«البقيع» جرحٌ في قلب الأمة وراية لا تسقط / علي رضا مكتب دار

الاجتهاد: يُعد البقيع الغرقد أقدم وأقدس مقبرة إسلامية، حيث ضمّ بين جنباته أجساد أعظم الشخصيات التي صنعت تاريخ الأمة.

عبر التاريخ، كانت هناك محطات لم تكن مجرد أحداث عابرة، بل تحولت إلى نقاط فاصلة في الوعي الجمعي للأمة الإسلامية، إذ تكشف هذه المحطات طبيعة الصراع بين النور والظلام، بين حفظ التراث الإسلامي الأصيل ومحاولات طمسه وتشويهه. ومن بين هذه المحطات، يأتي الثامن من شوال ليذكرنا بمأساة هدم قبور أئمة البقيع (ع)، جريمةٌ لم تُمحَ آثارها من ذاكرة المسلمين، بل بقيت شاهدةً على اعتداء صارخ على رموز الإسلام ومقدساته.

البقيع؛ حاضنةُ الصفوة ورمزُ الهوية الإسلامية

يُعد البقيع الغرقد أقدم وأقدس مقبرة إسلامية، حيث ضمّ بين جنباته أجساد أعظم الشخصيات التي صنعت تاريخ الأمة. فهنا يرقد أئمة أهل البيت الأربعة (الإمام الحسن المجتبى (ع)، الإمام زين العابدين (ع)، الإمام محمد الباقر (ع)، الإمام جعفر الصادق (ع))، إضافةً إلى عدد كبير من الصحابة، وأمهات المؤمنين، والتابعين، والعلماء الذين كانت لهم بصمات لا تُمحى في بناء الحضارة الإسلامية.

لم يكن البقيع مجرد مقبرة، بل كان منارةً للروحانية والتاريخ، حيث كان المؤمنون من جميع المذاهب الإسلامية يفدون إليه للزيارة، طلبًا للبركة واستذكارًا لسيرة العظماء المدفونين فيه. إلا أن هذه الرمزية المقدسة، التي كانت تجمع المسلمين على اختلاف مشاربهم، تعرضت لاعتداء آثم عام 1344هـ (1926م) حينما قامت السلطات الوهابية بتدمير معالمه، متذرعةً بفكرٍ متشدد يرفض تقدير الأولياء الصالحين، ويعتبر زيارة القبور نوعًا من الشرك.

جراح البقيع المتكررة: حين تُهدم الرموز مرتين

لم يكن الهدم الذي طال قبور أئمة البقيع في الثامن من شوال سنة 1344هـ هو الأول من نوعه، بل سبقته جريمة أولى سنة 1220هـ، حينما سيطر أتباع الحركة الوهابية لأول مرة على المدينة المنورة.

في تلك المرحلة، هدمت قبور أهل البقيع ورفعت أضرحتهم، وامتدّ التخريب ليطال قبر النبي محمد (ص) نفسه، لولا أنّ أصوات الاعتراض والاحتجاجات الغاضبة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي حالت دون ذلك.

وفي سنة 1233هـ، وبعد إعادة سيطرة الدولة العثمانية على الحجاز، أُعيد ترميم قبور البقيع، وشُيّدت عليها قباب وأضرحة من جديد، وظلّت هذه المعالم قائمة حتى بداية القرن الرابع عشر الهجري.

لكن مع سقوط الحجاز مرة أخرى بيد عبد العزيز بن سعود بدعم من الإنجليز، وفي سياق تحالف سياسي وعقائدي بين آل سعود والوهابية، أُعيد تنفيذ مشروع الهدم تحت ذريعة “توحيد العبادة” ومنع “البدع”، فجُرِّفت القبور وأُزيلت القباب، ونُهبت الممتلكات، وفُرضت رؤية دينية متشددة بقوة السلاح.

وكان من المؤلم في هذه الجريمة الثانية أنّها جرت بصمتٍ دوليّ، حيث لم تحرّك الحكومات الإسلامية ساكنًا، رغم أنّ احتجاجات شعبيّة واسعة اندلعت في إيران والعراق والهند وأماكن أخرى من العالم الإسلامي.

كما يُذكر أنّ من بين القبور التي هُدمت أيضًا، ضريح السيدة فاطمة بنت أسد، أم الإمام علي (ع)، وضريح إبراهيم بن رسول الله (ص)، والقبور المنسوبة إلى نساء النبي (ص) وزوجاته، مما يبيّن اتساع نطاق التخريب ليشمل رموزًا إسلامية جامعة لا يختلف المسلمون في احترامهم.

ردة فعل العلماء والجماهير
ما إن انتشر خبر الهدم حتى عمّت موجات من الحزن والغضب أرجاء العالم الإسلامي. ارتفعت أصوات العلماء في النجف الأشرف وقم وكربلاء، مطالبين المسلمين بالتصدي لهذا الانحراف، وصدرت بيانات شديدة اللهجة من كبار المرجعيات مثل الشيخ النائيني والآخوند الخراساني والسيد شيرازي، يستنكرون هذا العدوان الآثم.

كما نظّمت مظاهرات في بغداد وطهران ومشهد ولكناو والهند، وارتفعت اللافتات التي تندد بالصمت الرسمي العربي والإسلامي، داعية إلى إعادة بناء القبور وصيانة المقدسات.

الدلالة الرمزية لهدم البقيع
هذا السلوك التخريبي لم يكن موجّهًا فقط نحو المعالم المادية، بل كان يستهدف الهوية الإسلامية الجامعة، ويعمل على طمس الذاكرة الروحية للأمة. فالبقيع بما يحتضنه من رموز، يشكّل لوحة حيّة من تاريخ الإسلام، تربط بين النبوة والإمامة، بين الجهاد العلمي والجهاد الاجتماعي، بين الصحابة الأوفياء وآل البيت المطهّرين.

وبالتالي، فإن هدمه كان محاولة لقطع هذا الرابط، وإفراغ الوجدان الإسلامي من محطات الإلهام والتأمل؛ لذا فإن الدفاع عن البقيع، والمطالبة بإعادة إعماره، هو دفاعٌ عن المعنى الحقيقي للتراث الإسلامي، ورفضٌ للهيمنة العقائدية التي تحاول اختزال الإسلام في فهم ضيّق متصلّب.

أهمية إحياء ذكرى الثامن من شوال
الثامن من شوال ليس مجرد يوم حزن، بل هو يوم للوعي والتحرك. إن إحياء هذه الذكرى واجبٌ على كل مسلم غيور على مقدساته، لأنه تأكيد على أن هذه الجريمة لن تُنسى، ولن يُطمس أثرها، بل ستظل شاهدًا على محاولات التشويه والتحريف التي تعرض لها الإسلام عبر التاريخ.

ولا ينبغي أن يقتصر إحياء هذا اليوم على المآتم والبكاء، بل يجب أن يكون مناسبةً لإعادة طرح قضية البقيع على الساحة الإسلامية والدولية، والمطالبة بحقوق المسلمين في إعادة إعمار هذه المقدسات.

مسؤولية المسلمين تجاه البقيع
إن مسؤولية المسلمين تجاه قضية البقيع لا تقف عند التنديد والاستنكار، بل تتعداها إلى العمل الجاد من أجل تحقيق الأهداف التالية:

1. نشر الوعي حول مكانة البقيع وتاريخه: يجب على العلماء والمفكرين نشر البحوث والمقالات التي تبيّن أهمية هذا المكان في التاريخ الإسلامي، کما یجب علیهم تسليط الضوء على سيرة الأئمة المدفونين فيه ودورهم في نهضة الأمة الإسلامية.

2. المطالبة بإعادة بناء البقيع: لا بد من وجود حراكٍ دولي يطالب بحق المسلمين في إعادة إعمار هذا المكان المقدس، تمامًا كما تُحترم مقدسات أتباع الديانات الأخرى في مختلف أنحاء العالم وأیضاً تشكيل لجان حقوقية ودينية ترفع الصوت في المحافل الدولية لوقف الاعتداءات على المعالم الإسلامية.

3. تعزيز وحدة المسلمين حول هذه القضية: يجب أن تكون قضية البقيع عاملًا لوحدة المسلمين وليس للفرقة، لأن جميع المسلمين يقدّرون آل بيت النبي (ص) وأصحابه الأجلاء، کما یجب إقامة مؤتمرات وندوات عالمية تناقش أبعاد هذه الجريمة وآثارها على الأمة الإسلامية.

4. استثمار الإعلام ووسائل التواصل في نشر القضية: یجب تخصيص برامج وثائقية ومقالات دورية تحكي قصة البقيع وما تعرّض له من اعتداءات، کما یجب إنتاج أفلام ومقاطع فيديو تشرح أهمية البقيع وتوثّق مطالب المسلمين بإعادة بنائه.

إن هدم البقيع لم يكن مجرد تدمير لحجارة، بل كان استهدافًا لذاكرة الأمة وهويتها الدينية. واليوم، تقع المسؤولية على عاتق كل مسلم في عدم نسيان هذه الفاجعة والعمل على تصحيح هذا الظلم التاريخي.

فإحياء ذكرى الثامن من شوال هو إحياءٌ للعدالة التاريخية، وصونٌ للكرامة الإسلامية، ودعوةٌ لاستعادة ما سُلب من مقدسات المسلمين. ولن يكتمل هذا الواجب إلا حين نرى البقيع مشرقًا كما كان، يعكس عظمة الإسلام وخلود رموزه، ويكون شاهدًا على أن الحق مهما حورب، فإنه لا يموت ولا يُنسى.

المصدر: أبنا

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky