خاص الاجتهاد: إنّ التوقيع الشريف وإن كان محلاً لنقاشاتٍ كثيرة وإشكالاتٍ عدّة، لكن يمكن دفع تلك الإشكالات بما يقود إلى أنّ التوقيع يدل على تلك الولاية العامة للفقيه في قضايا الاجتماع السياسيّ وشؤون المجتمع العامة، أمّا من الناحية السنديّة فإنّ الأخذ بعين الإعتبار تلك الظروف الموضوعيّة التي كانت سائدة آنذاك يورث الإطمئنان بصدور التوقيع من الإمام المهدي (ع).
من الضروري أن نعود إلى النص السياسي في الإسلام بغية إعادة قراءته واستنطاقه؛ إذ إنّ ذلك النص يحمل في طياته مخزوناً دلالياً كبيراً لا نعتقد أنّه قد استنفد، ولا أنّ تلك الدلالة قد جرى اكتشاف جميع حيثياتها.
أضف إلى ذلك، إن جميع مبررات الفعل الاجتهادي تنطبق على قراءة ذلك النص من ضرورة فهمه فهماً معاصراً يستوحي التساؤلات والاشكاليات المطروحة، بل وجميع الحاجات الراهنة، وغير ذلك من المبررات.
ومن هنا، سوف نركز قراءتنا على أحد النصوص الروائية المشهورة في الفقه الإمامي، معتمدين في ذلك المنهجية الاجتهادية المستخدمة في قراءة النصوص الدينية، مع الأخذ بعين الاعتبار موضعة ذلك النص في بيئته الخاصة به؛ أي في بيئته السياسية والاجتماعية وظروفه الموضوعية.
وإن هذا الاعتبار – أي موضعة النص – لا يقتصر على الجانب الدلالي، بل يتعداه إلى الجانب السندي؛ إذ إن الأخذ بعين الاعتبار لتلك الظروف يمكن أن يؤثر حتى على موقفنا من الجانب السندي، وبالتالي على نتيجة قراءة النص على مستوى حجيته وعدمها.
ولذلك سنعمد إلى دراسة هذا النص – المعروف بالتوقيع الشريف الوارد عن الإمام المهدي (ع) – دراسة سندية ودلالية، على أن نعرض في البداية لمعنى التوقيع في اللغة، لنصل بعدها إلى البحث السندي والدلالي، ومناقشة جملة من الاشكالات المطروحة، والإجابة عن عدة أسئلة في المقام.
1- التوقيع في اللغة:
جاء في كتاب العين أن التوقيع في الكتاب هو الحاق شيء فيه، وذكر أيضا أن التوقيع أثر الرحل على ظهر البعير (154). وجاء في المعجم الوسيط أن توقيع العقد ونحوه هو أن يكتب الكاتب اسمه في ذيله إمضاء له وإقراراً به (155).
لكن يبدو أن التوقيع هو كل كتابة من الكاتب تدل بحسب العرف على أنه موافق على مضمون العقد، أو ما جاء باسم الكاتب، بل التعميم هو الأصح هنا.
2ـ حدث التوقيع:
أي ما حصل بخصوص هذا التوقيع الذي ورد عن الامام المهدي(ع) إلى اسحاق بن يعقوب، فمع أنّ العديد من التوقيعات قد وردت عن الامام المهدي (ع) الى كثير من الاشخاص، لكن هذا التوقيع الوارد إلى اسحاق بن يعقوب قد لاقى عناية خاصة بسبب ما اشتمل عليه من مسائل ترتبط ببعض القضايا الفقهية الأساسية.
وبالتالي، فإنّ اسحاق بن يعقوب قد أشكلت عليه جملة من المسائل، فأراد أن يعرف جوابها من الإمام المهدي (ع) الذي كان في غيبته الصغرى، فكتب مسائله تلك وأوصلها إلى محمد بن عثمان العمري – الذي كان وكيل الإمام (ع) آنذاك – حيث أوصلها بدوره إلى الإمام (ع)، فجاءه الجواب مختوما بتوقيع الإمام المهدي (ع)؛ ولذلك سمي بالتوقيع الشريف (أي لكون ذلك الكتاب موقعاً بتوقيع الإمام (ع).
3ـ نص التوقيع:
ورد هذا التوقيع في مصادر روائية عدة، منها: كتاب كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق (المتوفى 381 ه) وكتاب الغيبة للشيخ الطوسي (المتوفى 460 ه)، ومن ثم نقله المحدثون والعلماء كالطبرسي في الاحتجاج والمجلسي في بحار الانوار. وتلك المصادر وإن اختلفت في بعض الكلمات، لكن جلّ ما نقل متفق عليه بين تلك المصادر،
أما ما جاء في نص ذلك التوقيع مع سنده فهو:
محمد بن يعقوب الكليني، عن اسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رحمه الله) أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل قد أشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (ع):
«أما ما سألت عنه ـ أرشدك الله وثبتك ـ من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا: فاعلم أنّه ليس بين الله وبين أحد قرابة، ومن أنكرني فليس مني وسبيله سبيل ابن نوح.
أما سبيل عمي جعفر وولده: فسبيل اخوة يوسف (ع).
أما الفقاع: فشربه حرام، ولا باس بالشلماب.
وأما أموالكم: فلا نقبلها إلا لتطهروا، فمن شاء فليصلّ ومن شاء فليقطع؛ فما آتاني الله خير مما آتاكم.
وأما ظهور الفرج: فإنّه إلى الله تعالى ذكره وكذب الوقاتون.
وأما قول من زعم أنّ الحسين (ع) لم يُقتل: فكفر وتكذيب وضلال.
وأما الحوادث الواقعة: فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم.
وأما محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه وعن أبيه من قبل -: فإنّه ثقتي، وكتابه كتابي.
وأما محمد بن علي بن مهزيار الأهوازي: فسيصلح الله له قلبه ويزيل عنه شكه.
وأما ما وصلتنا به: فلا قبول عندنا إلا لما طاب وطهر. وثمن المغنية حرام.
وأما محمد بن شاذان بن نعيم: فهو من شيعتنا أهل البيت.
وأما أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع: فملعون، وأصحابه ملعونون، فلا تجالس أهل مقالتهم؛ فإني منهم بريء وآبائي(ع) منهم براء.
وأما المتلبسون بأموالنا: فمن استحل منها شيئا فأكله فإنّما يأكل النيران.
وأما الخمس: فقد أُبيح لشيعتنا، وجعلوا منه في حل إلى وقت ظهور أمرنا؛ لتطيب ولادتهم ولا تخبث.
وأما ندامة قوم قد شكّوا في دين الله على ما وصلونا به: فقد أقلنا من استقال، ولا حاجة في صلة الشاكين.
وأما علّة ما وقع من الغيبة: فان الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تسالوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) ((156)). إنّه لم يكن لأحدٍ من آبائي إلا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي.
وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي: فكالانتفاع بالشمس اذا غيبتها عن الأبصار السحاب، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء.
فاغلقوا أبواب السؤال عمّا لا يعنيكم، ولا تتكلفوا علم ما قد كفيتم، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج؛ فإنّ ذلك فرجكم، والسلام عليكم يا اسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى».(157)
4 ـ اسناد التوقيع:
للتوقيع طريقان إلى محمّد بن يعقوب الكليني مؤلف الكافي: الطريق الأول ذكره الشيخ الصدوق في كتابه كمال الدين وتمام النعمة، حيث كتب يقول:
«حدّثنا محمّد بن محمّد بن عصام الكليني قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب الكليني، عن اسحاق بن يعقوب قال…».
أما الطريق الثاني، فقد ذكره الشيخ الطوسي في كتابه الغيبة قائلا: «اخبرني جماعة، عن أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه وأبي غالب الزراري (وغيرهما)، عن محمّد بن يعقوب الكليني، عن اسحاق بن يعقوب…»((158)).
وبالتالي، فإن محل الاختلاف في هذين الطريقين هو ما قبل الكليني محمّد بن يعقوب؛ حيث أنّ من حدّث عن الكليني في طريق الشيخ الصدوق هو محمّد بن محمّد بن عصام الكليني، أما من حدّث عنه في طريق الشيخ الطوسي فهم: جعفر بن محمّد بن قولويه وابو غالب الزراري وغيرهما، إلى جماعة، إلى الشيخ الطوسي.
5- البحث الفقهي حول التوقيع:
يتركز البحث الفقهي حول التوقيع على امرين: الاول هو البحث السندي؛ لندرس سند التوقيع بحسب الموازين والقواعد الرجالية؛ لمعرفة وثاقة السند ومدى ثبوته وجواز الاعتماد عليه. والثاني هو البحث الدلالي؛ لنرى ما هي دلالة التوقيع الشريف؟ وما الذي يفهم منه؟
أ ـ البحث السندي:
كما ذكرنا، فإنّ الاعتماد على نص التوقيع الشريف يتوقف على ملاحظته سنديا، وذلك من خلال البحث في جميع المعطيات التاريخيّة التي تحيط بزمن صدور النص ورجاله وما تختزنه من قرائن قد تصل إلى مستوى أنّها تزرع في أنفسنا وثوقاً بصدورالنص؛ أي أنّ تراكم تلك القرائن نوعا وكمّاً يكون لدينا وثوقاً بصدور النص من الإمام المعصوم(ع).
إنّ الوثوق يمكن أن يتعلق برجال الرواية كما يمكن أن يتعلق بالصدور، وذلك اذا ما وصلنا إلى الإطمئنان بأنّ نصّاً ما في بنيته ومضمونه لا يمكن عادة صدوره إلا من المعصوم (ع)، أو من خلال المعطيات التي رافقت صدور النص وما يرتبط منها بروايته، وهذا الأخير أي ملاحظة المعطيات والظروف التاريخية يتطلب تنقيبا بمستوى يمكن له أن يكتشف تلك القرائن المكونة للوثوق، وهذا ما يحتاج إلى ترتيب جملة من المقدمات التي لا بُدّ من الإشارة إليها:
المقدمة الأولى: إن الكليني قد كان على درجة عالية من التثبت، وكان يتحرى الدقة فيما يرويه من روايات أهل البيت (ع)، حتى أنّه لم يذكر في الكافي إلا ما آمن بصحته عن الصادقين(ع).
المقدمة الثانية: إنّ رواية أهل البيت قد كانت ضالته، ولذلك طاف البلاد وبقي عشرات السنين يبحث عنها ولا يخفى شدّة حرصه في طلب روايتهم.
المقدمة الثالثة: أنّه كان قادرا على معرفة حال التوقيع ومدى صحة انتسابه إلى الإمام الحجة (ع)، وذلك أما من خلال معاينته للتوقيع، وأما من خلال معرفته بحال اسحاق بن يعقوب، أو تحريه منه عن كيفية حصوله عليه، وما سوى ذلك من طرق.
المقدمة الرابعة: أنّ حدث التوقيع يقتضي من الكليني اهتماماً خاصاً؛ لما يتضمنه التوقيع من مسائل ومطالب مهمّة، ولكونه نصاً صادراً من المعصوم (ع) في غيبته.
المقدمة الخامسة: إنّ الكليني قد حدث بالتوقيع ولم يهمله؛ فلو عرف الكليني زيف تلك الدعوة لأهمل التوقيع ((159)).
والنتيجة التي تستفاد من هذه المقدمات هي: أنّ الكليني لما كان قادرا على معرفة حال التوقيع ومع ذلك أقدم على التحديث به، فيكشف ذلك عن أنّ الكليني كان مطلعا على صدور التوقيع، وإلا لما حدث به ورواه، وهذا يجعلنا نطمئن بصدور التوقيع؛ لأنّه من المستبعد جداً أن يقدم الكليني على روايته من دون التحقق منه، وهذا التحقق: إما أن يوصله الى زيف دعوى صدور التوقيع فلا يقدم على التحديث به، أو يوصله إلى كونه صادراً من المعصوم (ع) وبالتالي سوف يقدم على روايته، وهذا ما حصل فعلاً من الكليني.
بل إذا أردنا أن نجمل الطرق التي تساعدنا على الوصول إلى ذاك الاطمئنان بصدور ذلك التوقيع مع الاختلاف في مستوى ما يساهم كل منها في ذاك الاطمئنان، فيمكن أن نعدد كلّاً من الطرق التالية:
1- إقدام الكليني على التحديث به:
وهذا ما بيناه اعتماداً على المقدمات التي ذكرناها والتي توصلنا إلى تلك النتيجة السابقة؛ من أنّ مجرد إقدام الكليني على التحديث به يبعث على ذلك الاطمئنان، وهو يعود إلى معرفتنا بشخصية الكليني العلمية من جهة، ومقدرته على تحري حال الرّاوي، ودعواه وصول التوقيع إليه من جهة أخرى، الأمر الذي يدعونا إلى الاعتقاد بإقدام الكليني على فحص التوقيع وما يرتبط به.
2- دراسة نص التوقيع:
إنّ دراسة التوقيع في نصه وبنيته تدعونا إلى الايمان بأنّ نصّاً كهذا في بنيته وفي لغته وفي مسائله التي اشتمل عليها لا يصدر إلا من الإمام المعصوم (ع)؛ لأنّه من البعيد جداً على غير المعصوم أن يبدع نصا كهذا في قوته وبنيته ومسائله.
وقد أشار بعض العلماء صريحا إلى هذه القضية، فيقول السيد محمود الحسيني الشاهرودي (قدس سره) في كتاب الحج :«وكيف كان، فلا ينبغي الإشكال في اعتبار سنده، لدلالة التوقيع على علّو شأن اسحاق وسمو رتبته بعد ملاحظة ما في متن التوقيع من شواهد الصدق والصدور» ((160)).
3– لا يخفى أنّ إقدام كبار العلماء على تدوين التوقيع الشريف في كتبهم الروائية يعضد هذا المطلب، وإن كان التعويل بشكل اساسي هو على ما ذكرناه آنفا، وما يؤدي إليه من الإطمئنان بصدور التوقيع.
ب ـ البحث الدّلالي:
أي فيما يرتبط بدلالة التوقيع الشريف، حيث يستظهر من قوله (ع): «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ؛فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم»، إنّ الإمام المعصوم (ع) قد جعل الفقيه حجة له على الناس، وهذه الحجية المجعولة ليست مقيّدة في الإطار الفتوائي وإلا لنصّ الإمام على ذلك، بل هي تشمل الجانب الفتوائي وما عداه من أمور ترتبط بالولاية العامة؛ إذ إنّ إطلاق الحجية وعدم تقييدها يستفاد منه مطلق ما كان للإمام الحجية فيه على الناس إلا ما خرج بدليل، أو علمنا أنّه من مختصات الإمام على اساس ارتباطه بصفة العصمة التي تختص بالإمام المعصوم (ع)، فهذه الأمور ليست مشمولة في الحجية المعطاة للولي الفقيه.
إنّ المقابلة ما بين الحجية الثابتة للفقيه والحجية التي هي للإمام المعصوم (ع) يفهم منها تلك الدائرة الواسعة من الحجية، وخصوصا إذا نظرنا إلى ظرف صدور النص من حيث هو ظرف غيبة الإمام المعصوم (ع).
6 ـ الإشكالات المطروحة على التوقيع:
وجهت إشكالات عدة إلى الاستدلال بالتوقيع الشريف، وقد تناولت هذه الإشكالات الجانب السندي كما تناولت الجانب الدلالي،وإن كان معظمها متركزاً على الجانب السندي لجهة كون اسحاق بن يعقوب مجهولاً، ما يؤدي بالتالي إلى سقوط التوقيع عن الحجية؛ ولذا كان لا بُدّ من تعرف تلك الإشكالات مبتدئين بالسنديّة منها :
أ ـ الاشكالات السندية:
إنّ المشترك الذي يحتاج إلى البحث في طريقي الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي هو اسحاق بن يعقوب؛ لأنه وإن كان طريق الشيخ الصدوق يحتاج إلى البحث فيما يرتبط بمحمّد بن محمّد بن عصام الكليني، لكنّه يمكن لنا أن نعفي أنفسنا من هذا البحث؛ لأنّ طريق الشيخ الطوسي إلى محمد بن يعقوب الكليني في غاية الإعتبار، فتبقى ضرورة البحث في السند من جهة اسحاق بن يعقوب.
وهذه جملة من الاشكالات التي لا بُدّ من التطرق إليها في بحثنا هذا:
الإشكال الأول: أنّ الكليني لم يتناول ذكر التوقيع الشريف في كتابه الكافي، وهو ما يدل على أنّه لم يكن معتبراً في نظره؛ إذ لوكان ينظر إليه بعين الإعتبار لذكره في كتابه الذي ذكر فيه ما كان من «الثأر الصحيحة عن الصادقين (ع) والسنن القائمة التي عليها العمل».
أمّا القول: بأنّ عدم ذكره له إنّما هو بسبب التّقية، فهو خلاف التحقيق؛ لأنّ بقّية التوقيعات قد نقلت في مختلف الكتب الشيعية، والتوقيع الشريف نفسه نُقِل في العديد من الكتب المذكورة.
والجواب:
أولاً: إنّ ما قيل من أنّ عدم ذكر الكليني له في الكافي ليس من باب التّقية؛ حيث أنّه ذكر هذا التوقيع (وغيره) في بقية الكتب، كما في كتاب الشيخ الصدوق «كمال الدين» وكتاب الشيخ الطوسي «الغيبة» هو خلاف التحقيق؛ لأنّه عندما نتحدث عن التّقية فربما تصدق التّقية في عصرٍ ما لشخصٍ ما ولا تصدق لشخصٍ آخر في ظرفٍ آخر، فقياس عصر الشيخ الكليني على عصرالشيخ الصدوق وعلى عصر الشيخ الطوسي غير دقيق.
ثانياً: إنّ عصر الشيخ الكليني هو عصر الغيبة الصغرى، حيث كان الإتصال بالإمام المهدي (ع) يتم من خلال سفرائه، وكان هؤلاء السفراء هم الطريق الموصل إلى الإمام، أمّا عصر الشيخ الصدوق وكان معاصرا للشيخ المفيد (رحمه الله) فهو متزامنٌ تقريبا مع بدايات الغيبة الكبرى، حيث انتهت السفارة وتوفي جميع السفراء، مما يعني أنّ تلك الأبواب الموصلة إلى الإمام المهدي (ع) لم تعد موجودة.
وإنّ الحساسيّة السياسيّة الملازمة لقضية الإمام المهدي (ع) قد توفرت ظروف تراجعها، فضلاً عن أنّ الظروف السياسيّة والاجتماعيّة التي استجدّت في عصر الصدوق قد اختلفت إلى حدٍّ بعيدٍ عن الظروف السياسيّة والاجتماعيّة التي كانت في عصر الكليني، هذا في عصر الشيخ الصدوق (المتوفى 381 هـ)، ومن باب أولى أن يكون عصر الشيخ الطوسي (المتوفى 460 هـ) أقل حساسيّة وخطورة فيما يرتبط بقضية المهدوية والاتصال بالإمام المهدي (ع).
ثالثاً: إنّ ذكر التوقيع في كتاب الكافي الذي يمكن أن يصل إلى كثيرٍ من الناس سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى وصول التوقيع نفسه إلى يد السلطة العباسيّة بحيث يمكن معرفة الطريق الموصل إلى الإمام المهدي(ع)؛ ألا وهو شخص محمّد بن عثمان بن سعيد العمري، وهذا ما ينافي الحكمة من غيبة الإمام(ع)؛ حيث صرّحت روايات عدّة أنّه غاب خوفاً على نفسه من القتل.
وإن قيل: إنّ هذا الإحتمال منتفٍ؛ لأنّه قد كان معلوماً للجميع آنذاك أنّ هؤلاء السفراء هم الأبواب الموصلة إلى الإمام المهدي (ع)وأنّهم يلتقون به، وبالتالي فإنّ قضية التوقيع لن تقدم ولا تؤخر شيئاً في هذا المضمار.
فالجواب: أنّه وإن كان معلوما أنّ السفراء هم الأبواب إلى الإمام (ع)، لكنّه فرّق بين أن يبقى هذا الأمر مجرد كلام يتداوله الناس وبين أن يصل إثباتٌ فعلي وقطعي بيد السلطة وهو نص التوقيع يفيد أن لقاءً قد حصل بين محمّد ابن عثمان بن سعيد العمري (رضى الله عنه) وبين الإمام المهدي (ع) من أجل قضية اسحاق بن يعقوب؛ إذ إنّنا نقطع بأنّ السلطة العباسيّة كانت تطلب الإمام أشدّ الطلب، ويدل على ذلك شواهد تاريخيّة عدّة، وبالتالي فلو ثبت لديها أنّ أحد الأشخاص كمحمّد بن عثمان – يلتقي بالإمام (ع) ويعرف مكانه وأنّه يمكن أن يوصلها إليه، فقد كان من الطبيعي أن تقدم على اتخاذ جميع الإجراءات التي يمكن أن توصلها إليه. ومن هذا الباب، فقد كان تصرفاً عقلائياً وحكيماً من محمّد بن يعقوب الكليني ألّا يروي التوقيع في الكافي تحسبا لما اسلفنا((161)).
رابعا: فضلاً عما ذُكر، هل يمكن الجزم بأنّ الكليني لم يذكر هذا التوقيع في إحدى مدوناته؟ ذلك أنّ عدم ذكره في الكافي لا يعني أنّه لم يذكره في كتاب آخر له، فلربما يكون قد ذكره في كتاب «رسائل الائمة» أو في أي كتاب آخر من سائر كتبه.
والذي يؤكد هذه الحقيقة أنّ أولئك المصنفين كانوا يتعاملون مع النصوص (الرسائل) الواردة عن الأئمة وإدراجها في مدونات خاصة تحت عنوان رسائل الائمة وغيره ((162)).
ويمكن أن نضيف إلى ما ذكرناه: وجود الفرق بين كتاب الكافي الذي كان مكتوبا ليصل إلى عموم الناس، وبالتالي تترتب عليه تلك المحاذير؛ أشبه ما يكون بالرسائل العملية حيث لا يمكن اخفاؤها، وبين كتاب رسائل الأئمة الذي يمكن إبعاده عن التداول بين عموم الناس، فلا تترتب عليه تلك المحاذير.
الإشكال الثاني: إنّ اسحاق بن يعقوب فضلاً عن كونه غير موثّق لم يكن كثير الرواية؛ ولذا لا يمكن عدّه من المشاهير؛ إذ مجموع ما نقل عنه من الروايات ثلاث روايات، واحدة فقهية وروايتان لم تدرجا في الروايات الفقهية.
الجواب: إنّ اسحاق بن يعقوب وإن لم يكن كثير الرواية لكن جملة امور تدفعنا الى الاطمئنان بصدور التوقيع من الإمام المهدي(ع)، وبالتالي وثاقة اسحاق بن يعقوب، ومن تلك الامور :
أولاً: إنّ دعوى اسحاق بن يعقوب هي دعوى مهمة في غاية الأهمية؛ من حيث وصول رسالة موقعة من الإمام المهدي (ع) إليه بواسطة السفير الثاني للإمام المهدي (ع) محمّد بن عثمان بن سعيد العمري، ومن أنّ تلك الرسالة تتضمن جملة من المسائل المشكلة والمهمة.
ثانياً: لقد كان متيسراً معرفة ما إذا كان اسحاق بن يعقوب يمتلك تلك الرسالة أو لا، وما إذا كانت تلك الرسالة بخط الإمام أو لا، وما إذا كان التوقيع الذي وقعت به الرسالة توقيع الإمام أو لا، وهو يعني إمكان معرفة مدى صدق الدعوى أو زيفها.
ثالثاً: لقد تضمنت دعوى اسحاق بن يعقوب وصول الرسالة إليه من محمد بن عثمان بن سعيد العمري، وبالتالي كان ممكناً معرفة صحة تلك الدعوى وعدمها من محمد بن عثمان بن سعيد نفسه أو من السفراء اللاحقين عليه، على فرض أنّه أدركته الوفاة قبل وصول التوقيع إلى الكليني أو قبل وصول الكليني إلى بغداد، لكنّه لا شكّ في أنّ الكليني كان موجوداً لفترة من الزمن ليست قليلة أثناء وجود السفراء في بغداد؛ ولذا عرف بالسلسلي البغدادي نسبة إلى درب السلسلة في بغداد.
وبالتالي، فالنتيجة هي أنّ الدوافع الذاتية للبحث في التوقيع الشريف موجودة لدى الكليني، هذا من جهة. ومن جهةٍ ثانية، لقد كان قادراً على معرفة زيف تلك الدعوى وعدمه؛ لما يتمتع به من خبرة علمية في الروايات وخطوطها وبنيتها ودرايتها. ومن جهةٍ ثالثة، فإنّ الظروف الموضوعية كانت مساعدة للكليني على تحري حال الراوي، أو تحري حال الرواية، أو سؤال السفراء أنفسهم.
هذا إذا لم يكن اسحاق بن يعقوب الأخ الأكبر لمحمّد بن يعقوب الكليني، كما ذهب إلى ذلك العلا مة التستري في كتاب قاموس الرجال؛ حيث إنّ اسم أب كلٍّ منهما يعقوب، كما أنّ جدّ محمّد بن يعقوب الكليني اسمه اسحاق، ومن عادة الكثيرين تسمية الولد الاكبر باسم الجد، وهو ما يشير إلى إنّ اسحاق بن يعقوب هو الأخ الأكبر لمحمّد بن يعقوب. كما أنّ في النسخة التي لدى العلامة التستري من كتاب «كمال الدين» للشيخ الصدوق يوجد في خاتمة التوقيع عبارة: «والسلام عليك يا اسحاق بن يعقوب الكليني»؛ ما يعني أنّهما من قرية واحدة هي «كُلين».
الإشكال الثالث: إنّ مجرد نقل الكليني للتوقيع لا يدل على وثاقة اسحاق بن يعقوب؛ لأنّ القول بوثاقته يعتمد على مبنى كون نقل الثقة عن رجل يدل على وثاقته، وهو مبنى غير معتبر، ولا يمكن الاعتماد عليه.
الجواب: إنّ ما نذهب إليه هو أنّ رواية الكليني للتوقيع يستفاد منها أنّ التوقيع قد صدر من الإمام المهدي (ع)؛ وذلك لمجموع النقاط التي ذكرناها آنفا.
ب ـ الاشكالات الدلالية:
توجد جملة من الاشكالات التي طرحت حول دلالة التوقيع الشريف، وفيما يلي نستعرض أهمها :
الإشكال الأول: أنّ المراد بـ«رواة حديثنا» هم المحدثون الذين يروون الحديث، وليس المراد منهم الفقهاء بالمصطلح المتداول اليوم. وهل يمكن أن نعطي الولاية العامة لراوي الحديث الذي يعتني بالرواية وجمعها وحفظها والتحديث بها؟!
الجواب: ليس المراد براوي الحديث من كان له معرفة بالروايات على نحو حفظها والتحديث بها حتى لو كان ذلك من دون دراية بها وفهم لها وهذا ما ينطبق على المعنى اللغوي لراوي الحديث بل المراد من راوي الحديث معناه الاصطلاحي؛ وهو المعنى الذي كان يفهم من راوي الحديث آنذاك؛ حيث كان المراد منه ليس مجرد من روى الحديث بل من رواه عن فقه ودراية، وهوالفقيه في مصطلحنا المعاصر.
الإشكال الثاني: إنّ الالف واللام في قوله (ع): «الحوادث الواقعة» للعهد وليست للاستغراق؛ أي إنّ المراد حوادث معهودة بين السائل والمجيب، وبالتالي لا يمكن لنا أن نستفيد أنّ الإمام المهدي (ع) قد أعطى الولاية للفقهاء في مطلق الحوادث والقضاياالاجتماعيّة والسياسيّة، بل جلّ ما يمكن القبول به هو إعطاء ولاية ما في تلك الحوادث المعهودة لا اكثر.
الجواب: إنّ مورد البحث بالنسبة لنا هو جواب الإمام (ع)، حيث أطلق الإمام تعبير «الحوادث الواقعة» ولم يقيدها بحوادث معيّنة، وليس في المقام ما يصلح للتقييد، خاصّةً أنّ جواب الإمام هو جواب كتبي قد يصل إلى كثيرٍ من القراء معزولا عن أسئلة اسحاق بن يعقوب، فلو أراد الإمام حوادث معينة لكان من الحكمة تحديد تلك الحوادث، فضلاً عن أنّ السبب الذي يستدعي الإرجاع إلى الفقهاء في عصر الغيبة الصغرى موجود ايضا في عصر الغيبة الكبرى، وهو أنّ جملةً من القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة تتطلب وجود من ترجع الناس إليه فيها، وقد أرجعهم الإمام فيها إلى رواة الحديث؛ أي الفقهاء.
الإشكال الثالث: قد يتمسك البعض بعموم التعليل الذي يستفاد من قوله (ع): «فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» ليقول بعموم الولاية المعطاة من الإمام للفقيه، لكنّ القدر المتيقن بمناسبة الحكم والموضوع هو الأحكام الشرعية للحوادث، ومع وجود هذا القدر المتيقن لا يمكن الذهاب إلى عموم الولاية، بل يصبح هذا القدر المتيقن قرينةً على انصراف العموم إلى ولاية الإفتاء،وبالتالي فإنّ التوقيع لا يدل على الولاية العامة.
الجواب: إنّ القول بوجود تلك المناسبة بين الحكم والموضوع هو قول غير صحيح؛ لان تحديد تلك المناسبة وأطرافها يجب أن يتبع ما يفهم من ظاهر التوقيع، ولا يوجد في التوقيع ما يمثل قرينة على صرف ذلك العموم عن عمومه، فوصف الرواة ليس وصفاً تقييدياً بمعنى الأمر بالرجوع إلى الرواة في خصوص الروايات، بل هو وصفٌ موضوعيّ؛ أي إنّ الأمر بالرجوع إلى الرواة من ناحية كونهم موضوعاً للرجوع، لكن في أيّة مساحةٍ وفي أيّ مجالٍ فهو ما يستدعي بياناً زائداً يتكفل ذلك التحديد.
كذلك لا يمكن الاستفادة من تعبير «الحوادث الواقعة» للقول بأنّها قرينة على كون ذلك الرجوع في خصوص الأحكام الشرعية؛ لأن نص التوقيع لم يقل بالرجوع في أحكام الحوادث، بل إرجع إليها من دون التقييد بجانب معين، وهو ما يفهم منه مطلق الإرجاع في تلك الحوادث؛ أي أنّ التوقيع لم يقل: «إرجعوا في أحكام الحوادث»، بل إرجع إلى الرواة في أصل تلك الحوادث.
يضاف إلى ذلك أنّ الرجوع إلى الفقهاء في الأحكام قد كان من الأمور الواضحة في المجتمع الشيعي آنذاك، وقد تقدم على التوقيع الوارد إلى اسحاق بن يعقوب تلك العبارة التي تفيد أنّه أراد أن يسال عن جملة من المسائل المشكلة.
وبالتالي، نستطيع القول: إنّه مع عدم وجود قرينة تفيد إطلاق الحجية بل إنّ فقه الرواية يقود إلى إطلاقها، هذا من جهة. ومن جهةٍ اخرى، لو أخذنا بعين الاعتبار الظروف الموضوعيّة المحيطة بزمن صدور التوقيع حيث كان الإمام (ع) على أعتاب الغيبة من خلال حل مشكلة الفراغ القيادي، فقد كان من الضروري أن يبادر الإمام المهدي (ع) إلى علاج تلك المشكلة من خلال الإرجاع إلى الفقهاء في مجمل الأمور التي كان يتصدى لها هو بنفسه، وهو ما يشكل قرينة إضافية على أنّ الإرجاع إلى الفقهاء لم يكن في خصوص الأحكام الشرعية، بل كان فيما هو أعم من ذلك.
وفي الختام، لا بُدّ من القول: إنّ التوقيع الشريف وإن كان محلاً لنقاشاتٍ كثيرة وإشكالاتٍ عدّة، لكن يمكن دفع تلك الإشكالات بما يقود إلى أنّ التوقيع يدل على تلك الولاية العامة للفقيه في قضايا الاجتماع السياسيّ وشؤون المجتمع العامة، أمّا من الناحية السنديّة فإنّ الأخذ بعين الإعتبار تلك الظروف الموضوعيّة التي كانت سائدة آنذاك يورث الإطمئنان بصدور التوقيع الشريف من الإمام المهدي (ع).