الإمام الخميني وتربية تلاميذه على النزعة الحقيقية وحرية الفكر

الاجتهاد: من الآثار المهمة التي أوجدها الإمام الخميني “قدس سره” في الطريقة الدراسية لطلبته هي التي أثمرتها وصاياه الدائمية لهم بأن لا يقنعوا بقراءة الكتب أو كتابة ما يسمعونه في الدرس ومطالعته دون تدبّر بل عليهم أن يتفكروا فيه بأنفسهم

كان يقول دائماً : إذا سمعتم شيئاً من الأستاذ فتفكروا فيه فمثلاً أطفأوا المصباح في الليل وبدلاً من قراءة الكتاب فكروا في الموضوع الذي تعلمتموه واجتهدوا في تنضيجه واستيعابه من جميع الجوانب (۱).

لا تعطلوا عقولكم

كان الإمام يطيل النقد والمناقشة لأقوال المرحوم الشيخ محمد حسين الكمباني في الأصول لأنها ممتزجة بالمسائل الفلسفية والفقهية، فكان يبينها بصورة مستوعبة ويعرض رأيه الخاص بشأنها في الموارد التي له رأي بشأن تلك الآراء.

كان يناقش بعمق ودقة أقوال العلماء الكبار ويوصي باستمرار بذلك ويقول: الا ينبغي أن تصدكم عظمة العلماء الأجلاء عن مناقشة آرائهم، إن كلام العظماء وإن كان عظيماً إلا أن عليكم أنتم أيضاً أن لا تعطلوا عقولكم (٢).

لا تذعنوا لما تسمعونه مني

كان الإمام يناقش بقوة وجدارة في درسه آراء عظماء العلماء الذين بلغوا في البحث العلمي ذرى نضوجه، ولذلك كانت دروسه مغذية لزملائنا ومقوية لهم، وإضافة لذلك كان يسعى لبعث الشجاعة العلمية في طلبته بتكرار الوصية لهم بأن لا تذعنوا بحالة التعبد للأقوال التي تسمعونها مني، فكروا فيها، ناقشوا الأدلة ، حرروا عقولكم واستدلوا بأنفسكم ولا تقولوا : قال الأستاذ! ليكن الأستاذ قد قال شيئاً، عليكم أن تناقشوا أنتم بطاقتكم العقلية هذه الأقوال .(٣)

ليكن لكم درس أصلي وأستاذ محوري

إقترح بعض الطلبة في أحد الأيام وقبل أن يبدأ الإمام إلقاء درسه – بأن يقدم بعض الشيء موعد درسه لكي يتمكنوا من حضور آخر لأحد الأساتذة يبدأ بعد درس الإمام مباشرة، وكان هذا الاقتراح سبباً لأن يوجه الإمام في ذلك اليوم مجموعة من الوصايا المهمة للطلبة منها ما تضمنه قوله: اجتهدوا في أمر اختيار درس محوري لأحد الأساتذة وليكن اجتهادكم في الاستفادة منه، فإذا حضرتم درساً آخر فليكن ثانوياً إلى جانب ذلك الدرس الأصلي والمحوري، فلا تضحوا بالدرس المحوري من أجل الدرس الثانوي، إبحثوا جيداً واختاروا من بين دروس الأساتذة درساً معيناً يكون محورياً لنشاطكم الدراسي، فالذهاب من هذا الدرس إلى ذاك لا يناسب طالب العلم ولا ينفعه بشيء.

إن الدراسة لا تعني أن يقضي المرء عمره في حضور الدروس، أو أن يحضر تدريس الفقه من بابه الأول إلى بابه الأخير، واختاروا أحد أبواب فقه المعاملات وأحد أبواب فقه العبادات وادرسوا هذين البابين بدقة وعمق ثم إقرأوا بقية أبواب المعاملات والعبادات مروراً، فلا يمكن دراسة جميع أبواب الفقه (٤).

ينبغي زيادة النقاش أثناء الدرس
طلب بعض طلبة الإمام منه أن يوصي في درسه الحاضرين بالإقلال من طرح الإشكالات والمناقشات اثناء الدرس، فأجابهم: أعتقد أن مقدار طرح الإشكالات والمناقشات أثناء الدرس دون الحد المطلوب وينبغي زيادته» (٥)

لا تذعنوا بسرعة لأقوال الأستاذ

قال الإمام يوماً ضمن نصيحة وجهها لنا أثناء إلقائه الدرس في المسجد الأعظم في قم “تعاملوا دائماً بحالة من سوء الظن مع ما تسمعونه من الأستاذ ولا تذعنوا لأقوائه بسرعة، فلا يمكن أن تبلغوا الاجتهاد بدون ذلك !!! وأضاف: إسعوا إلى أن تقولوا: لا، بعد كل قول، تسمعونه من الأستاذ فتردون عليه : إن قلت كذا أقول كذا، ثم دعم قوله هذا بنقل الحادثة التالية : عندما كتب سماحة الشيخ محمد علي الأراكي تقريرات دروس المرحوم الحاج الشيخ (عبد الكريم الحائري)، قدمها له وبعد أن قرأها قال له : لقد أجدت كتابة هذه التقريرات، لقد أدركت وفهمت ما قلته أنا في الدروس، ولكن في هذه التقريرات عيباً واحداً هو أنك لم تستشكل على ما قلته ولا في مورد واحد، فكيف يمكن ذلك وكلامي لبس وحياً منزلاً لا يمكن نقضه ؟ !(٦).

من محاسن كتابك الانتقادات العلمية لأقوالي

إن من الكمالات التي تحلى بها الإمام هي أن كان يبعث الحماس العلمي لمتابعة الدراسة لدى طلبته من خلال طبيعة تعامله معهم وسمو أخلاقه، لقد كتبت مرة تقريرات لدروسه أوردت فيها بعض الإشكالات على ما قاله فيها ثم قدمت له هذه التقريرات وأبقاها عنده عدة أيام، وقد رآني يوماً في الطريق – قبل أن يرجعها لي – فقال لي ـ بابتسامة خاصة ـ: لقد قرأتُ كتابك فوجدته جيد جداً، وإن محاسنه الانتقادات التي قمتم بها فيها، ثم شجعني كثيراً وإلى درجة أثارت في الخجل (٧) .

إيرادكم لهذه الاعتراضات جدير بالتقدير

لن أنسى الأيام الأولى لحضوري دروس البحث الخارج للإمام. كنتُ يومها أكتب – وبتشجيع وحث منه – تقريرات دروسه الفقهية في أبواب المعاملات تحت عنوان «القواعد الفقهية»، وقد قلت له يوماً – ونحن في طريق العودة من المسجد إلى المنزل بعد انتهاء الدرس : لقد أنهيت كتابة مقدار من بحوثكم فهل تأذنون لي بعرضها على سماحتكم؟ فوافق على ذلك مرحباً الأمر الذي أثار تعجبي بشدة، فقد وافق على قراءة ما كتبته أنا على الرغم من كثرة مشاغله وابتلاءاته، وبذلك شجعني في الواقع على متابعة هذا النشاط العلمي.

ثم قدمت له ما كتبته وبعد سبعة أو ثمانية أيام أعاده لي بواسطة أحد السادة وقد أرفقه بصفحتين أجاب فيها على بعض الإشكالات التي أوردتها على ما قاله في دروسه، وناقشها بدقة الأمر الذي سرني كثيراً لأنه يكشف عن شدة تواضع الإمام لطالب علم أخذ للتو بحضور دروس البحث الخارج.

لقد سرني كثيراً بشدة تلطفه بي – وأن الطالب المبتدىء- ، فقد وافق بترحيب على استلام ما كتبته ثم قرأه بدقة، وكتب صفحتين في مناقشة الإشكالات التي أثرتها بل وشجعني على إيرادها وقال: «إن إستشكالكم هذه الاعتراضات أمر جدير بالتقدير (٨) !!

كان يفتح للطلبة مجال المناقشة لأقواله

كان الإمام ملتزماً بالجلوس فترة بعد انتهاء إلقائه الدرس، فكان الطلبة يعرضون عليه الأسئلة ويستمعون لتوضيحاته، وكنت أحد الذين يجلسون عنده لتوجيه مثل هذه الأسئلة، وكان تعامل الإمام في هذه الجلسات التي تعد خصوصية مربياً للغاية، كان يجيب بكل مودة ورحابة صدر على كل طالب يستشكل على أقواله في الدرس، وكانت هذه الإشكالات تُضاف إلى الاعتراضات التي يوردها الطلبة على أقواله أثناء الدرس؛ لقد كان يجذب روح الطالب إليه ويفسح له مجال التساؤل والمناقشة، وهذا أول ما تعلمناه من دروس الإمام (٩) .

قرأ تقريراتي بالكامل

كنا نعرض على الإمام – بصورة مستمرة – ما نكتبه من تقريرات دروسه فكان يراجعها ويُنقحها، ثم نقوم بعد ذلك إعادة كتابتها، لقد قرأ تقريراتي لدروسه بالكامل، وكان يجيب على الإشكالات التي أوردتها حسب فهمي – على بعض آرائه (١٠) .

هذه أقوالي فأين أقوالك
كان الإمام يسعى إلى أن يصبح الذين يحضرون دروسه أصحاب رأي تجاه ما يسمعونه من الأستاذ فلا يكتفون بسماع الدرس، بل يقومون بمناقشة وتحليل ما يقوله المحاضر.

وقد نقل الإمام مرةً عن أستاذه أن أحد طلبته عرض عليه تقريرات دروسه فقال له كل ما كتبته هي أقوالي فأين أقوالك؟! إذا لم يكن لديك ما تقوله فاكتب على الأقل بعض الشتائم في الحاشية !! وقد قال الإمام مرة أثناء الدرس : ليس هذا مجلس للتعزية لكي تكتفوا بالإصغاء ! إنه درس وما يميز مجلس الدرس الإعتراض على ما يقوله المحاضر والإعراب عن الآراء (١١).

هل هذا درس أم ملجس تابيني

كان الإمام يعتقد بأن من الضروري أن يستشكل الطلبة على أقوال الأستاذ أثناء إلقائه الدرس فإذا لم تُثار مثل هذه الإشكالات والأسئلة قال: لماذا أنتم صامتون؟ هل هذا درس أم مجلس تأبيني ؟!».

لكنه – وفي الوقت نفسه – لم يكن يسمح بتكرار السؤال والجواب بشأن موضوع واحد مرتين أو ثلاث فإذا تكرر ذلك قال: أليس هذا مجلس تعزية لكي نكرر فيه الأسئلة والأجوبة نفسها، وكان يقول أيضاً بهذا الخصوص: كان في مجلس تدريس المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري هذا النقص، أي أن الشيخ كان يتطرق إلى موضوع معين، فيثير الطلبة بعض الأسئلة ويستمر النقاش بشأنها إلى أن ينتهي وقت الدرس دون أن يتم الشيخ كلامه بشأن موضوعه (۱٢).

 

الهوامش 

1) حجة الإسلام والمسلمين الشيخ أكبر هاشمي الرفسنجاني، مجلة (ندا)، العدد الأول

(٢) حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد رضا الناصري، كتاب (خطوات في أثر الشمس). ج : ٤، ص : ٢٥٨.

(٣) آية الله الشيخ أبو القاسم الخزعلي، المصدر السابق، ج ۳، ص:

(٤) آية الله الشيخ عباس علي عميد الزنجاني، مجلة (حوزة)، العدد المزدوج : ۳۷ – ۳۸ ص : ٩٥

(٥) آية الله الشيخ جعفر السبحاني، مجلة (حوزة)، العدد : ٣٢.

(٦) حجة الإسلام والمسلمين السيد مجتبى الرودباري مجلة (۱۵ خرداد)، العدد المزدوج ٥ _ ٦

(٧) آية الله الشيخ حسن القديري صحيفة جمهوري إسلامي الملحق الخاص بمناسبة الذكري السوية الثانية لوفاة الإمام

(٨) حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد السجادي الإصفهاني، كتاب (خطوات في أثر الشمس)، ج ۳، ص: ۲۲۹

(٩) آية الله الشيخ محمد اليزدي، المصدر السابق، ج:۱، ص: ٣١٤

(١٠) آية الله الشيخ جعفر السبحاني، المصدر السابق، ج ۳، ص: ٠٢١٥

(١١) آية الله الشيخ عباس علي عميد الزنجاني کتاب (حوادث خاصة من حياة الإمام الخميني)، ج : ٥ ص : ١٣٧.

١٢) حجة الإسلام والمسليمن السيد محمد حسن المرتضوي اللنجرودي مجلة حوزة العدد ٥٥

١٣) آية الله الشيخ جعفر السبحاني مجلة حوزة العدد ٣٢

 

 

المصدر: كتاب قبسات من سيرة الإمام الخميني في ميدان التعليم الحوزوي والمرجعية ، إعداد: غلام علي رجائي.

نبذة عن الكتاب

يختص هذا الجزء من هذه الموسوعة كتاب (الإمام في ميدان التعليم الحوزوي والمرجعية) بعرض لطائفة من الذكريات التي تبين جوانب من سيرة الإمام في الوسط الحوزوي في اثنتين من أهم الحوزات العلمية الشيعية هما حوزة النجف الأشرف وحوزة قم المقدسة.

ولا يخفى أن لهذه الحوزات دوراً مهماً ومحورياً في حفظ الإسلام والدفاع عنه وترويجه وتعريف الناس بأحكام مدرسة أهل البيت في الحوادث الواقعة المستجدة وفي شؤونهم الحياتية المختلفة وخدمتهم وقيادتهم على الصراط المستقيم, فهي التي تخرج الفقهاء الذين هم حصون الإسلام, والعلماء الربانيين الذين يبلغون رسالات ربهم ويخشونه ولا يخشون سواه, وطلبة العلم المجاهدين المرتوين من فقه الكتاب والسنة المحمدية النقية التي حفظها أئمة العترة النبوية الطاهرة- صلوات الله عليهم أجمعين

 

هوية الكتاب:

اسم الكتاب: الإمام في ميدان التعليم الحوزوي والمرجعية

النشر: الدار الإسلامية بيروت – لبنان

إعداد: علي الرجائي

عدد الصفحات: 162 صفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky