الاجتهاد: في عصرٍ تتسارعُ فيه التغييرات وتتشابكُ فيه التحدّيات، وتغدو الأفكارُ غيمةً تحجبُ الفهمَ عن البصيرة، صار النظر في دور الذكاء الاصطناعي في ميادين شتى، ومنها الاجتهاد الديني وتحليل المسائل الشرعية، ضرورةً جليّةً، ومهمّةً جوهريةً تستدعي وقفةً للتدبر، وتدقيقاً في التبصر.
وها نحن نسوق فيما يلي إشاراتٍ تضيء جوانب هذا الموضوع العميق، وتكشفُ بوارق بريقه.
1/. التمييز الدقيق بين الميدانين: التنفيذ والاجتهاد:
ينبغي التمييز الدقيق بين ميدانين رئيسيين، هما التنفيذ والاجتهاد، والتأمّل في أدوار كلٍّ منهما وحدود الذكاء الاصطناعي فيهما، والفصل بين خصائص التنفيذ وروح الاجتهاد.
أ. ميدان التنفيذ: هو ميدان القرارات الآلية والعمليات السريعة، حيث تتجلّى الحاجة إلى الدقّة الفائقة وسرعة الأداء ومعالجة بحرٍ واسعٍ من المعلومات.
وفي هذا الميدان، يظهر الذكاء الاصطناعي كعونٍ ثمينٍ، يحملُ بفضل خوارزمياته المتقدمة قدرةً جبّارةً على إتمام المهامّ العسيرة بوتيرةٍ متسارعة.
وهذا النمط من التشغيل الآلي يتيح منافع عظيمةً، لا سيما في الظروف التي تتطلّب الدقّة الحسابية وسرعة الإنجاز.
ب. ميدان الاجتهاد: هو ميدان التأمل العميق في مُعينِ الشريعة، والقدرة على تطويع قواعدها وروحها لتنسجم مع واقعيات العصر. إنه مسارٌ حيٌّ وحركةٌ نابضةٌ، تستدعي من المجتهد إلمامًا بالغًا بجوهر النصوص واستيعابًا لأسرارها، وإدراكًا لخطوطها وروحها ومقاصدها.
الاجتهاد رؤيةٌ بصيرةٌ تتنقل بين حكمة الشريعة و حقائق الواقع، وتدير دفة الزمان والمكان بتوازنٍ دقيقٍ، مُواكِبًا لتغيرات العصر. هو عمليةٌ فقاهتيةٌ تتطلب عقلًا مستوعبًا ورؤى ثاقبةً، توازن بين النصوص الخالدة والمستجدات المتجددة، وتخطو بخطى ثابتة على أرض التحديات التي لا تعرف النهاية، لتبقى شعلةً ساطعةً في سماء الدين والواقع.
في هذا الميدان، لا يقتصر الأمر على استنباط الأحكام، بل يشمل أيضاً القدرة على التمييز بين ثبات الأصول وتغيّر الفروع، والنظر إلى عمق النصوص بأفقٍ يتّسع لتغيرات المجتمعات، وتعقيدات الأزمنة.
وهنا، يتجلّى دور الذكاء الإنساني والتجربة الفقهية، بوصفهما ركنين أساسيين من أركان الاجتهاد؛ حيث لا تكتفى المعادلات الجامدة أو التحليلات الصامتة، بل تتناغم في الاجتهاد روح النصوص مع نبضات الواقع، في انسجامٍ يوائم بين ثبات الدين وحركة الحياة، ليظلّ الاجتهاد دائماً شعلةً تهدي السبيل، ونبراساً يستضيء به العالِمُ في زحمة المتغيرات.
2/. دور المشاعر الإنسانية في الاجتهاد
الاجتهاد ليس عملاً عقلياً محضاً، ولا تحليلاً بارداً فقط؛ بل هو طاقة متوهّجة، تستمدّ قوتها من العواطف الإنسانية؛ من الرحمة التي تلطف الأحكام، ومن العدل الذي ينصف المظلومين، ومن التقوى التي تنير طريق القرارات. هذه العواطف الجليلة تسهم في رسم مسار الاجتهاد، وتهدي إلى نتائج متوازنة، لا تحيد عن الحق، ولا تنأى عن الخير.
في هذا الميدان، يتكامل العقل والإحساس، كجناحين يمكّنان المجتهد من التحليق في آفاق القضايا المعقدة، ليبلغ حلولاً توافق حاجات الإنسان ومتطلبات الأخلاق من منظور الدين.
وبما أنَّ الشريعة هي انعكاسٌ لصفات الله في أفق السلوك البشري، فإنّ الإنسان وحده، إذا كان فقيهاً، يستطيع أن يوازن بنظرته بين العقل والصفات الفطرية التي تتيح له إدراك تجليات الصفات الإلهية. في هذا التوازن، يبرز له إطارٌ مرنٌ يمكّنه من فهم العلاقة بين العفو والتقوى، وبين العدل والتقوى، ليبني بذلك قرارات تعبّر عن روح الشريعة وقيمها السامية.
ورغم ما يتمتّع به الذكاء الاصطناعي من دقةٍ في معالجة البيانات، إلا أنّه يفتقر إلى ذاك النبض الحيّ الذي تحمله التجربة العاطفية. هذا الافتقار يجعله قاصراً عن إدراك عمق القضايا التي تتطلب مزيجاً من الدقة العقلية والوزن الأخلاقي، تلك القرارات التي تُبنى على تفاعلٍ حقيقي بين العقل والإحساس، وتجسّد أسمى معاني الفطرية الإنسانية.
3/. ديناميكية العواطف وحدود الذكاء الاصطناعي
من أسمى خصائص الإنسان ديناميكية عواطفه وتحوّلاتها المتدفّقة، فتلك العواطف تمنحه مرونةً في مواجهة المستجدات، وقوةً في معالجة التحديات، ليستفيد من تجاربه المتراكمة لصياغة حلول تتماشى مع متغيّرات الزمن. والاجتهاد، بطبيعته، يحتاج إلى هذه المرونة النابضة؛ فالمسائل المتجددة مع الأيام تتطلب إعادة النظر والتأمل في أساليب الماضي واستنباط رؤى جديدة تنسجم مع معطيات العصر.
أما الذكاء الاصطناعي، فحيث يفتقر إلى ديناميكية المشاعر وتفاعلات الوجدان، ويعتمد على بياناتٍ ماضية وتجارب ثابتة، يبقى عاجزاً عن مجاراة الحياة المتحوّلة. ولهذا، لا يمكن أن يكون سوى أداة مساعدة، عاجزة بمفردها عن تقديم قرارات متجددة، تواكب تعقيدات المجتمع العصري وتتلاقى مع نبض أحاسيسه وحاجاته.
4/. الفؤاد في القرآن الكريم ورابطة العقل بالإحساس
في القرآن الكريم، ذكر الفؤاد كموطنٍ تجتمع فيه الحكمة العقلية مع العاطفة الفطرية، فتتآلف فيه أنوار العقل بأصداء القلب، وتتلاقى فيه صفات الله مع إشراقات الفطرة، وتتحد فيه الحقائق المكتسبة من العالم الخارجي بما تنقله الحواس، ليغدو ملتقى لهذه الأبعاد وجامعًا لشتات المعارف. ومن جهة أخرى يرتبط فؤاد هذا الإنسان الفقيه، بمصادر الشريعة اتصالًا يُثمر بصيرةً فقهيةً عميقةً ورؤيةً شاملة.
فإن حاولنا أن نجعل الفقه ينطلق من غير هذا الإطار المتكامل، وسعينا أن نبنيه بمعزلٍ عن الفؤاد، لكان كياناً منقوصاً، وانقطعت تلك الرابطة المتينة بين الفطرة وخالقها، وانحسر منهج الاقتراب من الشريعة والاستنباط من معينها.
وأما في عالم التحليل المستند إلى المعارف المكتسبة، فهنا يبرز الذكاء الاصطناعي بقدراته في دقة التحليل وسرعة الاستنتاج، لكنه يظل عاجزاً عن ولوج ذاك الأفق الإعجازي الذي يتجلى في الفؤاد، حيث يلتقي العلم بالوجدان، وتشرق الحكمة الإلهية في سماء الفهم الإنساني، لتُضيء دروب الحق وتُرشد العقول إلى معاني الرشد.
فتلك رابطةٌ لا يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يصل إليها أو أن يفهمها، لأنه يفتقر إلى الحس الإنساني الذي يُمَكّن من فهم تلك التفاعلات المعقدة.