مكانة القرآن في الاجتهاد

التحليل التاريخي لجذور النظرتين المعاصرتين لمكانة القرآن في الاجتهاد

خاص الاجتهاد: قبل أن یتحدّى الأخباریون مکانة علم أصول الفقه فی الاجتهاد، کان معظم الفقهاء، وإن کانوا یعرّفون أصول الفقه کأحد العلوم الضروریة للاجتهاد، إلا أنهم لم يكن یعتبرون أهمیته أعلى من جمیع العلوم الأخرى. فی هذه الفترة، کان الکثیر من الفقهاء یعتبرون عاملاً آخر یُسمّى “قوة ردّ الفرع على الأصل” الشرط الأکبر للاجتهاد (الشیخ البهائی، زبدة الأصول، ص: 414، السید المجاهد، مفاتیح الأصول، ص: 578)./

العلوم اللازمة في الاجتهاد قبل الأخباریین

ککبار الأخباریین أنفسهم، عندما أراد الوحید البهبهانی أن یذکر العلوم المؤثرة فی الاجتهاد، اعتبر هذه القوة القدسیة “أصل جمیع الشروط”، لکن مناقشات الأخباریین حول ضرورة علم الأصول أجبرته على رفع أهمیة علم الأصول أیضًا، و أن یکتب: “حاجة الاجتهاد إلى الأصول من البدِیهیات… بل هذا العلم فی الأصل میزان علم الفقه ومعیار لمعرفة مفاسد الفقه وأکبر وأهم شروط الاجتهاد…” (الوحید البهبهانی، الفوائد الحائریة، ص: 336). یبدو أن تأکید البهبهانی (ره) على أصول الفقه کان ردًا على شبهات الأخباریین، وإلا فإن الوحید (ره) أیضًا، کالشیخ البهائی و…، کان یعتبر الرکن الأساسی للاجتهاد هو القوة القدسیة نفسها.

العلوم اللازمة فی الاجتهاد بعد الأخباریین

منذ أن أطلق الأخباریون نغمة الاستغناء المشؤومة للاجتهاد عن علم أصول الفقه واتهموا علم الأصول بالتشبه بالسنة، حدث أمران فی معسکر المجتهدین: الأمر الأول هو أن المجتهدین، فی تعداد العلوم التی یحتاجها الاجتهاد، اضطروا إلى شرح ضرورة أصول الفقه أکثر من ضرورة العلوم الأخرى، وبمرور الوقت، تم التعبیر عن ضرورة علم الأصول فی کلامهم بکثافة ومبالغة أکبر.

الأمر الثانی هو نمو علم الأصول. بعد عصر الوحید البهبهانی، قام علم الأصول بتنقیة نفسه من الزوائد الفلسفیة والأدبیة، وتعمق فی ذاته، ورکز على قضایاه الواقعیة، وبدأ فی إنتاج أدبیاته الخاصة. وبذلک، تمکن من الوصول إلى مستوى عالٍ من الإتقان والرسوخ بفضل ابداعات الشیخ الأعظم الأنصاری، والآخوند الخراسانی، وعلماء كالمحقق النائینی، والمحقق الإصفهانی، والمحقق العراقی رحمهم الله.

إن الوصول إلى هذا المستوى من الإتقان والرسوخ أصبح أساسًا للأصوليين مثل الشیخ حسین الحلی، والمحقق الخوئی، والسید الشهید محمد باقر الصدر و…، وهؤلاء الکرام بجهودهم ونبوغهم القیم تمکنوا من رفع مستوى الإتقان الموروث من الأسلاف إلى درجة یمکن اعتبارها الشرط الأساسی للاجتهاد.

نظرتان للاجتهاد بین المعاصرین

منذ هذه الفترة فصاعدًا، یمکن تقسیم الفقهاء إلى فئتین:

الفئة الأولى، الفقهاء الذین، بعد هذین الحدثین، قدموا علم الأصول باعتباره الشرط الأساسی للاجتهاد، وتدریجیًا تضاءلت أهمیة تلک القوة القدسیة التی تحدث عنها الأسلاف فی کلامهم. المحقق الخوئی، وهو من أبرز هذه الفئة، کان یعتبر أحیانًا الأصول بمفرده الشرط الأساسی للاجتهاد، وأحیانًا أخرى یضع علم الرجال بجانبه (موسوعة الإمام الخوئی، ج 1، ص: 9 و 10 و 13، وانظر أیضًا: البجنوردی، منتهى الأصول، ج 2، ص: 793، والعراقی، الاجتهاد والتقلید، ص: 43). لقد بلغ الاعتماد على علم الأصول فی فکر هذه المجموعة ذروته، حتى قیل: بمجرد أن یصبح شخص ما مجتهدًا فی علم الأصول، دون أن یمارس أو یتدرب على رد الفروع إلى الأصول، فإن ملکة الاستنباط تحصل له تلقائیًا (منتهى الدرایة، ج 8، ص: 359 و 360)

في النظام الاجتهادي لهذه الفئة، علی الرغم من أن القرآن الکریم یتمتع بمکانة قدسیة عالیة، إلا أن تطبیقه في الاستنباط لیس واسعًا. المحقق الخوئي، في تبریره لسبب تقدیمه علم الرجال على التفسیر في منظومة متطلبات الاجتهاد، أوضح أنه على الرغم من وجود عدد من الأحکام الشرعیة التي نحتاج في استنباطها إلى القرآن، إلا أن عدد هذه الأحکام هو في حدود “الأقلّ القلیل” (موسوعة الخوئي، ج 1، ص: 13).

الفئة الثانیة هم الأصولیون مثل الإمام الخمینی (ره) الذین یعتبرون علم الأصول مهمًا جدًا فی تعداد متطلبات الاجتهاد، لکنهم یخصصون الأولویة القصوى لـ “معرفة الکتاب والسنة والأنس بهما”. “معرفة الکتاب والسنة” فی ظاهر کلامه، لیست ضروریة فحسب، بل إنها احتلت مکانة خاصة بتعبیر “الأهم والألزم”. فی عبارته “معرفة الکتاب والسنة والأنس بهما”، یبدو أنه عطف کلمة “الأنس” على کلمة “المعرفة” لیبین أن معرفة الکتاب والسنة لازمة، ولکن إذا لم تصل إلى مرتبة الأنس، فإنها لا تکفی.

ولهذا السبب کتب فیما بعد: “الأمر المهم لطالب المستنبط هو “الأنس” بالأخبار الصادرة عن أهل البیت “عليهم السلام”، لأن هذه الأخبار لعلم الفقه بمنزلة الحجر الأسفل للرحى التي تدور علیها عجلة الاجتهاد”. ولاثبات أن الکتاب والسنة لهما الأولویة في منظومة الاجتهاد، استند إلى روایات مثل “أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني کلامنا” (الخمینی 1426 ق، الاجتهاد والتقلید، ص: 9 إلى 13). کلام الإمام الخمینی هذا لیس بعیدًا عن کلام ابن عاشور فی مقدمة تفسیره حیث یقول: “نحن على خلاف جلال الدین السیوطي، لم نعتبر الفقه من مقدمات التفسیر، لأن فهم القرآن لا یعتمد على مسائل علم الفقه، لأن الفقه متأخر عن القرآن وفرع عنه، والمکان الوحید الذي یحتاج فیه المفسر إلى الفقه هو عندما یرید أن یوسع تفسیره” (ابن عاشور 1420، ج 1، ص: 24).

الفئة الثانیة، الأصولیون مثل الإمام الخمینی (ره) الذین یعتبرون أصول الفقه فی عداد المتطلبات المسبقة للاجتهاد أمراً بالغ الأهمیة، لکنهم یخصصون الأولویة القصوى لـ “معرفة الکتاب والسنة والأنس بهما”. “معرفة الکتاب والسنة” فی ظاهر کلماته، لم تجد مکانة خاصة فحسب، بل وجدت مکانة خاصة بتعبیر “الأهم والألزم”. یبدو أنه عطف کلمة “الأنس” على کلمة “المعرفة” فی عبارة “معرفة الکتاب والسنة والأنس بهما”، لیبین أن معرفة الکتاب والسنة لازمة، ولکن إذا لم تصل إلى مرتبة الأنس، فهی غیر کافیة. لهذا السبب کتب فیما بعد: “إن ما یهم الطالب المستنبط هو “الأنس” بالأخبار الصادرة عن أهل البیت، لأن هذه الأخبار بالنسبة لعلم الفقه بمنزلة الحجر السفلی للرحى الذی تدور علیه عجلة الاجتهاد.

ولإثبات أسبقیة الکتاب والسنة فی منظومة الاجتهاد، استند إلى روایات مثل “أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معانی کلامنا” (أیضاً) (الخمینی ۱۴۲۶ق، الاجتهاد والتقلید، ص: ۹ إلى ۱۳). کلام الإمام الخمینی هذا لا یختلف عن کلام ابن عاشور الذی یقول فی مقدمة تفسیره: “نحن، خلافاً لجلال الدین السیوطي، لم نعتبر الفقه من مقدمات التفسیر، لأن فهم القرآن لا یعتمد على مسائل علم الفقه، لأن الفقه متأخر عن القرآن وفرع عنه، والمکان الوحید الذی یحتاج فیه المفسر إلى الفقه هو عندما یرید أن یوسع تفسیره” (ابن عاشور ۱۴۲۰، ج ۱، ص: ۲۴).

یتجلى هذا المستوى من الاهتمام المنهجی بالقرآن في المنهج الفقهي لآیة الله الخامنئي أیضاً. کتب آیة الله هاشمی شاهرودی (ره) فی مقدمة کتاب المهادنة لآیة الله الخامنئي: “هذا الأثر بالإضافة إلى دقته وعمقه یتمیز عن الآثار الأخرى بهذه السمة المنهجیة وهی أن جمیع أو معظم استدلالات الکتاب تستند بشدة إلى القرآن الکریم.” (خامنه‌ای ۱۴۱۸ق، المهادنة، ص: ۷)

یقول آیة الله الخامنئي عن هجران القرآن في علم الفقه: “هذا العزل القرآنی في الحوزات العلمیة وعدم أنسنا بالقرآن قد سبب لنا مشکلات کثیرة وسیستمر في ذلک، وسیضیق أفکارنا. ذات مرة في السنوات التي سبقت الثورة في مشهد، کنت أقول للطلاب فی درس التفسیر إننا من بدایة “اعلم أیدک الله” إلى أن نحصل على شهادة الاجتهاد، یمکننا ألا نرجع إلى القرآن ولو مرة واحدة! أی أن وضعنا الدراسي هو أنه إذا لم یرجع الطالب إلى القرآن ولو مرة واحدة منذ البدایة، فیمکنه أن یسیر في هذا المسار من البدایة إلى النهایة ویصبح مجتهداً! لماذا؟ لأن درسنا لا یمر بالقرآن أبداً. للأسف، عندما أنظر الآن، أرى أنه لا یزال کذلک…” (۳۱/۶/۱۳۷۰) (كلمة في بدایة درس خارج الفقه: Leader.ir)

هذه الشکوى لآیة الله الخامنئي تشبه إلى حد کبیر شکوى العلامة الطباطبائی (ره) من قلة الاهتمام بالقرآن في علم الفقه (المیزان ج ۵، ص: ۲۷۶). یمکن رؤیة مکانة القرآن في الاجتهاد في مجموعة مباحث النظام الاقتصادي الإسلامی من منظور الشهید الصدر (ره) وفي کتاب “الإنصاف فی مسائل دام فیها الخلاف”.

إن الاهتمام الخاص بمکانة “الأنس بالقرآن والحدیث” لا یعنی التقلیل من شأن علم الأصول في المنظومة الاجتهادیة لهذه المجموعة. فالإمام الخمینی (ره) نفسه استخدم فی بیان ضرورة علم الأصول عبارة تدل على أنه في فکره، بعد القرآن والحدیث، تعطى الأولویة الثانیة لعلم أصول الفقه، لأن علم الأصول یعتبر أیضاً “من المهمات”، ولکن مع ذلک، فقد تم التحذیر من الإفراط في دراسته، واعتبرت النظرة الاستقلالیة لهذا العلم غیر مبررة وغیر لازمة.

بقلم حجة الإسلام والمسلمين محمد عشايري منفرد

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky