الاجتهاد: لقد كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على أتمّ العلم.. بجميع العلوم، ومنها : علم الفقه، حيث كان كل واحد منهم بحراً زاخراً في علم الفقه والشريعة، سواءاً يومَ كانوا في عمر الطفولة والصبى أو الشباب والكُهولة. ومن جملة هؤلاء الأئمة الطاهرين : هو الإمام الجواد (عليه السلام).
نذكر هنا بعض الأحاديث الواردة حول الجانب الفقهي في حياة الإمام الجواد (عليه السلام).
روي عن علي بن ابراهيم بن هاشم ، قال : حدثني أبي : لما مات ابو الحسن الرضا ( عليه السلام ) حَجَجنا، فدخلنا على أبي جعفر (عليه السلام) و قد حَضَرَ خلق من الشيعة – من كل بلد. لينظُروا إلى أبي جعفر. فدخل عمّه عبد الله بن موسى، و كان شيخاً كبيراً نبيلاً ، عليه ثياب خَشِنة .. و بين عينيه سجادة (۱) فجلس.
وخرج أبو جعفر (عليه السلام) من الحجرة، وعليه قميصُ قَصَب ، و رداء قَصَب(2) و نُعل جُدُد بيضاء. فقام عبد الله فاستقبله، و قَبَّل بين عينيه، وقام الشيعة، و قعد أبو جعفر (عليه السلام ) على كُرسي، ونظر الناسُ بعضهم إلى بعض وقد تحيّروا لِصِغَر سنّه .
فابتَدر رجل من القوم(3) فقال – لعمّه – : أصلَحَك الله ، ما تقول في رجل أتى بهيمة ؟(4)
فقال (عبدالله) : تُقطع يَمينُه و يُضرَب الحدّ؛
فغضب أبو جعفر (عليه السلام ) ثم نظر إليه فقال : ياعمّ ، إتق الله .. إتق الله ! إنه لعظيم أن تقف يوم القيامة بين يدي الله (عز وجل) ، فيقول لك : لِمَ أفتيتَ الناس بما لا تعلم ؟!
فقال له عمّه: استغفر اللهَ يا سيّدي ، اليس قال هذا أبوك .. صلوات الله عليه؟
فقال أبو جعفر (عليه السلام ) : إنما سُئل أبي عن رجل نَبَشَ قبر امرأةِ فنكحها. فقال أبي : «تُقطع يمينه للنَّبش ، ويُضرَب حد الزنا ، فإنّ حرمة الميّتة.. كحرمة الحيّة (5).. فقال : صَدقتَ يا سيّدي ، و أنا أستغفر الله . فتعجَّب الناس .. وقالوا [ لأبي جعفر ]: ياسيدنا أتأذن لنا أن نسالك ؟ قال : «نعم». فسالوه … » إلى آخر الخبر(6) .
حدّ قطع يد السارق
روي – في كتب الحديث – أن رجلاً جاء إلى المعتصم العباسي .. واعترف على نفسه بأنه قد سرق و طلب أن يجرى عليه حد السرقة .
فَجَمَع المُعتَصِم فقهاء البِلاط في مجلسه، وقد أحضَرَ الإمام الجواد ( عليه السلام) أيضا في ذلك المجلس ، فسأل المعتصم من الفقهاء .. عن تحديد موضع قطع يد السارق.
فقال ابن أبي دُؤاد : من الكروسوع(7). و وافقه جمع من أولئك الفقهاء !
قال المعتصم : وما الحجة في ذلك ؟(8)
فقال : لأن اليد هي الأصابع والكفّ .. إلى الكرسوع، لقول الله في التيمّم : ( فامسحوا بوجوهكم و أیدیكم) (9) .
و أجاب جمع آخر من الحاضرين : بل يجب القطع من المرفق .
قال المعتصم : و ما الدليل على ذلك ؟
قالوا : لأن الله لمّا قال : ( وأیدیكم إلى المرافق) في الغَسل .. دلّ ذلك على أن حدّ اليد : هو المرفق .
فالتفت المعتصم إلى الإمام الجواد ( عليه السلام) وقال : ما تقول في هذا يا أبا جعفر ؟
فقال : قد تكلّمَ القوم فيه يا أمير المؤمنين !! قال : دعني ممّا تكلموا به ، أي شيء عندك ؟ قال : أعفِني عن هذا يا أمير المؤمنين !! قال : أقسمتُ عليك بالله لمّا أخبرتَ بما عندك فيه.
فقال : أما إذا أقسمتَ عليّ بالله ، إني أقول : إنهم أخطاوا فيه السنّة ، فإن القَطع يجب أن يكون من مِفصَل أصول الأصابع ، فيُترك الكفّ .
قال المعتصم : و ما الحجة في ذلك ؟
قال الإمام : قولُ رسول الله : « السجود على سبعة أعضاء : الوجه و اليدين والركبتين و الرِجلين » ، فإذا قطعَت يده من الكُرسُوع أو المرفق .. لم تبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك و تعالى : ( و أن المساجد لله ) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يُسجَد عليها ( فلا تدعوا مع الله أحدا) و ما كان لله .. لم يُقطَع.
فأعجب المعتصم ذلك ، و أمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع .. دون الكف (10) .
الهوامش
(1) بين عينيه سجادة : كناية عن أثر السجود على جبهته .
(۲) أي: مصنوع من نبات الأرض ، مثل الكتان.
(3) إبتدر : بادر وتقدّم .
(4) أي : نكح حيواناً .
(5) أي : إن حرمة المرأة بعد مماتها .. كحرمتها في حال
حياتها.
(6) کتاب « الإختصاص » للشيخ المفيد، ص ۱۰۲، حدیث محمد بن علي بن موسی الرضا ( عليهم السلام ) و عمه عبدالله ابن موسی .
(7) الكرسوع : طرف الزند الذي يلي الخنصر ، وهو المفصل
بين الساعد و الكف.
(8) أي : ما الدليل على هذا التحديد؟
(9) سورة النساء ، الآية 43.
(10) کتاب «بحار الأنوار » للشيخ المجلسي ، ج50، ص 5، باب «مولده و وفاته و أسمائه و القابه عليه السلام » حدیث ۷. و قد نقلنا هذا الخبر بالمضمون .. وبتلخيص منا.
المصدر: كتاب: الإمام الجواد من المهد إلى اللحد / الجزء الأول / ص 308 / للمؤلف العلامة الخطيب السيد محمد كاظم القزويني
تحميل كتاب الإمام الجواد من المهد إلى اللحد / الجزء الأول