الاجتهاد: بين يدي الآن كتاب من كتب السير ذاتية «ظلال من الذاكرة» الذي استحضر فيه الشيخ حسن بن موسى الصفار مجموعة من التفاصيل السردية عن نشأته الأولى في مرحلتي الطفولة والشباب.
كل تجربة في الحياة قابلة لأن تكون مادة كتابية يسطر صاحبها – وفق إمكانياته – سيرته بدرجة عالية من الشفافية، وفي مساحة كافية من الانعتاق.
كثيرون ممن كتبوا سيرهم أحسوا بأهمية هذا النوع من الكتابة في لحظة ما، كالمفكر الفلسطيني / الأمريكي إدوارد سعيد الذي عبر عن كتابه خارج المكان بأنه سجل لعالم مفقود أو منسي.
وقد انطلقت شرارة هذا الكتاب لحظة مرضه، فشعر بأهمية أن يخلف سيرة للعالم العربي يكشف فيها بعض أسراره وعن عائلته وتنقلاته، أما المفكر اللبناني علي حرب فيرى أن كتابه خطاب الهوية كان عبارة عن تمرين، ولو أتيح له تدوين تجاربه مرة ثانية لاختلف أسلوبه؛ لتغير نمط حياته.
وبين يدي الآن كتاب من كتب السير ذاتية «ظلال من الذاكرة» الذي استحضر فيه الشيخ حسن بن موسى الصفار مجموعة من التفاصيل السردية عن نشأته الأولى في مرحلتي الطفولة والشباب.
ومن هذا العنوان الرشيق يتضح أن بعضا من صدى الحقيقة هو الذي يحضر في الحافظة الإنسانية، أي أن التجربة لا تبدو كاملة تماما، فما يبقى هو خلاصة الشيء. إن هذا الكتاب يعطينا أنموذجا لهندسة الذاكرة في البيئة المحلية ابتداء من نشأة هذا الولد في بيت صغير بحي الدبابية في القطيف، الذي كانت والدته تشجعه على بيع الحلويات أمام المجالس النسائية، وكأن هذا الدرس الأول في الحياة، امتدادا لتأثير والده الشاعر الذي يلقنه القصائد الكربلائية على سطح الدار، حتى صارت زادا له عندما صعد المنبر وهو في الحادية عشرة من عمره.
السيرة الذاتية ليس مرادها الالتفاف حول الذات فقط، بل تتمدد؛ لتكشف أثر الزمان والمكان، فعندما أطلق المجتمع القطيفي لقب «الشامي الصغير» على الخطيب الناشئ الذي أتيحت له الفرصة فإن ذلك يعني أن الناس كانت متلهفة للمواهب فيما كان الفراغ هو السائد، وما تشبيهه بالخطيب العراقي السيد حسين الشامي بنسبة ما إلا تعبير واضح عن تشجيع الكفاءة والثقة بها حسب ثقافة المجتمع حينذاك.
ركز الشيخ الصفار على ثيمة التلقي التي أفضت إلى بناء الذات، كثير من الشخصيات استفاد منها، كتوجيهات الشيخ فرج العمران التربوية، وتصويبات الملا على الطويل اللغوية وتشجيع المرجع الديني السيد محمد الشيرازي له على التأليف.
كذلك للمكان دوره في تشكيل الشخصية التي كانت تبحث عن جوهر هويتها، فإن كانت القطيف هي التي قدمته فإن الأحساء احتضنه، وأكسبته النجف أجواء روحانية، فيما أعطته قم بعدا آخر في طريقة الدراسة مختلفا عن الحوزة التقليدية، أما انضمامه لمدرسة الرسول الأعظم في الكويت فهو الذي بلور مساره العملي إلى أن ساعدته مسقط لخوض العمل الاجتماعي الهادئ الهادف وسط ظروف مشجعة.
كل هذه التنقلات المكانية المتعددة كانت جسورا للموهبة المتحركة داخله فكم كان خطيبا وشاعرا كتب قصائده وهو في العقد الثاني، ومؤلفا انتقل من الوجهة الشفاهية إلى الوجهة الكتابية، إضافة إلى تحمله أعباء مجتمعية.
ظلال من الذاكرة هو باختصار سجل للمرحلة الأولى من تجربة الشيخ حسن الصفار بما شهدته من طموحات تجاوزت المألوف والعادي، وما عقبها من سنين حري بأن يسجل أيضا فهي شهادة تاريخية لاتقل أهميتها عن سابقها؛ لأنها إحدى تجليات النضج لابن البحر الذي يجدد أمواجه، ولابن النخلة التي ارتسمت أيقونة للعطاء.
المصدر: جهات الأخبارية