السؤال الذي نحن بصدد الإجابة عنه في هذا المقال: هل يمكن للقاضي أن يحكم لصالح المدّعي دون بينة، وحسب علمه؟
الاجتهاد: يدعي شخصٌ بأنه يطلب فلاناً بمبلغٍ من المال، ولم يتمكَّن أن يأتي بالبينة، فيقصد القاضي ويطلب منه الحكم. هل يمكن للقاضي؛ ولمجرّد علمه بصدق ما يدّعيه المدّعي، أن يصدر حكماً لصالحه بمديونية الشخص الثاني، أم أنه لا يتمكّن من القضاء لصالحه؛ لعدم تمكنه من الإتيان بالبينة؟
وهل هذه الحالة تعتبر من حالات تكليف المنكر باليمين؛ للحكم لصالحه؟
وهكذا لو علم القاضي بأن شخصاً ما ارتكب جرماً أو جناية فهل يحقّ له أن يصدر حكماً ضدّه بناء على علمه ومعرفته، أم لا يحقّ له ذلك؟
إن القضية تبدو واضحة، لا تحتاج إلى نقاش وتفصيل؛ لأنه من الثابت في محلّه أن العلم واليقين حجّتان، وحجّيتهما ذاتية. وبعبارة أخرى: إذا حصل العلم في أيّ حالة لا تحتاج حجّيته إلى دليلٍ آخر. وبعبارة أخرى: لو حصل العلم في أيّ شيءٍ كان لم تحتج حجّيته إلى دليلٍ آخر، كما في غير العلم. فحجّية كلّ غير علم تَبَعٌ للعلم، ولكنّ حجِّية العلم مستندة إليه وحده.
فلو قلنا ـ على سبيل المثال ـ بأن خبر الواحد حجّة، أو البينة حجّة، أو اليمين حجّة، فهذا لأن حجِّية أيٍّ منها ثبتت عن طريق العلم، بينما حجّية العلم قائمة به.
وعلى غرار هذا لو علم القاضي بحكم الله فلا شَكَّ بأنه يتمكّن من العمل بعلمه.
فمثلاً: لو علم بأن يد السارق تقطع، أو أن شخصاً سطا على مصرف وسرق كميات من النقود، يجب عليه كقاضٍ أن يصدر الحكم المعلوم على هذا الموضوع المعلوم.
وليس من الصحيح أن لا نتردّد في قضية توجد فيها شبهة حكمية ونتردّد في هذه القضية، وهي شبهة موضوعية، ونشكّ بأنه هل على القاضي أن يحكم بعلمه حول دعوى أو جريمة أم لا؟
أليس من الواضح أن العلم علم، وهو عين الانكشاف، ويعبِّر عن الواقع أينما حلّ؟ أَوَلم تكن الحجّية ذاتية للعلم؟
لا شَكَّ بأن الإجابة عن هذه الأسئلة تكون بالإيجاب؛ فلا مجال للشكّ بأن علم القاضي بالموضوع كعلمه بالحكم، يشكِّل أفضل منهج له في منصب القضاء.
ويبدو أنه من هذا المنطلق لم يشكِّك أحد من فقهائنا في مبدأ عمل القاضي وفق علمه، بل في وجوب العمل بعلمه.
يقول المحقِّق في الشرائع: «لا خلافَ بيننا معتدّاً به في أن الإمام(ع) يقضي بعلمه».
وقد شرح صاحب الجواهر هذا بقوله: مطلقاً، في حقّ الله وحقّ الناس، بل في محكيّ الانتصار والغنية والإيضاح ونهج الحقّ وغيرها الإجماع عليه، وهو الحجّة.
ويضيف المحقِّق: وغيره (أي غير الإمام) من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس قطعاً، وفي حقوق الله تعالى على قولين: أصحّهما القضاء»([21]).
والعبارة التي أوردها العلاّمة في القواعد هي نفس عبارة المحقّق في الشرائع.
كما أن عبارة شارح القواعد السيد محمد العاملي تطابق عبارة صاحب الجواهر، وإنْ تضمّنت تفصيلاً لآراء أخرى. فمثلاً: عند شرحه لعبارة العلامة التي يقول فيها: «وغيره (أي غير الإمام) من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس قطعاً، وفي حقوق الله تعالى على قولين: أصحّهما القضاء» يذكر عشرين كتاباً ورد فيها التأكيد على صحّة قضاء القاضي بعلمه. كما نقل الى جانب هذا التأكيد بضعة آراء تخالف هذا الرأي السائد([22])، ومنها: رأي أبي علي البغدادي، المعروف بابن الجنيد، وهو من فقهاء السلف المتقدّمين. وفي كلا المصدرين يعارض هذا الرأي، ويرى أنّه لا يجوز للقاضي القضاء بعلمه أبداً، ولا يذكر غيره من الفقهاء الذين أخذوا برأي ابن الجنيد.
ويبدو أن فقهاء السنّة والجماعة أيضاً تمسّكوا بالرأي السائد القائل بقضاء القاضي وفق علمه، وإنْ لم يدخلوا في تفاصيل الأمر كفقهاء الشيعة. ولكنّ المتتبّع والباحث في مصادرهم الفقهية يجد أنهم قبلوا هذا المبدأ كأحد مستندات القاضي لإصدار الحكم. ومن هؤلاء الفقهاء: الشيخ عبد الرحمن الجزيري، الذي يقول في كتابه «الفقه على المذاهب الأربعة»، في «مبحث في ما يثبت موجب القصاص»، بأن «الحنفية والشافعية والحنابلة رحمهم الله تعالى قالوا: يثبت موجب القصاص من قتل أو جرح عمد بإقرارٍ، أو شهادة رجلين»، ويضيف: إنهم ألحقوا بهذا علم القاضي ونكول المدّعى عليه وحلف المدّعي؛ لأن القصاص يثبت بهما أيضاً…»([23]).
وكما أشرنا فالظاهر المأخوذ من كلام فقهاء أهل السنة هو أن هؤلاء لم يتردّدوا في ترجيح حكم القاضي حسب علمه، بل أوجبوا ذلك وألزموه به في بعض الحالات.
إذن لو كانت الحجّة قائمةً في إجماع الفقهاء واتّفاقهم، كما أشار إلى ذلك صاحب الجواهر، فإننا نعتبر الكلام في هذه القضية قد أشبع وانتهى، ونتمكن من الحكم بكلّ ثقةٍ وتأكيد بأن للقاضي أن يحكم حسب علمه.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى العمل وفق هذه الطريقة. والمتتبِّع لآرائهم يرى بوضوح أنهم لم يتوقَّفوا عندها كثيراً، ومرّوا عليها مرور الكرام؛ لقطعيتها. ولو كان الأمر على غير ذلك لأمعنوا فيه، وأشبعوه جملةً وتفصيلاً.
فمثلاً: السيد الخوئي،الذي له الباع الطويل واليد الطولى في البحوث الفقهية، يقول في هذا المجال: «كذلك له أن يحكم بينهما بعلمه، ولا فرق في ذلك بين حقّ الله وحقّ الناس»، ثم يضيف، في شرح ما قال في مؤلَّفه الآخر «مباني تكملة المنهاج»: إنّ حكم القاضي حسب علمه هو «من الحكم بالعدل، المأمور به في غير واحد من الآيات والروايات»([24]).
والمتفحِّص في آراء وكتب الفقهاء يرى بأن جُلَّهم اكتفوا بهذه التعبيرات، مما يؤكِّد أن قضية حكم القاضي حسب علمه تعدّ قضيةً محسومة عندهم، ولو كان غير ذلك لما تركوها بهذه السهولة.
مقتطف من مقالة بعنوان: حكم القاضي بعلمه إعداد: السيد محسن الموسوي الجرجاني