الاجتهاد: السؤال الذي يدور في الاذهان: هل بالامكان الاستغناء عن اللعان من خلال اللجوء الى البصمة الوراثية لما تورثه من علم شبه يقيني فيما يتعلق بنفي النسب أو اثباته؟ او بعبارة أخرى لو نفى الزوج نسب المولود له من زوجته بواسطة البصمة الوراثية، فهل نكتفي بهذا الدليل؟ أم لابد من اجراء اللعان كونه الطريق الوحيد الذي رسمه لنا الشارع لهذا الأمر؟
اعتنت الشريعة الاسلامية ببناء الأسرة كونها النواة الأساسية للمجتمع، فهي تحارب كل أنواع المآثم التي تهدد كيان هذا المجتمع، كالغيبة والنميمة والقذف، ولعل من أهم هذه المواضيع هو ما يتعلق بوقائع إثبات ونفي النسب، حيث انها من الخطورة بمكان لما يترتب عليه من نتائج مباشرة على الأسرة والعلاقات الاجتماعية، وتهدد بشكل عنيف روابط المحبة والثقة المتبادلة والتعاون، وتزرع بدلاً عنه؛ التشكيك والكراهية، والنتيجة؛ تفكك الأسرة وإنعكاس ذلك على المجتمع، لذا جاءت الشريعة لتولي اهتماماً بالغاً بمسألة الأنساب وتحفظها من الضياع والتشكيك، فوسعت من الطرق التي يلجأ إليها كقرائن للاثبات، كقاعدة «الولد للفراش» و «الاقرار» وغيرها من الطرق الشرعية،
حيث يُعد ثبوت النسب حقاً للولد ويدفع به عن نفسه خطر الضياع، كما يضمن حقاً لأمه تدرأ به الفضيحة والاتهام بالفحشاء، من جانب آخر؛ حقاً لأبيه يحفظ به نسبه وولده من كل دنس وريبة، كما أن التشدد في هذا المجال بهدف الحفاظ على سلامة المجتمع من انتشار الرذيلة والفحشاء، لذا جاء في الكتاب المجيد قوله -عزّ وجل-: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ….}، ونضيف الى هذه المقدمة؛ ما حكم به الإمام علي، عليه السلام، بأن نصاب شهادة إثبات تهمة الزنا او القذف؛ أربعة شهود يحضرون جميعاً، والاستماع الى شهادة كل منهم على انفراد في مجلس القضاء و إلا أهدرت شهادة من حضر منهم دون النصاب، وهذا يؤكد لنا حرص الشارع على تقليص حالات نفي الأنساب وحصرها بالأربعة الشهود وايضاً بالملاعنة، ولم يرتض حتى بالاقرار دليلاً، حال قيام اثباتها وفقا للقواعد الشرعية.
ومع مرور الزمن وما شهدته الساحة العلمية من تطورات وطفرات في التقنيات والأدوات المستخدمة، فيما يتعلق بمسألة الانساب، أدت الى اعتماد وسائل حديثة تعطي نتائج شبه يقينية في مسألة اثبات أو نفي النسب، ومن هذه الطفرات ما أعلن عنه أواخر القرن الماضي وتحديداً في العام 1984 عالِم الوراثة بجامعة ليستر بلندن، آليك جيفري، عندما نشر بحثاً أوضح فيه أن المادة الوراثية مميزة لكل فرد، ولا يمكن أن تتشابه بين اثنين إلا في حالة التوائم المتماثلة فقط، مما يجعل التشابه مستحيلاً، وهذا ما بات يعرف اليوم بـ «البصمة الوراثية» والتي من خلالها يمكن اكتشاف الصلات والقرابات والانساب بين الافراد.
ومع مواكبة الشريعة لمجمل التطورات العلمية في الحياة، بيد أنها تؤكد وجود طرق عديدة لإثبات ونفي النسب في مقدمتها اللعان.
والسؤال الذي يدور في الاذهان: هل بالامكان الاستغناء عن اللعان من خلال اللجوء الى البصمة الوراثية لما تورثه من علم شبه يقيني فيما يتعلق بنفي النسب أو اثباته؟ او بعبارة أخرى لو نفى الزوج نسب المولود له من زوجته بواسطة البصمة الوراثية، فهل نكتفي بهذا الدليل؟ أم لابد من اجراء اللعان كونه الطريق الوحيد الذي رسمه لنا الشارع لهذا الأمر؟
مع فقهاء المسلمين
جرى بحث هذا الموضوع في المحافل العلمية والفقهية في العالم الاسلامي، وقد تباينت هذه الآراء ما بين مؤيد ومعارض، ولتحقيق الإيجاز في هذا الحيّز، ارتأينا الاشارة الى بعض تلك الآراء ومن ثم القيام بتحليلها ومناقشتها.
أولاً: القائلون بتأييد البصمة الوراثية
ذهب جمعٌ من الفقهاء المعاصرين الى جواز الأخذ بالبصمة الوراثية والاكتفاء بها دون اللعان اذا دلّت نتائجها على انتفاء النسب بين الزوج والمولود على فراشه، حيث أجاب سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد علي السيستاني في ردْ على سؤال حول تأييد صحة النسب او انتفائه من خلال الـ(DNA) بقوله: «يمكن الاخذ بها اذا عُدّت طريقة علمية وبينة لا تتخللها الاجتهادات الشخصية، أما المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي، فإنه يرى بأنها لو أورثت العلم والاطمئنان جاز الاعتماد على العلم والاطمئنان الحاصل جراءها، لا عليها بما هي في اثبات النسب دون الاشارة الى نفيه.
أما لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية فأكدت: «اذا ثبت يقيناً بالبصمة الوراثية ان الحمل او الولد ليس من الزوج، فلا وجه لإجراء اللعان، وينفي النسب بذلك، إلا انه يكون للزوجة الحق في طلب اللعان لنفي الحد عنها لاحتمال ان يكون حملها بسبب وطء شبهة، واذا ثبت عن طريق البصمة الوراثية ان الولد من الزوج، وجب عليه حد القذف»(1)
كما ان هنالك من القوانين الوضعية ما اختار هذا الرأي فقد ذهب المشرّع الاماراتي في قانون الأحوال الشخصية لسنة 2005 الذي نص في الفقرة الخامسة من المادة 97 منه على أن: «للمحكمة الاستعانة بالطرق العلمية لنفي النسب بشرط ألا يكون قد تم ثبوته قبل ذلك»؛
كما ان هنالك من المواقف القضائية التي جاءت بذات الاتجاه، فمن ذلك ما قضت به المحكمة الابتدائية في عمان بالأردن في قضية تتلخص وقائعها بأن فتاة أقامت دعوى امام هذه المحكمة تطالب فيها بنفي نسبها من المدعي عليه وزوجته، واثباته من المدعي عليه وزوجته، على أساس أنهما الأبوان الحقيقيان لها، وبعد عدة جلسات قضت المحكمة بناءً على نتائج تحليل البصمة الوراثية أن «المدعي عليه الأول لا يمكن ان يكون والد البنت».
وقد استدل أنصار هذا الرأي بعدة أدلة منها: إن الزوج إنما يلجأ الى اللعان لنفي النسب عند فقد من يشهد له بما رمى به زوجته من أن الحمل ليس منه، وحيث ان الفحص من خلال البصمة الوراثية قد يدل على صحة قول الزوج، فإنها تكون بمثابة الشهود التي تدل على صدق الزوج فيما يدعيه على زوجته.(2)
ويمكن الرد بأن هنالك مصادمة للنصوص الشرعية، والجرأة على إلغائها وعدم الأخذ بها، وهذا لا يجوز بحال، فكيف يجوز إلغاء حكم شرعي بناء على نظريات طبية مظنونة، والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ…}، (سورة الأحزاب، 36). وقد قضى الله سبحانه وتعالى في سورة النور بأن يكون نفي النسب من خلال اللعان دون غيره، وكذلك ما يرويه الشيخ الكليني، في فروع الكافي، أن الرسول الاعظم، صلى الله عليه وآله، قال لسعد بن عبادة: «ان اللّه جعل لكل شيء حدّاً، وجعل لكل من تعدى حداً من حدود اللّه حداً، وجعل ما دون الاربعة شهداء ستوراً على المسلمين».
ثانياً: القائلون برفض البصمة الوراثية
وخلافاً لما مرّ، فإن هنالك من الفقهاء المعاصرين والتشريعات ما ذهب الى عدم جواز الأخذ بالبصمة الوراثية والاستعاضة بها عن اللعان، وبينوا أدلتهم الشرعية والقانونية على ذلك؛
فقد ذهب سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي الى القول بان البصمة الوراثية على الرغم من انها تعد اكتشافا علميا يمكن الاستناد إليه في الاثباتات إلا أنه لا يمكن ان يكون دليلا على نفي النسب بعد ثبوته وفقا للقرائن الشرعية، كقاعدة الفراش،
وقد ذهب الى هذا الرأي كلٌ من سماحة السيد الشيرازي، وسماحة المرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني بقولهم: ان فحص الـ(DNA) لا يُعد دليلاً شرعياً، لا لثبوت النسب ولا نفيه، كما أيّد هذا الرأي جملة من فقهاء القانون والمذاهب الأخرى بقولهم لا ينتفي النسب الشرعي الثابت بالفراش، إلا باللعان فقط، ولا يجوز تقديم البصمة الوراثية على اللعان(3)، وعلى مستوى التشريعات الوضعية فلم نجد ما يمنع من ذلك اذ جاء معظمها ساكتاً عن هذا الامر، سواء في التشريعات الصادرة قبل هذا الاكتشاف العلمي او تلك التي صدرت بعده، تاركة الامر الى فقهاء الشريعة من البصمة الوراثية وامكانية النفي بواسطتها.
وقد برر أنصار هذا الاتجاه قولهم بعدم الجواز في الاستغناء عن اللعان بالبصمة الوراثية بعدة استدلالات منها ما يلي:
أولاً: أن اللعان حكم شرعي ثابت بالكتاب والسنة وله صفة تعبدية في إقامته، فلا يجوز إلغاؤه، وإحلال غيره محله مهما بلغت من الدقة في نظر المختصين بها(4)؛ حيث ان الآيات المباركة (6ــ9) من سورة النور وبعض ما روي عن النبي، صلى الله عليه وآله، تبين ان الزوج اذا لم يملك الشهادة إلا نفسه فيلجأ الى اللعان، وإحداث البصمة الوراثية بعد الآية تزيد على كتاب الله، ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.(5)
ثانياً: ان المشرع قد كفل للمرأة الستر من خلال اللعان، فإذا حدث اللعان بينها وبين زوجها، فإنه لا يُعرف الكاذب فيهما، والرجوع الى الحقائق العلمية في نفي النسب يفضي الى إهدار هذا الستر؛ وفضح الأعراض، وهذا مناقض لمقصد المشرع، وما ناقض مقصد الشرع؛ لا يجوز الأخذ به، فلا يجوز الأخذ بتلك الحقائق في نفي النسب. (6)
ويرد على هذا القول من عدة أوجه وحسب الآتي:
1 ـ ان اللعان شرّع رعاية لحق الزوج، وليس رعاية لحق الزوجة، فهو يدفع عنه الحد، ونسب ولدها.
2 ـ كذب المرأة في اللعان دفعاً للعار عن نفسها ليس فضيلة، بل انه موجب لغضب الله عليها؛ فكيف يكون الستر في غضب الله وسخطه؟
3 ـ يمكن لنا ان نتساءل أيهما أشد خطراً؛ ستر المرأة بكذبها على الله تعالى، أم إدخال نسب شخص على رجل لا علاقة له به؟!
ثالثاً: ان الأحكام الثابتة في نصوص شرعية لا يبطل العمل بها الا بنصوص شرعية تدل على نسخها، وقد انقطع النسخ بانقطاع الوحي وبالتالي فإن القول بالاكتفاء بالبصمة الوراثية في نفي النسب فيه إبطال او إلغاء لحكم شرعي ثابت بالكتاب والسنة وهذا أمر باطل. (7)
ويرد على هذا القول بأن العمل بالبصمة الوراثية لا يتنافى مع أحكام الشريعة الاسلامية حيث جاء في كتاب الله العزيز:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سورة فصّلت، 53).
وفي الختام بعد النظر الى ما تقدم والرجوع الى آراء مراجعنا العظام، فإنه لابد من القول ان هذا الاكتشاف العلمي سيساهم بالتأكيد في اثبات الكثير من الوقائع، فإن ظهرت إمارات العدل وأسفر وجهها بأي طريق كان، فثمّ شرع الله ودينه، والله سبحانه وتعالى، أعلم وأحكم من أن يخصّ طرق العدل وإماراته وأعلامه بشيء ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة؛
ولكن يجب ان لا تؤدي تلك الاكتشافات الى خلخلة النظام الاجتماعي، وما سعت إليه القواعد التي وضعها الشرع للحفاظ على الاسرة والمجتمع. كما ان من قال بجواز اللجوء الى البصمة الوراثية في نفي الأنساب فإنه يشدد على ألّا يجعل الباب مفتوحا على مصراعيه باللجوء إليها إلا اذا اقتضت الضرورة وبترخيص من الجهات الشرعية المختصة او الجهات القضائية فقط.
الهوامش:
1- وهذا ما ذهب اليه ايضاً، الدكتور سعد الدين مسعد الهلالي، في بحثه المقدم للمجمع الفقهي الحادي عشر برابطة العالم الاسلامي تحت عنوان «البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها».
2- الشيخ محمد المختار السلامي، «إثبات النسب بالبصمة الوراثية» ـ بحث مقدم لندوة الوراثة والهندسة الوراثية التي أقامتها المنظمة الاسلامية للعلوم الطبية في الكويت عام 1998 ـ ص12.
3- ومنهم: الدكتور علي محي الدين القرداغي، والدكتور عبد الستار فتح الله سعيد، والدكتور محمد الأشقر، انظر في ذلك: حسني محمود عبد الدايم ـ «البصمة الوراثية ومدى حجيتها في الإثبات»، دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ـ القاهرة، دار الفكر الجامعي ـ 2011 ـ الطبعة الثانية ـ ص 798.
4- أشرف عبد الرازق ويح ـ موقع البصمة الوراثية من وسائل النسب الشرعية ـ دار النهضة العربية، القاهرة ـ ص 132.
5- حسني محمود عبد الدايم ـ مصدر سابق ـ ص 799
6- القرضاوي ـ ثبوت النسب بالبصمة الوراثية حق للمرأة لا للرجل
7- الدكتور عمر سبيل ـ البصمة الوراثية والنسب ـ دار النهضة العربية، القاهرةـ 2000 ـ ص 29.
المصدر: مجلة الهدى – العدد (298) السنة 10 – شعبان المعظم 1438هـ/2017م