نظريّة السكوت

نظريّة السكوت: هل أعلنت الشريعة مرجعيّة العقل أو وافقت على قوانينه؟

الاجتهاد: لا أستهدف من هذه المداخلة تسجيل مقاربة نقديّة على نظريّة السكوت ، بل يعنيني الإضاءة على فرضيّات احتماليّة غابت عنّا في بعض الأحيان، والهدف هو إثارة الصور والفرضيّات في الذهن لتوفير إمكانات تحليليّة أكبر، فيرجى الانتباه.

بقلم: فضيلة الشيخ حيدر حب الله

لقد سعت نظريّة السكوت في الحفاظ على الأصول التحتيّة التي سبقت الإشارة إليها، من شموليّة التشريع وعدم وجود مُعين قانوني، إلا أنّ التحليل يقودنا هنا إلى تساؤلٍ يتّصل بقضيّةٍ يجب التنبّه لها،

وهي أنّ ما يُعرف بالعناوين الثانوية الأمّ، وكذا كثير من الأحكام الشرعيّة في مجال المعاملات والعلاقات غير العباديّة، ربما يرجع إلى العقل نفسه وإلى التجربة الإنسانيّة السابقة على الشرع، فمثل قانون ضرورة حفظ النظام يرجع مدركه الأمّ إلى العقل والبناء العقلائي، ومثل قانون التزاحم يعدّ العقلُ والسيرة العقلائيّة الأساس فيه، وكذلك الحال في قواعد الضرر والمشقّات والضرورات والإكراه والتقيّة، بل وأيضاً لزوم الوفاء بالعقود و..

وإذا كانت مثل هذه المعايير القانونيّة والمرجعيّات التشريعيّة هي في الأصل أحكاماً بشريّة، فهذا ما يطرح تساؤلاً وهو أنّ الاستناد إليها هو استنادٌ إلى قانون عقلي ومُعين قانوني، وليس في جوهره استناداً إلى نصّ ديني أو حكم إلهي محض، فكيف نقول بأنّ المقرّرات التي يعتمدها وليّ الأمر نابعة كلّها من الشرع؟!

ومجرّد أنّ الفقهاء قد طرحوا قواعد التزاحم وحفظ النظام في كتبهم لا يصيّر هذه القواعد مستمدّةً من النصوص أو دينيةً؛ إذ من الممكن أن يكون مصدرُها عقليّاً وليس شرعيّاً.

وهذه الإشكاليّة تفتح على موضوع بالغ الأهميّة والخطورة، وهو تحديد دور العقل في بناء الفتاوى الشرعيّة، فنحن لو غضضنا الطرف عن الأخذ بحكم العقل المستقلّ ـ كما عليه بناء العدلية من المعتزلة والإمامية، من غير بعض الإخباريين ـ نجد أنّنا بحاجة لمعرفة المعيار في جعل حكمٍ ما مأخوذاً من الشرع أو من المصدر الإلهي، فإنّه من الواضح أنّه لو دلّ النصّ على حكمٍ ما لا يُعهد من العقلِ الحديثُ عنه، لصحّ القول بأنّ هذا الحكم إلهيٌّ لا سبيل إليه إلا بالمشرّع الإلهي عبر الوحي مثلاً، مثل تفاصيل الصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس وغير ذلك، لكن هل كلّ الفتاوى الفقهيّة تنشأ من هذا النوع من الأدلّة؟

إنّ الذي يلاحَظ من الأحكام الشرعيّة الموجودة بين أيدينا اليوم أنّها على أنحاء من حيث مدركها ومستندها:

أ ـ فبعضها مدركه نصّي، وهذا المستند حصري لولا النصّ لما فهم الإنسان ـ حسبما يبدو ـ هذا الحكم.

ب ـ وبعضُها مدركه عقليّ، فلو لم يأت الشرع أساساً لظلّ هذا الحكم موجوداً في حياة البشر يديرون به أمورهم، كحرمة الاعتداء على الآخر بقتله أو حرمة السرقة أو غير ذلك من حُسن العدل وقبح الظلم.

ج ـ وبعضها مدركه عقلائي، بنى العقلاء عليه نظام حياتهم ومعاشهم، ولو لم يأت الشرع لاستمرّ بناؤهم هذا.

ولو تأمّلنا في هذه الثلاثة ـ بصرف النظر عن التمييز الدقيق بين الثاني والثالث منها ـ لوجدنا أنّ المجموعة الأولى من الأحكام تغطي مساحةً من حياة البشر، فيصدق معها أنّ الشريعة قد غطّت هذه المساحة، أمّا الثانية والثالثة فهي في حقيقتها تشريعات، إلا بشكل استثنائي نادر في نطاق البناءات العقلائيّة، وهنا يُسأل: ألا يعني قيام قسمٍ كبير من القوانين والفتاوى الفقهيّة اليوم على العنصر الثاني والثالث أنّ العقل الإنساني قد ساهم بشكلٍ فاعل في ما بتنا نسمّيه الفتاوى الشرعيّة؟!

وهل مجرّد سكوت النصّ عن البناءات العقلائية يعني نسبة مضمون هذه البناءات إليه وسلب نسبتها عن العقل الإنساني؟ وألا يصحّ أن نقول بأنّ الفتاوى والأحكام الشرعيّة هي حاصل جهود مشتركة من العقل والنص ساهمت في بناء منظومة قانونيّة للحياة البشريّة؟

ولماذا اعتبرت هذه النتائج التي تغطي الحياة البشرية بمثابة تغطية للشريعة التي قدّمتها البنيات التحتيّة على أنّها متعالية عن العقل وأنّه عاجز عن ممارسة دور المقنّن؟ ومجرّد أنّ الفقيه هو الذي استخدم العقل ومارس البناء العقلائي لا يصيّر النتائج شرعيّةً فقط بذاك المعنى، بل إنّ سكوت الشارع عن أكثر من 99% من البناءات العقلائيّة شاهد اعترافه بأنّ العقل والعقلائيّة مصيبان في تقنيناتهما.

إذن، نقطة التساؤل هنا يمكن صياغتها على شكلين:

أ ـ هل سكوت الشريعة عن كلّ هذا الكمّ القانوني الذي وضعه العقل والعقلاء يعني أنّ هذه التشريعات إلهيّةً فقط، أو أنّ الأصحّ أن نقول بأنّها تشريعات وقوانين بشريّة وافق عليها الشرع؟ ومن ثمّ ففاعل القانون هنا وواضعه ليس هو الله المشرّع وليست هي النصوص، بل الفاعل والواضع هنا هو الإنسان، والله وافق على تشريعات الإنسان وتجربته البشريّة، واعتبرها مصيبةً لواقع الاعتبار القانوني اللازم.

ب ـ هل سكوت الشريعة عن كلّ هذه المعطيات المتصلة بأحكام العقل والعقلاء هو موافقة على هذه الأحكام أو هو في جوهره موافقة على مرجعيّة العقل الإنساني في التشريع في الجملة، فكأنّ الشريعة لم تتدخّل في المساحة التي يقوم العقل والعقلاء فيها بالتشريع اعتماداً منها على مرجعيّة العقل بوصفه هبة الله للإنسان، لا أنّها تدخّلت بالموافقة على الأحكام دون الموافقة على أصل مرجعيّة العقل والبناء العقلائي؟

وهذا يعني أنّ سكوت الشارع عن البناءات العقلائيّة والأحكام العقليّة العمليّة ليس هو مجرّد ضمٍّ لها إلى شريعته بالضرورة، بل هو إحالة أو إقرار بمرجعيّة العقل والتوافق العقلائي القانوني، وتركاً لهذه المساحة ما دام النشاط العقلي والعقلائي يتحرّك فيها بشكل مصيب.

وبعبارةٍ أخرى: هل السكوت هنا إعلان بيان حكم شرعي أو هو ترك التدخّل المباشر لصالح الإحالة على مرجعيّة معترف بها، وهي مرجعيّة العقل والتوافق العقلائي؟

هذه الأسئلة يمكن لأنصار نظريّة السكوت هنا الإجابة عنها وفقاً لأصولهم الفكريّة، من حيث إنّ تفسير شموليّة الشريعة بمعنى الشموليّة التفصيليّة يجعل الفرضيّة الأقرب هنا هي صيرورة أحكام العقل والعقلاء جزءاً من الشريعة، ويمكن لنا أن نقرّ بدور العقل في الوصول إلى جزء من الحقيقة القانونيّة، لكنّ هذا لا يكفي للاعتماد عليه دون وجود إمضاء شرعي لكلّ حالة من حالات حكم العقل والعقلاء.

# نظريّة السكوت

 

المصدر: كتاب شمول الشريعة، بحوث في مديات المرجعيّة القانونيّة بين العقل والوحي: 376 ـ 413)، من تأليف حيدر حبّ الله، نشر دار روافد في بيروت، الطبعة الأولى، 2018م.

 

تحمیل الکتاب

 شمول الشريعة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky