فضل-الله

في ذكرى المرجع الذي أخذنا إلى الغد.. السيد علي فضل الله: كان الاجتهاد عنده نمطاً عقلانياً وأسلوب حياة

الاجتهاد: أحيت مؤسسات العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) الذكرى الحادية عشرة لرحيله باحتفال أقامته في قاعة الزهراء(ع) في مجمع الحسنين(ع) في حارة حريك.

بدأ الاحتفال بتلاوة آيات من القرآن الكريم ثم قصيدة شعرية للشاعر الدكتور محمد علي شمس الدين ثم قدم أطفال المبرات نشيد من وحي المناسبة.

فضل-الله

وألقى العلامة السيد علي فضل الله كلمة في ختام هذا الاحتفال جاء فيها:

لم نرد في هذه الذكرى تجديد الحزن، هذا الحزن الذي لم يخبُ ولم ينطفئ، ما زلنا نعيشه حاراً منذ أن غاب السيد فَضل الله(رض).. فالسيد كان بالنسبة إلينا الأب والموجه والمربي والباعث فينا الحياة، وراعي طموحاتنا وآمالنا وأحلامنا..

وأضاف: كان حرصه في ذلك أكثر من حرصنا على أنفسنا، وإليه كنا نلوذ عندما تشتد بنا المصاعب، فنستمد منه السكينة والطمأنينة والقوة والأمل بالله والثقة به.. وكنا نجد عنده الدواء الشافي لهمومنا وآلامنا ومشاكلنا، ولم يكن يبخل علينا بطاقة أو مال أو جهد..

ونود في هذه المناسبة أن نشهد على مدى حضوره في كل الميادين التي خاضها، فالكثير من آرائه وأفكاره وطروحاته التي كانت تبدو لدى البعض غريبة ومستهجنة أو يراها غير واقعية أحياناً، لأنها تخالف السائد والمألوف، أصبحت هي السائدة، وهي المنشودة، لذلك طرحنا في بدايات الرحيل الشعار “حضور لا يمحوه الغياب”.. لكننا ونحن اليوم في الذكرى الحادية عشرة لهذا الرحيل، نطرح ومن وحي ما نراه على أرض الواقع لا من وحي عاطفة أو ارتجال، أن حضوره يعززه الغياب بدل أن يضعفه.. لأنه كان سابق عصره بامتياز، كان سباقاً فيما فكر به ونظر له وعندما توقع المشاكل ووضع الحلول لها قبل أن تحصل..

وتابع السيد علي فضل الله: فالعودة إليه في فكره ومشروعه وتطلعاته، هي عودة بنا نحو المستقبل الذي نقارب فيه واقعنا.. وهو ما أشارت إليه جريدة السفير في عنوانها يوم الرحيل وكان “المرجع الذي أخذنا إلى الغد”.

أضاف: لقد كان العلامة السيد محمد حسين فضل الله (رض) استشرافياً ورؤيوياً، هذا لأن السيد(رض) لم يكن في فكره صدى للسائد أو المشهور وحتى الإجماع، ولم يخضع في قراراته ومواقفه للأمر الواقع، ولم يحصر فكره بالزمن الذي عاش فيه، كان مستقبلياً يرى في المستقبل سعة ورحابة ومحط طموحاته ومنهل أفكاره التي قد لا يستطيع الواقع المتخلف هضمها أو تحملها..

وقال فضيلته: ونحن اليوم، سنتوقف عند بعض ما سبق به عصره بنهجه ولنأخذ به..

فقد كان سباقاً عندما دعا إلى إعادة النضارة إلى النص الديني وإشراقه، كان يريد له أن يقدم كما هو صافياً نقياً قادراً على أن يدخل إلى العقول والقلوب،

لهذا عمل على تهذيب الحديث من كل ما دخل إليه من غلو وخرافة أو ما أدخله الحكام والسلاطين الذين كانوا يريدون الدين مطية لتثبيت حكمهم، بدل أن يؤدي دوره في رفع مستوى حياة الناس ويحل مشاكلهم، حتى لا يلبس الدين لبوساً ليس له ولا تعطى القداسة لما هو غير مقدس!! فلا يؤخذ أي نص سوى النص القرآني الذي هو نص معصوم إلا بعد عرضه على طاولة البحث والتدقيق من المصدر والمضمون.. وها هي الأيام تثبت أن الخيارات التي اعتمدها صارت حديث العلماء والحوزات والمعاهد الدينية ومراكز التحقيق..

وأشار إلى دعوة العلامة السيد محمد حسين فضل الله (رض) لعدم الجمود في فهم النص وتطوير آليات الاجتهاد، لأنه أراد للدين أن يلبي احتياجات الإنسان ومتطلباته في هذا العصر، فلا يكون خارجه ولا يراه الملتزمون عبئاً عليهم ومشكلة، فرحلة استكشاف الدين والتعرف إليه لا تتطلب استنساخ أفهام الماضين، بقدر ما تتطلب سبر أغوار النص وظروفه ومعطيات الاجتماع والسياسة، ومقاربة هذا النص في الظروف الجديدة.

وأكد أن الاجتهاد عند السيد(رض) لم يكن صُنعة، بل كان نمطاً عقلانياً وأسلوب حياة وتفكيراً عميقا في الماضي لأجل المستقبل..

أما على صعيد المؤسسات، فقد كان السيد سباقاً عندما عمل على مأسسة عمل الخير، وهذا شكل نقلة نوعية في مقاربة حوائج الناس فكانت المأسسة تقديراً منه أن الخير يتواصل ويتكامل، ويجب أن لا يكون رهينة مبادرات فردية تحضر يوماً وتغيب يوماً.

وهذا هو ما حصل في المؤسسات التي أرسى قواعدها فهي تستمر في دورها الإنساني والاجتماعي الذي أنيط بها، رغم الصعوبات الكبيرة والأوضاع المأساوية، ولن نتلكأ عن القيام، وضمن الإمكانات، بملء أي فراغ أو سد أي حاجة يتطلبها المجتمع، لا سيما في هذه الظروف، التي تتطلب استنفار كل المخلصين لمواجهة أوضاعنا الصعبة والقاسية..

أما الأمة الإسلامية، فقد كان العلامة السيد محمد حسين فضل الله سباقاً باستشراف خطورة الفتن المذهبية والعصبيات عليها، ولذلك عمل على وقايتها من كل ما يهدد وحدتها ويوتر العلاقات فيما بينها، ويؤدي إلى الشرخ الداخلي عندما دعا لاعتماد لغة الحوار ومد جسور التواصل والتأكيد على القواسم المشتركة وإلى القراءة الواعية للتاريخ، وكان دائماً إطفائياً للتوترات وداعياً إلى الوحدة الإسلامية والوطنية، وعدم الانصياع لمن ينشرون الهواجس بين الطوائف والمذاهب وبين دول العالم العربي والإسلامي..

أما فلسطين، فقد كانت بالنسبة إليه البوصلة، وعنواناً جامعاً للأمة وموحداً لها، ومعبراً عن قيمها في العدالة والحرية للشعوب، وأمامها تسقط كل القضايا الصغيرة والهامشية ولا يزال قوله يتردد: “لن أرتاح إلا عندما تعود فلسطين إلى أهلها”.

أما لبنان، فقد كان رؤيوياً عندما كان يرى فيه عنواناً للتنوع الديني وللقيم الأخلاقية التي هي عنوان كل الأديان، وكان يرى فيه منطلقاً للحوار، لكنه لطالما حذر من أن يضيع في المتاهات الطائفية..

فقد كان يرى أن الطائفية ليست ديناً، هي تجمع بشري يعنون بعنوان الدين ولا يحمل قيمه، هي مرض لبنان العضال، فمنها تنبعث شرارة تهديد السلم الأهلي، ومنها تنبعث المحاصصات وعمليات نهب المال العام، وبها يحتمي الزعماء الفاسدون وحاشيتهم من العقاب، وبسببها تنطلق التحالفات مع الخارج على حساب الوطن، وفي مواجهة ذلك كان يريد أن يؤنسن الوطن، ليعيش الإنسانية في علاقات أبنائه وطوائفه بعضهم ببعض،

فدعا إلى دولة المواطنة، دولة الإنسان على حساب النظام الطائفي الذي كان عرفاً ثم صار قانوناً. ولقد تحدث السيد كثيراً عن ضرورة مواجهة الفساد الذي يتلطى خلف الشعارات الطائفية والمذهبية ويستفيد من مناخاتها، حتى كاد يتحول الفساد إلى ثقافة عامة، تماماً كما أشار الإمام علي(ع) عندما اعتبر أن “فساد العامة هو من فساد الخاصة”.

وأردف: كان يخاف كثيراً على مستقبل لبنان، وكان يحذر من أن ينجح الفاسدون في مواجهة أي حركة إصلاحية… فيقول: “أن كل حركة لمواجهة الفساد الداخلي لن يكتب لها النجاح إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه في هذه الحمى العشائرية والمذهبية والطائفية التي يسهر الكثيرون على حمايتها ورعايتها على حساب البلد وأمنه الاجتماعي والسياسي ومستقبل أجياله”..

وقد كان سباقاً عندما أراد للبنان أن يكون قوياً، ولذلك كان سنداً للمقاومة عندما تحملت مسؤوليتها في مواجهة الاحتلال وشكلت معلماً من معالم قوة في هذا البلد وركناً من أركان المجتمع اللبناني، تحميه من الاعتداءات الصهيونية وتشكل توازن الرعب الذي منع ويمنع العدو من ارتكاب مغامرات جديدة في لبنان…

لقد تطلع العلامة السيد محمد حسين فضل الله إلى الإنسان، رجلاً أم امرأة وطفلاً، وأراده أن يعيش حراً وكريماً وعزيزاً. ولهذا فهو سلّف للمستقبل جيلا ثائرا على القمع والتسلط والظلم.. لكنه في الوقت نفسه، جيل يهتدي بالحكمة لتكون ضالته. وهذا التوازن بين الحكمة والثورة هو الذي يصنع الأمل.

إن الوفاء للسيد(رض) يكون بأن نظلّ ننهل من فكره، ونقرأه من جديد على ضوء الواقع علنا نكتشف أفهاماً جديدة، فمن كان سابق عصره، ومن كتب وخطب لأجيال لاحقة وأسس لمستقبل أفضل، لا بد وأنه ترك فينا مسؤولية أن نستلهم فكره في تطلعنا نحو المستقبل…

لقد ترك السيد في أعناق محبيه ومريديه أمانة، يريدهم أن يحملوها بروحيته وتطلعاته بأن يكونوا رؤيويين في كل الميادين التي خاضها في العلم والفكر السياسي والفقه والتربية والتوجيه والبناء الأخلاقي والروحي، وفي المؤسسات… أن يكونوا قدوة للآخرين ودائماً يتقدمون الصفوف حيث كانوا وعملوا..

وختم: لقد صنع السيد مستقبلاً لنا، فلنعمل على أن نصنع مستقبلاً للأجيال القادمة عندما قال: “أريدكم أن لا تستغرقوا بهوامش الحاضر ولا بصغائره بل كونوا مستقبليين”..

إننا في هذا اليوم نقف جميعاً لنعاهدك على ما دعوتنا إليه ولن نخذلك مهما كانت الصعوبات والتحديات وتحت ظلال فكرك وروحك سنتمكن من تجاوزها..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky