الاِجتهاد: من ضمن إدراكه للواقع المعيش يرفض العلامة فضل الله في كتابه “الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل” أن يكون الاجتهاد عملية تبرير للواقع أو يصدر تحت وطأته، فهو يؤمن بتقديم الحلول من خلال قواعد الإسلام، ويحذر من فخ “النزعة الفردية”؛ أي الإفتاء وفاقًا للحالات الشخصية، ويدعو إلى التشريع في إطار الدولة والحكم ليكون مثمرًا، وقد حقق نجاحات في هذا النطاق نظير عقود التأمين وتنظيم النسل والتلقيح الاصطناعي وغيرها.
في الثمانينات من القرن العشرين المنصرم، برز السيَد محمد حسين فضل الله كشخصية إسلامية مميزة فكرًا ونهجًا، وذلك آن عودته من النجف بعد إنهائه الدراسة.
وتقدمه وسائل الإعلام كمرجع وعلّامة يمثل “انبعاث الإسلام المجاهد”، ويصفه الباحثون بالانفتاح وثبات الموقف العقيدي والسياسي، ويقدرون أن ما يكتبه ويعلنه موجه لميدان العمل وللعاملين، ما يجعل من نتاجه متداولًا في أوساط الحركيين، ينكبّون عليها دراسة كمناهج عمل.
وفي كتابه الجديد “الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل”، يرى السيد إلى دور الدين الإيجابي والفاعل والشمولي بعامة في المجتمع الإنساني المتسم بالتنوع، والذي هو “الوسيلة الفضلى للتعارف”، ويرفض مقولة “الدين أفيون الشعوب”، أو أنه يحافظ على الأوضاع القائمة من دون تغيير.
إذ إن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمثل في الإسلام حضًّا إيجابيًّا للمؤمن على تغيير ما في ذاته لينتقل إلى التغيير في المجتمع.
وبإزاء ما يتهم به الدين من ثبات وتقييد في التفاصيل، فثمة شيء من ” ثبات المصالح والمفاسد” غير المرتبطة بطوارىء الخارج السلبية والإيجابية كما يقول، وثمة الواقع المتحرك في عناوينه المختلفة التي لا بد للفقيه من متابعته، ويقف السيد مع تعدد الاجتهادات التي قد تمنح “الساحة الكثير من الحيوية” وتعطي”الحركية الحية للمعنى في الواقع”، وهو يعتبر الدين حاجة طبيعية للوعي تعينه في “الخروج من الجمود المادي الذي يحاصر الفكر ويجمد الروح”، وتقف به على قاعدة ثابتة تذهب أبعد من مادية الحس، والتشديد دومًا على الحرية فلا ﴿إكراه في الدين﴾ (البقرة/256)، إذ قضية الإيمان هي قضية وجدان وخيار ﴿إنا هدينه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً﴾ (الإنسان/ 3)، وهو معنى يُسقط الإكراه.
ويعتبر السيد أن الإسلام على وجه الخصوص يعمل بالبرهان، وهو “الدليل الذي يسند الفكرة” وعلى الإنسان “المشكك” أن يأتي بدوره بحجته، ما يدخلنا في نوع من الجدال والحوار.
يرى العلامة إلى قدرة الإسلام على مواكبة الزمن وإلى حيوية النص وانفتاحه على الواقع من خلال الاجتهاد والمجتهدين. وأي تخلف أو قصور تُسأل عنه ثقافة هؤلاء، وهي “ليست قضية الإسلام في نفسه”، والمشكلة هي “مسألة فهم القرآن”، فالفهم الحرفي جمده أو “علّبه” في مفاهيم ومضامين معينة أبعدته عن حركة الحياة.
لذا، يقف فضل الله في صف الدراسة المتحركة للمنهج في فهم القرآن وفي فهم السنة أيضًا.
يطالب السيد الفقيه بدور شامل يذهب به إلى حد “الرسالية”، أي العمل “على مستوى الدعوة والحكم والجهاد والحركة في خط الإنسان والحياة”، ما يفرض بالتالي عليه الثقافة الواسعة والمعرفة بالحاجات والوقائع الجديدة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وهو إلى ذلك شاهد عصره “يملأ فراغ الحياة من النبوة ليكمن دوره دور الرسالة المتحركة في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد”.
والحال، يغدو ضروريًّا مقاربة الاجتهاد المعاصر في مهماته واتجاهاته والتي يوجزها السيد في اتجاهين معاصرين: الاتجاه التجاوزي والذي يؤدي “اجتهاده” في خاتمة المطاف إلى الوقوف عند “إسلام جديد”، لأنه يتغير ويتبدل بتغير الأوضاع والظروف.
والاتجاه المعتدل، الذي يرى في نفسه امتدادًا لحركة الاجتهاد في الماضي ولكنه يقف وقفة جديدة مع النصوص تستند إلى ثقافة ذاتية للمجتهدين. ينحاز العلامة إلى الاتجاه الثاني، ويرفض الأول لأسباب يوردها، ومنها: ميوعته ومطالبته الإسلام بـ “التغيير على أساس مفاهيم الواقع المعاصر”، وحمله مفهومًا خاطئًا عن الدين يحصره داخل دائرة ضيقة، ويرفض السيد إضفاء أي نوع من القداسة على الآراء الاجتهادية الموروثة.
ومن ضمن إدراكه للواقع المعيش يرفض فضل الله أن يكون الاجتهاد عملية تبرير للواقع أو يصدر تحت وطأته، فهو يؤمن بتقديم الحلول من خلال قواعد الإسلام، ويحذر من فخ “النزعة الفردية”؛ أي الإفتاء وفاقًا للحالات الشخصية، ويدعو إلى التشريع في إطار الدولة والحكم ليكون مثمرًا، وقد حقق نجاحات في هذا النطاق نظير عقود التأمين وتنظيم النسل والتلقيح الاصطناعي وغيرها.
والأساس عند السيد هو القرآن، يُرجع إليه في كل مسألة، ومن هنا لزوم تجديد دراسة النص القرآني حتى تواكب المستجد في الحياة، في فهم معاصر يُنتج تفاسير جديدة من دون أن يتحول الأمر إلى “عقدة ضعف” كما يقول، نُسقط من خلالها المقولات الحديثة على القرآن.
لذلك، فكل تأويل يحتاج في رأيه إلى قرائن تحترم قواعد المجاز والاستعارة والكناية، واتباع منهج دقيق “يلتقي بالفكرة في المدلول اللفظي على أساس القواعد الثابتة في اللغة العربية في فهم المضمون، مع إبقاء الاحتمال لفهم جديد”.
والسُنّة هي المصدر الثاني في وعي الحقيقة الإسلامية شرط التثبت من صدورها عن الرسول، وخصوصًا ما يتصل في علاقته بالتفسير، ولأن القرآن نور وهدى، لا يجوز في عرف السيد أن نفرض عقائدنا واتجاهاتنا وأوهامنا عليه، بل لا بد من أن نرجع إليه من أجل تصحيح مفاهيمنا من عناصر التخلف والأوهام التي فرضت نفسها على الذهنية الإسلامية العامة، والقرآن نقطة التقاء المسلمين يفترض أن يرجعوا إليه ليؤكدوا وحدتهم الإسلامية من خلاله.
وبهذا المعنى تغدو مناقشة مناهج فهم القرآن فائقة الأهمية، ولا سيما تلك التي تجعل منه كتاب رموز وتركز فيه على”الباطن” من خلال “المتشابهات” في مقابل الظاهر.
ويفضل السيد الكلام عن المعنى الكلي والمعنى الجزئي، فيكون المعنى الظاهر هو”المعنى الجزئي المنفتح على الحاضر”، أما المعنى الباطن فهو “المعنى المنفتح على الصورة الكلية المفتوحة على المستقبل”. وتوكيدًا وتطبيقًا لمنهجه فقد بادر السيد إلى تفسير القرآن تحت عنوان: “من وحي القرآن” استلهامًا للأجواء الروحية والعملية التي أحاطت به.
وثمة تشديد على الحركية فيه، إذ كان يتنزل وفاقًا لمسار الدعوة ومن هنا مقولة فضل الله “إن القرآن لا يفهمه إلا الحركيون”، والوعي الحركي عنصر ضروري في هذا الشأن، ولا ينحصر الأمر في الماضي والحاضر، بل يتجه كذلك نحو المستقبل. وللعقل دوره في التفسير أيضًا، فهو مقدم على ظاهر النص (إذا تعارضت معه حجة عقلية أو نقلية) مثل الآيات التي توحي بالتجسيم.
وإذا كان للفقيه المشغول بالنص القرآني هذا الدور الطليعي في مواكبة حركة الواقع، وهو الخاضع لمؤثرات الزمان والمكان ولا سيما العرف والبيئة، فكيف تبدو صلته بالسياسة (السلطة )، وهل هي فاسدة أو مفسدة بالضرورة؟ خصوصًا في ظل الموقف الشيعي المستنكف والمبتعد عن مراكز الحكم تأسيًا بالسائر من القول: “إذا رأيت العلماء على أبواب الملوك، فبئس العلماء وبئس الملوك، وإذا رأيت الملوك على أبواب العلماء، فنعم الملوك ونعم العلماء”، إلى رؤيتهم المخصوصة لدور أئمة أهل البيت.
وقد يعود ذلك أيضًا إلى ما يمثله الناس في الماضي من انحراف السلطات (والسلالات) المتعاقبة. بيد أن للواقع وضروراته إملاءات أخرى تفرض نوعًا من التوازن “بين الخط المبدئي الرافض للظلم والظالمين، وبين الضرورات الواقعية التي قد تتطلب قدرًا من العلاقة، تحدّد مداها المصالح الإسلامية العليا”.
وفي شكل عام، وبخلاف ما يحسم به البعض، فإن السيد ونقلًا عن الإمام الكاظم يرى جواز الدخول “في عمل السلطان الجائر لتحقيق الأهداف الكبرى في المجال العام أو الخاص في حياة المؤمنين”.
ويظهر دور الفقيه محوريًّا في إضفاء الشرعية أو نزعها عن السلطة القائمة مُستهديًا بحكم الله، ضاربًا عرض الحائط بالأهواء الشخصية والمنافع الذاتية متبعًا قول الرسول العربي الكريم “العلماء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قالوا: وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا رأيتم العالم مُحبًّا لدنياه، فاتهموه على دينكم”. وشتان بين العلماء” وعاظ السلاطين “والعلماء” وعاظ الشعب”.
وفي الكتاب أيضًا حوارات عدة معمقة تضيء على فكر العلامة المرجع في شأن النص القرآني والفقه والاجتهاد وقضايا المرأة والأمة والطاعة، وهي تعزز أفكاره المتنورة والمجددة في الفهم والتفسير القرآني في زمن الوقائع الطارئة والعلوم الحديئة والعولمة القارعة لكل باب.
الكتاب: الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل.
الكاتب: المرجع العلامة السيد محمد حسين فضل الله.
الناشر: المركز الثقافي العربي، بيروت، 2009. 382 صفحة.
تحميل كتاب الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل
الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل للعلامة محمد حسين فضل الله“