويل وذكر بعض الوجوه، بينما مدرسة أخرى لمّا جاءتها هذه الرواية عبّرت هذا التعبير عنها: وهذه الرواية باطلة قطعاً!
يعني نوع من التسرع في رفض الرواية؟
ليس تسرّع؛ بل مع احترامي البالغ، هذا سوء أدب، ما ينبغي أن يكون كذلك، كيف أقول باطلة قطعاً؟ أحتمل أنها صادرة من الإمام، ولا يصدر من الإمام شيء باطل.
أريد اقول حينما يرون رواية، يتعاملون مع هذه الرواية أنها محتملة الصدور عن المعصوم، فيأخذون بالجانب العقدي والجانب الاعتقادي في التعامل معها؛ يعني لا يرفضونها تماماً. فلتكن هي الرواية، فلتكن غير مقبولة، نردّ علمها إلى أهلها، لابد نعبّر بهذا الشكل كما علمونا، (ردوه إلينا)، (ردوا علمه إلينا)، (الذي قاله أعلم لما قاله) هذه تعبيرات روائية أدّبتنا في أنّ الرواية إذا لم نقبلها، كيف نتحدث عنها وكيف نتكلم عنها، ولا نقول: باطلة قطعاً؛ هذا جانب.
الجانب الأخر: بعض الروايات فيها جوانب تصطدم مع الجانب العقدي، هؤلاء أيضا يتعاملون معها معاملة خاصة، كنت أذكر في أثناء قراءتي للمدارس المختلفة _لأنني حضرت في الأبحاث المدرسة القميّة والمدرسة النجفية والكربلائية، حضرت عندهم ورأيت أبحاثهم الأصولية، وأبحاثهم الرجالية، وأبحاثهم الفقهية، وأبحاثهم العقدية_ فألاحظ أنواع التعبير، وكيفية التعبير والجوانب المختلفة من الأبحاث.
فأرجع وأقول إنّه بين فترة وأخرى زعامة الحوزات كانت تدور؛ فسامراء صارت زعيمة للحوزات حينما ذهب الميرزا إليها، وحينما كان شريف العلماء وصاحب الضوابط في كربلاء، كانت الزعامة العلمية متمركزة فيها، ومن ثمّ صارت الزعامة في النجف لفترة طويلة، وفترة طويلة كانت في الحلة، فكانت من فترة وأخرى تدور، وحينما الوحيد البهبهاني كان في كربلاء، صارت في كربلاء، وحينما كان الشيخ محمد تقي الشيرازي؛ تلميذ الميرزا الشيرازي زعيم وقائد ثورة العشرين كان في كربلاء، الزعامة العلمية والدينية كانت في كربلاء، وحينما صارت الزعامة إلى آقا حسين القمي، أيضا كان في كربلاء، وبعد الإصرار عليه أيضاً ذهب إلى النجف، لكن كان مقرّ زعامته الأول في كربلاء.
لماذا هذا الإصرار على ذهابه إلى النجف؛ بينما مقر رئاسته في كربلاء؟
الشيخ عبد الكريم الحائري: هذا يحتاج إلى تحليل يرتبط ببعض الموقعيّات والشخصيات، بعض الشخصيات كانت في النجف كان يهوون ويحبون أن يكون السيد موجود عندهم حتى يخدموه مثلا، لعله بعض الجوانب هذه حتى تحمل محامل صحيحة، ولابدّ أن تكون هناك محامل صحيحة.
إذن دائما حوزة كربلاء كانت موجودة، ونقل لي المرحوم الحاج عبد الحسين الصالحي البرغاني القزويني _وهو كان عالم من أسرة علمية ودرس في الحوزات ولكن لم يكن معمما_ فقال: أنا عندي كتاب بعنوان “تفاسير ومفسران” حول التفاسير الشيعية، وقد بحثت في الفهارس وفي المكتبات وفي الذريعة وفي غيرها، بحثت كثيراً حتى أرى أنه كم توجد تفاسير شيعية، وتوصّلت أنه يوجد حدود ألفي تفسير للشيعة.
وإن لم يكن بعضها موجودا وإنما ذكر في تراجم العلماء، بعض هذا التفسير كاملة، وبعضها تفسير ناقص بمعنى أنّه لم يوفّق المؤلف لإتمامه. فقال؛ ربع هذه التفاسير من حوزة كربلاء؛ خمسمئة تفسير مكتوب في حوزة كربلاء؛ وباقي التفاسير من النجف وقم وأصفهان وسامراء، وباقي الأقطار الإسلامية التي فيها شيعة، مثل: مشهد، نراق، وغيرها. ربعها كان في كربلاء. مما يدلل على أن حركة العلمية وحركة الكتابة كانت في كربلاء حركة قوية وجيدة وحركة قرآنية قويّة.
ربما يكون مرجع هذا الأمر أنّه في بعض الحوزات كما يقال له لم يكن هناك انتباه إلى غير الفقه والأصول كثيراً؛ فمثلا إذا ما بادر أحد العلماء إلى تدريس التفسير فهذا يحط من مكانته العلمية، فما تفضلتم به يشير إلى أنّ هذا الأمر لم يكن موجودا في كربلاء.
الشيخ عبد الكريم الحائري: نعم، كانت مسألة التفسير مقبولة في كربلاء، وكلّ عالم يكتب في الفقه والأصول كان كذلك يكتب في التفسير، كتابة التفسير جزء من قوام الحركة العلمية في كربلاء؛ حتى أنّ بعض العلماء مثل البرغاني_جد هؤلاء الذين ذكرناهم_ له ثلاثة تفاسير، واحد منها هو التفسير الكبير، والذي نقل لي والمرحوم الصالحي أنّه لو يطبع لفاقت مجلداته أعداد مجلدات البحار.
قبل حوالي الثلاثين سنة طبع جزء واحد فقط من تفسير البرغاني، والتفسير الكبير ممتلئ بالتفسير الروائي، لكن ليس مثل البرهان غيره، لا، بل هذا أوسع بكثير منهم، وهو مَعلم علمي جيد للتفقه في الآية وفهم الآية فهما موسوعيا، وفهم أعظم من الظواهر اللفظية البسيطة.
فهذا خلاصة ما أردت أن أشير إليه وتعلمون أنّ الذين كانوا في حوزة كربلاء كثيرٌ منهم حينما كان يحمل العلم، كان يحمل معه همّ تأسيس حوزة علمية أيضاً، وممن تخرج من كربلاء المهديون الأربعة: فمنهم مهدي الشهرستاني؛ هذا ظاهراً ذهب لحوزة مشهد وتقوية حوزة مشهد، ومهدي النراقي حوزة كاشان ونراق.
يعني ميزتهم أنهم تخرجوا من كربلاء وأسسوا حوزات في غير كربلاء؟
الشيخ عبد الكريم الحائري: نعم أسسوا حوزات في مناطقهم التي ذهبوا إليها. وكما تعلمون حوزة قم أيضاً، فالشيخ عبد الكريم الحائري هو درس في كربلاء أربع سنوات، ولكن بعد ذلك ذهب إلى سامراء، يعني البنية العلمية الأولى كانت في كربلاء بعد ذلك التحق ببيت الميرزا الشيرازي في سامراء، وبعد ذلك رجع إلى قم.
فالغرض أنّ حوزة كربلاء على طول التاريخ كان فيها علماء متميّزون يحملون أفكاراً مضافاً إلى مسألة الحوزات العلمية، (يعني أريد أشير إلى أنّ كربلاء كانت مهدا للحركات العلمية المختلفة، وهذا يحتاج إلى بيان أوضح وأكثر في هذا الجانب).
لم تكن هناك فقط حركة واحدة؟
لا، مثلا الأخبارية كانت في كربلاء، وكذلك الأصولية والشيخية، كلّها كانت في كربلاء.
ألم تكن هناك أغلبية لجهة، بعد ما حدث بين الشيخ البحراني والوحيد البهبهاني؟
تغلّب الجانب الأصولي.
هل الجانب الأصولي الموجود في كربلاء كان مختلفا عن نظيره في النجف أو في قم؟
الشيخ عبد الكريم الحائري: تقريبا الجوانب الأصولية أكثرها واحدة؛ إلا أنّه من الأشياء التي يمكن أن نشير إليها هو الثراء العلم الأصولي لتقريرات شريف العلماء، البعض كتب أصول، أربع أضعاف الرسائل موجودة تقريرات لشريف العلماء.
والضوابط دورة أصولية كبيرة، ومفاتيح الأصول للسيد المجاهد؛ دورة أصولية كبيرة. يعني الآن الدورات الأصولية التي تُكتب ستة أجزاء أو سبعة أجزاء، ذاك الوقت كان أيضاً بهذا الحجم أو أكبر من هذا الحجم. كانت واسعة جدا.
فلعل فيما ذكرته لكم يكون بابا بسيطا للتّعرف على الحوزة العلمية في كربلاء، وبمطالعة “الحركة العلمية في كربلاء” للشاهرودي، والفصل الذي يرتبط بكربلاء للشهيدي في موسوعته “الحوزات العلمية في الأقطار الإسلامية” وما كُتب أيضاً في ضمن موسوعة الشيخ الكرباسي أيضاً هناك مقتطع ومقتطفات كبيرة وتسليط الضوء على حوزة كربلاء وعلى المدارس التي كانت في طول التاريخ.
حوزة كربلاء حوزة علمية ناهضة قديمة، وأعاظم الشخصيات كانوا في كربلاء ولو ردحاً من الزمن، جاؤوا إلى كربلاء وحملوا من حوزة كربلاء ومن كان فيها.
سماحة الشيخ هذا الجانب العلمي لحوزة كربلاء؛ هناك جوانب اجتماعية عملية سياسية لحوزة كربلاء طوال التاريخ ولو تذكرون لنا نُبذاً من هذا الجانب أيضا.
الشيخ عبد الكريم الحائري: طبعاً هذا الموضوع الهام يحتاج إلى تفصيل؛ لقد تعرضت كربلاء مرات متعددة للغزو الوهابي، ووقف العلماء مع الناس مجاهدين ومضحين. ويُنقل أنّه في كلّ غزوة وهابية كان يُقتل من علماء كربلاء مجموعة كبيرة؛ حتى أنه ألف أو ألف وخمس مئة قتلوا، رغم أنه كان الناس قد خرجوا إلى زيارة أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام إلى النجف. لكن رغم ذلك العلماء قاوموا وتسلحوا، ومن المواقف المهمة ثورة العشرين، وكذلك الحركة السياسية لطرد الإنكليز كانت من كربلاء.
عادة ما نسمع أنّها من النجف؟
لا، مقرها كان كربلاء، الميرزا الشيرازي كان في كربلاء، سيكون هناك تزوير للحقائق إذا قلنا غير ذلك.
نحن عادة عندما نسمع “ثورة العشرين” نظن أنها انطلقت من النجف، ومن العلماء الذين قادوها السيد الحبوبي وغيره.
كل هؤلاء كانوا قد انضموا إلى لواء الميرزا الشيرازي؛ فهو القائد الأول لثورة العشرين، كلّ هؤلاء العلماء ليس علماء الشيعة فقط حتى علماء السنة الذين بعث إليهم الميرزا وجمّعهم وحفّزهم، وأسماؤهم موجودة، ورسالاتهم موجودة بخطهم، وقد طبع الكثير من الوثائق التاريخية لثورة العشرين، ومؤكد فيها هذا المعنى، وأنّ الشيخ رحمه الله كان يكتب بالأشياء ويوجه الرسائل والكتب، ويكتب تحتها “كربلاء المقدسة”.
الميرزا الشيرازي كان يقود الحركة في ثورة العشرين من كربلاء. فهل كان هناك تجنيد وعمليات هو يقودها أم لا؟ فقط إرشادات؟ يعني هل دخل ساحة العمل بشكل المباشر؟
الشيخ عبد الكريم الحائري: لا هو باعتباره القائد الأعلى للثورة وللعلماء فلذا عموم العلماء انضموا تحت لوائه؛ السيد الحبوبي، وغيره، وشباب العلماء الذين صاروا فيما بعد مراجع مثل السيد الحكيم وغيرهم، كل هؤلاء حينما التحقوا بثورة العشرين، والتحقوا بالثوار والتحقوا بطرد الإنكليز كانوا تحت راية الميرزا الشيرازي.
شيخنا الجليل: بعد مسألة ثورة العشرين، نريد أن نتكلم عن وضع الحوزة العلمية في كربلاء أثناء حكم البعث وصدام.
الشيخ عبد الكريم الحائري: قبل صدام كانت هناك أزمة الشيوعية، وقد وقف السيد الميرزا مهدي الشيرازي والسيد الحكيم معاً في مواجهة الحركة الشيوعية، وأفتوا ضدها.
فقط هذا الفتوى أم أنّ هناك مبادرات أخرى تذكرونها من السيد الشيرازي؟
الشيخ عبد الكريم الحائري: يعني كثرة الجوانب الاجتماعية والتبليغية كانت موجودة أيضاً، حتى أنهم كانوا يرسلون إلى القصبات والقرى مبلغين، وكان عندهم شيء يسمى بالتبليغ السيّار.
التبليغ السيّار، وكانوا قد أشتروا سيارة تحمل المبلغين يوم الخميس صباحاً توزّعهم على القرى، وفي اليوم الثاني تذهب وتأتي بهم، وكانوا يعلمون الناس الوضوء، والصلاة، والأحكام الشرعية، وغير ذلك، هذه كانت من خصائص حوزة كربلاء، فالتبليغ السيار كان من خصائص الحوزة.
سماحة الشيخ بعد ذلك جاء فترة صدام، وأنتم عشتم هذه الفترة، لو تذكرون لنا ما حصل على حوزة كربلاء في زمن صدام ومواقف العلماء.
الشيخ عبد الكريم الحائري: الآن أذكر لكم قبل مسألة صدام وأول مجيء البعثيين، أول من تصدى لهم المرحوم الشهيد السيد حسن الشيرازي، ففي يوم الثلاث عشر من رجب كان يقام في كربلاء أكبر احتفال في العراق، وكان يحضره جموع غفيرة، وحتى بعض المراجع والعلماء وممثلوهم يحضرون، وكذا الوزراء ومسؤولو الدولة، وقرأ المرحوم السيد الشيرازي قصيدته في إحدى تلك الاحتفالات ضد الحكومة.
وأُخذ السيد وعُذّب بقسوة لدرجة أنّه لم يعد يمكنه بعد ذلك الزواج، وبقي إلى أن قُتل واستشهد في بيروت بدون زواج، وكان ذلك بسبب التعذيب الذي تعرّض له، حتى قيل أنّه تعرّض لأربعة عشر نوعا من التعذيب.
الغرض أنّه حينما جاء البعثيون وسيطروا على الحكم شدّدوا الوطء على العلماء باعتبار أنّ حوزة كربلاء كانت المعارض الأول للحكومة.
أي أنّ ذلك كان قبل تصدي الشهيد الصدر في النجف؟
الشيخ عبد الكريم الحائري: نعم، ما كان أحد يتصدى للحكومة، وكربلاء كانت هي المتصدي للحكومات السابقة، في زمن عبد الكريم قاسم حينما أعلن أنّ مسألة تساوي الرجل والمرأة في الميراث اعترضت حوزة كربلاء، واعترض السيد مرتضى القزويني من كان ذهب من حوزة كربلاء مجموعة اعترضوا وذهبوا إلى بغداد التقوا بعبد الكريم قاسم وأبلغوه احتجاجهم بشدة.
الخلاصة أنّ البعثيين جاؤوا وقضوا على حوزة كربلاء وعلماء كربلاء بين السجن والتسفير، وبين من استطاع أن ينجو بنفسه، علماء كربلاء، خطباء كربلاء، حوزة كربلاء انتهت إلى الصفر في زمن البعثيين، كان هناك ستا وعشرين مدرسة علمية موجودة في كربلاء، وكلّها انتهت.
هل تقصدون أنّه في زمن حكم البعث تعطلت الدروس بشكل كامل في حوزة كربلاء؟
الشيخ عبد الكريم الحائري: نعم فقد قُتل العلماء وشردوا وسجنوا وسحقوا، فلم يبق أحد، والمدارس العلمية هدمت وصارت شوارع، وصارت أزقة، وبقي منها فقط مدرسة ابن فهد، والمدرسة الهندية والمدرسة الحسنية، وقد كانت قاعة، والآن يعيدون بناءها، ومدرسة السيد البروجردي كانت قاعة والآن هناك عمل لإعادة بنائها، يعني من هذه المدارس لم يسلم إلا أربع أو خمس مدارس كانت موجودة، أما وجود الطلبة والحركة العلمية فقد انعدمت تماما، وبعد سقوط النظام بدأت الحركة العلمية تدب في حوزة كربلاء؛ والآن يوجد في كربلاء أكثر من خمسة عشر مدرسة علمية.