الشهيد محمد باقر الصدر

في ذكرى الشهيد محمد باقر الصدر / إبراهيم العبادي

الاجتهاد: في نيسان 1980 قتل النظام المجرم المفكر والفقيه السيد محمد باقر الصدر (1935-1980)، اربع واربعون عاما مرت على هذا الحدث المفجع، ولم تعد اجيال العراق الجديدة تعرف أي خسارة علمية ومعرفية واخلاقية خسرها العراق تحديدا ،لتتعلم من تاريخ بلادها وتقلباته دروسا وعبرا تمنع تكرار الخسارات وتراكم الفواجع وضياع الفرص .

كان السيد محمد باقر الصدر رجل اصلاح ونهضة، وداعية تغيير وتطوير اجتماعي وسياسي، وهو فوق ذاك فيلسوف ومنظر ومجتهد اسلامي كبير، تحتفي الدول والمجتمعات بأمثاله، وتضعهم في المواضع التي يستحقونها، فمثل هذا الرجل مدرسة في العلم والعمل، وعلامة على حيوية علمية ونبوغ مدرسي وذكاء اجتماعي.

كانت خسارة العراق كبيرة بقتل الصدر الاول ،لماذا؟ لانه كان من العقول الكبيرة التي تفكر باستنهاض المجتمع وبناء الدولة وإصلاح النظام السياسي والاقتصادي وتحسين النظام الاجتماعي، لم يكن الصدر عبقرية فردية ظهرت في برهة من الزمن، لتمضي بلا آثار أو نتائج،

كان ظهوره في مرحلة تحتاج الى امثاله ،هي مرحلة تلمس الطريق إلى بناء الدولة العصرية والمجتمع الحديث، وكانت خيارات النخبة السياسية العراقية تذهب إلى توظيف الخيار الكولونيالي والافادة منه في مأسسة هذه الدولة وتغيير انماط الفكر والسلوك وأنظمة الثقافة والاقتصاد.

فتح الصدر عيونه على واقع صراع ايديولوجي عنيف تتردد اصداءه وافعاله في جنبات بلادنا، بين اتجاه قومي متطرف، واتجاه ماركسي ينتشر كانتشار النار في الهشيم، واتجاهات محافظة تخشى على مصالحها وتتدرع بمواجهة (الغزو الفكري والثقافي) وتلهث للحفاظ على بنية عتيقة كانت تهتز بفعل حفريات الايديولوجيات الجديدة الصاعدة.

لقد هاله هذا المعترك الرهيب، والطفولية الايديولوجية التي توهمت اقتلاع (الفكر القديم)، فاطلقت العنان لاحلامها ومشروعها بلا ترو ولا دراسة عميقة موضوعية لاحوال المجتمع ومؤسساته الراسخة وبنيته الفكرية والثقافية.

حينما قرر الصدر مواجهة هذه (الهجوم العنيف) كان يختزن في أعماقه فكرة الصيرورة الحضارية ويثق بامكانية تحقيق النهوض والتنمية وفق خيار (الامة) نابع من جذورها الحضارية ومبادئها وقيمها وتشريعاتها واخلاقيتها.

كان يعيب الاستعانة بخبراء تنمية غربيين لاصلاح واقع المجتمعات المسلمة كما فعلت اندونيسيا ولم تنجح كثيرا بعد الاستقلال، وكان يقترح النموذج التنموي انطلاقا من القيم المعنوية والدينية واخلاقيات الاسلام في تعبئة الفرد والجماعة، لكنه لم يقتنع بالمواجهة العسكرية بل بالصراع الاجتماعي المنتج، فكان يجتهد في بناء وعي الفرد والجماعة وفق منظورات اسلامية حركية حايثت تجارب اسلامية سابقة ابطالها زعماء وقيادات ومفكرون ينتمون إلى مايعرف بالاصلاحية الاسلامية.

من واقع هذه الاصلاحية انطلق محمد باقر الصدر وكأنه في سباق مع الزمن، باحثا عن المركّب الحضاري الذي يراه الدواء الناجع لمواجهة التخلف الاقتصادي والتراجع الحضاري والتردي الاجتماعي والسياسي، كان يقرأ وينتج ويستعين بمصادر معرفة متعددة المناهج، لتوليد التوليفة الاسلامية التي يعتقدها خارطة الطريق للنهضة، سواء بتجديد الفكر الديني على غرار محمد اقبال ( 1877-1938)، أو بالتفلسف الحديث الذي يمزج الفلسفة الاسلامية بالفلسفة الحديثة واشتغالاتها المعاصرة على الفرد والمجتمع،

كان يجهد نفسه للابداع داخل المؤسسة الدينية منهجا وأصولا وادوات وفعاليات، والاجمل والاهم مافي منهجه، هو التطورية والتجديد ومواكبة العصر، مقتنعا بان نهضة الامة ممكنة وفقا للطريق الثالث غير طريقي الراسمالية ونظمها، والاشتراكية وصرامتها واستبدادها السياسي، وبقي واثقا من منهجه وخياراته مستجيبا لداعي التطور والتراكم الفكري، حتى ان ماكتبه في مجال التنظير لشكل الدولة ونظامها السياسي لحقه تعديل وتغيير كبيرين بين مرحلة التنظير الاولى عندما كتب اسس الدولة الاسلامية إبان تاسيس حزب الدعوة الاسلامية1957-1959 ومرحلة التنظير الاخيرة عندما كتب (اللمحة الفقهية التمهيدية لدستور الجمهورية الاسلامية)عام 1979، فقد كان الصدر في الاسس متشددا يكتب بعقلية القطيعة الفكرية والمنهجية مع المدارس الاخرى والفكر الانساني المعاصر المغاير، فيما ظهر مرنا ومستفيدا من الاليات التي انتجها الفكر البشري في مجال التنظير للنظام السياسي والدولة عموما، ومجال مسؤولية الامة والجمهور وحقوقهما في الاختيار أو الامضاء أو الانتخاب او الرفض.

يذهب بي الخيال إلى مدرسة فرانكفورت الاجتماعية -الفلسفية، وأقول ماذا لو تعاون حينها مفكرون وعلماء واختصاصيون كبار امثال علي الوردي وحاتم الكعبي وجواد علي وضياء جعفر وقيس النوري ومحسن مهدي وامثالهم ونوابغ حوزة النجف مثل الصدر، في تاسيس مدرسة نقدية على غرار مدرسة فرانكفورت أو حلقة فيينا، مدرسة كان يمكن أن تحدث تغييرا في الفكر الاجتماعي وصدمة ثقافية، وزحزحة لقطيعة متوهمة بين الجامعة والحوزة النابهة، ألم يك ذلك قد وفر علينا كل هذا الزمن المهدور في العداوات الايديولوجية والتنابز المعرفي والعلمي والوحشية السلطوية، لماذا نكرر ذات الاخطاء ونعيد التجارب من الصفر في كل مرة.

لقد قتل الصدر بصمت قاس بسبب هذه القطيعة بين الأوساط العلمية والأكاديمية والدينية، وكان اوقف حياته ووجوده من أجل الانسان ورفعة العراق ورقي المجتمع العراقي، لقد عمل واشتغل وانشغل في حقل العلوم الاجتماعية والفلسفة والدين،

وكان يمكن للجامعة والاكاديمية العراقية رفقة الحوزة العلمية أن تختطا مسارا من التعاون العلمي والمعرفي، يرتادان فيه شوط التغيير الاجتماعي والتوطئة للاصلاح السياسي، تماما كما عملت الكنيسة البولندية ونقابة التضامن العمالية عام 1983والنخبة الاكاديمية للخلاص من سطوة الاستبداد والشمولية الماركسية،

قتل الصدر لتقتل افكاره بمنع تداول الافكار شفاها وكتابة، وتوارت نظريات العلوم الانسانية خلف جدار الصمت المطبق، داخل وخارج أسوار الجامعة، وظلت علاقات العلماء مشوبة بهواجس التباعد والشك والتعالي بذريعة تناقض مسارات الدين والعلم واتباعهما ،وهو مالم يحصل بصورة مشوهة إلا في بلدان الشموليات البعثية، العراق وسوريا وأمثالهما.

 

المصدر: جريدة الصباح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky