الاجتهاد: الشيخ الحر العاملي كان أخباريا صرفا في اتجاهه الفقهي ولكن لم يكن متطرفا يشنع على الأصوليين كالمولى الأمين الاسترآبادي، ولهذا نراه يذكر في كتبه – وخاصة في الوسائل وأمل الآمل – أعلام الفريقين بكل تجلة واحترام ولا يحط من مرتبة أي واحد لسبب اتجاهه الخاص في الفقه – إذا صح هذا التعبير. بقلم المحقق السيد احمد الحسيني.
في اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة ۱۱۰۴هـ کان مغرب شمس الفضيلة والإفاضة والإفادة، ومحاق بدر العلم والعمل والعبادة، شيخ الإسلام والمسلمين، وبقية الفقهاء والمحدثين، الناطق بهداية الأمة وبداية الشريعة، الصادق في النصوص والمعجزات و وسائل الشیعه، الإمام الخطيب الشاعر الأديب، عبدربه العظيم العلي الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الحر العاملي (الذي كان متوطنا في المشهد المقدس، وأعطي منصب القضاء وشيخوخة الإسلام في تلك الديار، وصار بالتدريج من أعاظم علمائها الأعلام وأركانها المشار إليهم بالبنان)، المنتقل إلى رحمة باريه عند ثامن مواليه.
في ليلة القدر الوسطى وكان بها وفاة حيدر الكرار ذي الغيرِ
يا من له جنة المأوى غدت نزلاً أرقد هناك فقلبي منك في سعر
طَويتَ عنّا بِساطَ العلم مـعتلياً فَاِهنأ بـمقعد صدقٍ عند مـقتدرِ
تاریخ رحلته عاما فجعت به وأسرى لنعمة بارية على قدر
وهو أخي الأكبر، صليت عليه في المسجد تحت القبة جنب المنبر، ودفن في أيوان حجرة في الصحن الروضة الملاصق لمدرسة میرزا جعفر، وكان قد بلغ عمره اثنين وسبعين، وهو أكبر مني بثلاث سنين، إلا ثلاثة أشهر.( ذکر وفاته أخوه الشيخ أحمد في درّ المسلوك.) (1)
الإتجاه الفقهي للشيخ الحر العاملي
هناك اتجاهان لاستنباط الأحكام الشرعية الفقهية عند الإمامية يحمل كل اتجاه اسما خاصا، هما ” الاتجاه الاخباري ” و ” الاتجاه الأصولي “.
وفي الحقيقة ليس بين الفريقين فروق كبيرة بسبب التباعد بينهما وعدم أخذ أحدهما بأقوال الآخر واجتهاداته، فان كلا منهما يستند في استخراج الأحكام الشرعية إلى القرآن الكريم والسنة الطاهرة على حد سواء، ولكن يختلفان بعض الاختلاف اليسير في كيفية الاخذ من السنة الطاهرة.
إلا أنه ظهر بين الفريقين أناس متطرفون كان لهم الدور الفعال في توسعة الشقة بينهما بما كتبوه من الكلمات النابية والعبارات الخشنة التي تسبب النفرة من كل من الطرفين.
وكان أشد الأخباريين شناعة على الأصوليين وأطولهم لسانا في التشنيع عليهم هو صاحب كتاب (الفوائد المدنية) الميرزا محمد أمين الاسترآبادي المتوفى سنة 1021 ه، فإنه كتب في كتابه المذكور فصولا طويلة حول الانتصار للمذهب الاخباري والتشنيع على المذهب الأصولي وكان الأثر البالغ في تنمية البغضاء في النفوس، بل تكفير كل فرقة الفرقة الأخرى.
والذي يبدو من المعتدلين من الفريقين أنهم لم يعبأوا بهذه الاختلافات اليسيرة التي كانت مجالا واسعا لتهويس المتطرفين، ولذا يقول الميرزا القمي صاحب قوانين الأصول عندما يريد تحديد معنى المجتهد الذي يعتبر ظنه في فروع الدين: “
ومرادنا من المجتهد هنا مقابل المقلد والعامي لا المجتهد المصطلح الذي هو مقابل الاخباري، فان العالم الاخباري أيضا مجتهد بهذا المعنى ” (2)
ومعنى هذا أن المجتهد الأصولي يؤخذ بأقواله وفتاواه كما يؤخذ بأقوال وفتاوى المجتهد الاخباري على حد سواء، ولو كانا مختلفين بعض الاختلاف في طريق استنباط الأحكام الشرعية من الأحاديث المروية عن الأئمة الطاهرين عليهم السلام.
ومترجمنا الشيخ الحر العاملي كان أخباريا صرفا في اتجاهه الفقهي ولكن لم يكن متطرفا يشنع على الأصوليين كالمولى الأمين الاسترآبادي، ولهذا نراه يذكر في كتبه – وخاصة في الوسائل وأمل الآمل – أعلام الفريقين بكل تجلة واحترام، ولا يحط من مرتبة أي واحد لسبب اتجاهه الخاص في الفقه – إذا صح هذا التعبير.
يقول السيد الخونساري:
” نعم إن من جملة المسلميات عن الرجلين جميعا – يعني الحر العاملي والشيخ يوسف البحراني – كونهما في غاية سلامة النفس وجلالة القدر ومتانة الرأي ورزانة الطبع والبراءة من التصلب في الطريقة والتعصب على غير الحق والحقيقة والملازمة في الفقه والفتوى لجادة المشهور من العلماء والمرازنة للصدق والتقوى في مقام المعاملة مع كل من هؤلاء وهؤلاء والتسمية لجماعة المجتهدين في غاية التعظيم ونهاية التكريم والموافقة لسبكهم السليم ” (3)
وبالرغم من أن صاحب القوانين أصولي كبير نراه يدافع عن شيخنا المترجم أشد الدفاع حيث يقول:
” والقول بإخراج الأخباريين عن زمرة العلماء أيضا شطط من الكلام، فهل تجد من نفسك الرخصة في أن تقول: مثل الشيخ الفاضل المتبحر الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي ليس حقيقا لان يقلد ولا يجوز الاستفتاء عنه ولا يجوز العمل برأيه لأنه أخباري؟! ” (4).
وقد كتب شيخ الأخباريين الشيخ يوسف البحراني فصلا طويلا في كتابه ” الكشكول ” عن الأصوليين والأخباريين والتنديد بالمتطرفين منهما الذين أوسعوا الشقة بينهما، نذكر فيما يلي نتفا من ذلك الفصل القيم ليظهر للقارئ الكريم أن ليس هناك فرق يسبب الابتعاد والتباغض، قال:
” إلا أن الذي ظهر لنا بعد اعطاء التأمل حقه في المقام وإمعان النظر في كلام علمائنا الاعلام هو الاغماض عن هذا الباب وإرخاء الستر دونه والحجاب، وان كان قد فتحه أقوام وأوسعوا فيه دائرة النقض والابرام لان ما ذكروه في وجوه الفرق بينهما جله بل كله عند التأمل لا يثمر فرقا في المقام..
والعصر الأول كان مملوءا من المحدثين والأصوليين، مع أنه لم يرتفع صيت هذا الخلاف ولم يطعن أحد منهم على الآخر بالاتصاف بهذه الأوصاف.. والأحرى والأنسب في هذا الشأن أن يقال: إن عمل الفرقة المحقة – أيدهم الله بالنصر والتمكين – إنما هو على مذهب أئمتهم،
فإن جلالة شأنهم وسطوع برهانهم وورعهم وتقواهم المشهور بل المتواتر على ممر الدهور يمنعهم عن الخروج عن تلك الجادة القويمة والصراط المستقيم.. وإنا نرى كلا من المجتهدين والأخباريين يختلفون في آحاد المسائل، بل ربما خالف أحدهم نفسه مع أنه لا يوجب تشنيعا ولا قدحا.. ولم يرتفع صيت هذا الخلاف إلا من صاحب الفوائد المدنية – سامحه الله تعالى برحمته المرضية – وبالجملة فالأحسن والأليق في الدين هو حسم هذه المادة وركوب ما ذكرنا من الجادة ” (5).
ومن هنا تعرف شدة ضعف قول بعض المترجمين للحر وسقوطه بأن مصنفات الحر لا يعتنى بها وفيها تخليط لأنه أخباري يستند على القواعد الأخبارية.
الهوامش
1- الفوائد الرضوية – المجلد الثاني -ص 756 – (محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسين المشغَري العاملي)
2- روضات الجنات ص 646.
3- المصدر السابق ص 646.
4- المصدر السابق ص 646.
5- الكشكول للبحراني 2 / 386 – 389.
المصدر: كتاب أمل الآمل – ج / 1 ص 26، تأليف الشيخ محمد بن الحسن (الحر العاملي) المتوفي سنة 1104 ه تحقيق السيد احمد الحسيني .