خاص الاجتهاد: تحدث سماحة الأستاذ الشيخ محمد السند البحراني في هذا الحوار الذي حاورنا سماحته قبل أشهر في النجف الأشرف عن سيرته بصورة موجزة. كما تطرق سماحته إلى المحاور التالية: مدرستي قم والنجف وميزاته، تعاملهما مع الفلسفة واهتمامهما بعلم الحديث وطابعهما السياسي بين الشدة والضعف، وضرورة توفير تسهيلات آلية بين الحوزتين وأخيراً التحذير بخطر انقطاع الطلبة عن التراث الحوزوي.
مواكبة الحوزة مستجدات العصر أمرٌ يتطلّب ركنين أساسين: قوة الدراسة الحوزوية،والاطلاع والانفتاح العلمي والثقافي للحوزات على البيئات الحديثة.
مع الأسف الشديد توجد الآن ظاهرة خطيرة جداً كعدوى، وهي عدم القوة في دراسة المقدمات في الحوزات العلمية في النجف وقم.
إنّ السيد اليزدي “صاحب العروة” ذو باع عجيب في الفلسفة والعقليات، وله هوامش على الأسفار.
أقول بصراحة: لا أقرأ آية اليأس، توجد والحمد لله نقاط إيجابية قوية في الحوزة، لكن إن هذا التضعضع في بُنَى الحوزة مؤشر خطيرٌ جداً.
وجدت أحد المجتهدين وكان نابغة، يقول: الجواهر صعب عليّ! وهذا منعني أن أغوص في علم الاجتهاد، مع أنه كان متخصصا في علم من العلوم الحوزوية الكبيرة. إذا كان كتاب الجواهر يصعب عليه وهو من جيل خمسين سنة ماضية، فالإخوة الذين يدرسون الفقه التسهيلي والفقه السندويشي اليوم! بالتأكيد لا يمكنهم فهم “الجواهر” ولا “مجمع الفائدة” للمقدس الأردبيلي، ولا “المبسوط” و.. بل يصعب عليهم، وكأنما جدار حاجزٌ أمامهم يحول دون فهمه، لذا الانقطاع عن تراث عشرة قرون في علوم دينية عديدة آفة خطير جداً!
بسم الله الرحمن الرحيم
تميز سماحة الشيخ محمد السند (دام ظله)الذي ولد في شهر رجب من سنة 1382هـ الموافق1961م في البحرين، بنبوغه من اوائل نشأته حتى كان يعتمد عليه ابيه في تجارته.
وبعد انتهاء مرحلة الثانوية في بلده ونيل شهادة الدبلوم في سن مبكرة توجه عن طريق بعثة دراسية إلى لندن في كلية (ديويد گيم) للدراسات العليا قسم الهندسة، وبنبوغه حصل على شهادة فوق الدبلوم من الكلية المذكورة في مدة سنة واحدة, وفي السنة الثانية أخذ مواد إضافية والتحق بالكلية التخصصية المسماة بـ(الامبريال).
إلا أن الهاجس الروحي الذي ترعرع عليه في حب أهل البيت (عليهم السلام) حال دون إكمال مسيرته الاكاديمية ويمم وجهه نحو عش ال محمد عليهم السلام مدينة قم ليكرس كل جهده في سبيل الله (جلَ جلاله) وينتقل للدراسة الحوزوية, للدفاع عن مذهب أهل البيت, وغربة الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) …وقد رست سفينة الرحلة أخيراً الى جوار مرقد إمام الهدى والنجاة في النجف الأشرف. ( منقول من موقع سماحته على النت)
وإليكم تفاصيل الحوار:
شيخنا الكريم لو تتفضلون في البداية بتقديم نبذة مختصرة عن سيرتكم ودراستكم وحضوركم في قم والنجف الأشرف.
الشيخ محمد السند: جئت إلى مدينة قم سنة 1399هـ.ق، وبقيت في هذه المدينة المباركة حتى سنة 1430هـ.ق. درست المقدمات في قم، ومكثت فيها ما يقارب الثلاثين عاما؛ حتى كتابة الرسائل العملية.
بعد ذلك انتقلت في شهر صفر سنة 1430هـ.ش إلى النجف الأشرف، وأقيم فيها إلى يومنا هذا (1440هـ)، وغالباً ما أزور قم المقدسة في الصيف لمدة شهر أو شهرين بغرض التدريس.
إذن استمر تواصلكم مع مدينة قم؟
نعم، وأحيانا أقيم في مدينة مشهد جلسة نقاش وبحث أو أسئلة وأجوبة.
على يد من تلمّذتم في مدينة قم؟
الشيخ محمد السند: درستُ على يد الميرزا هاشم الآمُلي (كتاب الصلاة من العروة)، وفي الفقه والأصول والدروس الصيفية تلمذت على يد السيد محمد الروحاني(1) رحمه الله، والقضاء والشهادات وشيء من الحدود على يد السيد الكلبايكاني(2)، وأيضاً درستُ عند السيد العلامة علي الفاني(3) رحمة الله عليه، وشاركت أيضاً تسع سنين في دروس الأصول القديمة عند المرجع الديني الشيخ وحيد الخراساني”حفظه الله”، ودرستُ السنين الثلاث الأخيرة من حضوري في بحث الخارج على يد الشيخ جواد التبريزي”ره” في الفقه والأصول، وكتابة المنهاج، فقد كنتُ أشارك في الجلسة التي كان يقيمها.
أثناء تواجدكم في قم هل كان هناك رواج لمسألة “مدرستي النجف وقم”؟ وهل كنتم تحضرون عند أستاذ تعتبرونه من مدرسة النجف؟ وماذا عن أهم ميزات المدرستين؟
الشيخ محمد السند: في علوم المعقول (الإشارات والشفاء والأسفار والفصوص والمنظومة و…) درست على يد الشيخ يحيى الأنصاري (4) “رحمه الله” والشيخ حسن زاده الآملي والشيخ جواد الآملي، ودرست أيضاً عند جملة من المشايخ في مدارس كلامية تنتقد الفلسفة.
نعم كان هناك ما يمكن أن نسميه طابع مدرسة النجف، وطابع مدرسة قم، أي أنّ كلتا المدرستين كانتا في قم.
النجفيون النازحون من النجف إلى قم أمثال الميرزا هاشم الآملي(5)؛ الجامع بين المدرستين؛ إذ أنّه درس على يد الشيخ عبد الكريم الحائري (الصلاة وشيئاً من الأصول)، وعند النائيني (الصلاة والأصول وكتب أخرى)، وعند الآقا ضياء الدين العراقي (درس عدة كتب فقهيه ودورات الأصول) وعند الكمباني، فقد كان تلميذا لأربع مدارس، ولكن أستطيع أن أقول إنّ الطابع النجفي عند الميرزا هاشم الآملي يغلب على طابعه القمي.
أيضاً الشيخ عبد الكريم الحائري “رحمة الله عليه” يحمل طابع مدرسة سامراء؛ فهو درس عند الميرزا محمد حسن الشيرازي (المجدد) فيغلب على أصوله طابع مدرسة الميرزا الشيرازي صاحب فتوى التنباك.
كذلك السيد محمد روحاني أيضاً تلميذ الكمباني لأربع سنوات، وتلميذ السيد الخوئي والشيخ محمد رضا آل ياسين وأمثال هؤلاء الكبار النجفيون.
بينما السيد الكلبايكاني طابعه طابع قمي. والسيد الفاني طابعه نجفي، يعني أغلب أساتذتي طابعهم طابع نجفي، مع أنّ السيد الكلبايكاني أيضاً درس أربع سنين عند الآقا ضياء الدين العراقي، إلا أنّ عمدة دراسته كانت عند الشيخ الحائري؛ وقلما حضر في الفترات الأخيرة عند السيد البروجردي.
باختصار أستطيع أن أقول أنّ مدرسة النجف تركّز أكثر على الصناعة الأصولية والصناعة الفقهية أكثر. بينما نلاحظ أنّ مدرسة قم مثل السيد الكلبايكاني والعلماء الكبار أمثاله، يركزون أكثر على التدبّر الفقهي والتتبع الفقهي، وعلى الذوق العرفي، وعلى التتبّع في الأبواب، والالتفات إلى النظائر، وأبعاد مقدمات الاستنباط، ويتوسّعون في البحوث اللغوية بشكل أكبر. فلكل مدرسة طابعها فمثلاً نجد إتقان علوم الحديث في طابع المدرسة القمّية.
يعني كان هناك اهتمام كبير بمسائل علم الحديث؟
الشيخ محمد السند: نعم، بسبب السيد البروجردي “رحمة الله عليه”، لأنه كان تلميذ شيخ الشريعة لعشر سنين، فتأثّر السيد البروجردي بشيخ الشريعة كثيراً.
وقد اهتم شيخ الشريعة إلى جانب التتبع وجانب المقدمات المؤثرة في الاستنباط من علم الحديث، وتميز السيد البروجردي في هذا الجانب كثيراً، فلكل مدرسة خصائص ونقاط إيجابية نستطيع أن نلمسها.
لا أقول أنّه في المدرسة النجفية لا يوجد مثل هذه النماذج، فمثلاً نموذج السيد محسن الحكيم يختلف في طابعه عن السيد الخوئي. والسيد اليزدي يختلف في طابعه عن مرحوم الآخوند. فالسيد اليزدي ضَمَّ إلى الصناعتين الأصولية والفقهية التتبع في علوم الحديث و…
ولكن تبقى فوارق بين المدرستين؛ منها التحقيق في متن الحديث في ناحية الدلالة والقرائن والعلل، وهذا البعد ساهم فيه السيد البروجردي كثيرا، وله تأثير في الاستنباط. والغالب هو هذا الطابع، وهذا هو الفارق الأساسي الذي نستطيع أن نشخّصه.
هل يمكننا القول أن هذا الطابع، هو الطابع التحقيقي؟
الشيخ محمد السند: نعم، أستطيع أن أضيف فارقاً آخر وهو أنّ المدرسة القمية ولاسيما بعد الثورة الإسلامية حريصة على مواكبة ومطالعة الأبواب الحديثة؛ مثل الفقه السياسي أو الفقه المجتمعي والحياتي و… وإن كان لدى النجفيين مثل الشيخ حسين الحلي، والمرحوم الشهيد محمد باقر الصدر، والشيخ محمد رضا المظفر، والشيخ محسن كاشف الغطاء “رحمهم الله” هذا المنحى أيضاً.
والعلامة الطباطبائي أيضاً هو خريّج المدرسة النجفيّة، ولكنه أخذ طابعاً متميزاً من أساتذته.
هل العلامة خريج المدرسة النجفيّة في الفقه والأصول؟
نعم، حتى في الفلسفة والعرفان هو خريج المدرسة النجفيّة، وهو خريج محض لها.
تقصد أنه يمكن اعتبار الفلسفة والعرفان للمدرسة النجفيّة؟
الشيخ محمد السند: نعم، ربما الكثير لا يعلم ولكن لا بأس أن أذكر أنّ السيد اليزدي “صاحب العروة” ذو باع عجيب في الفلسفة والعقليات، وله هوامش على الأسفار، وتشهد حاشيته على المكاسب بتضلّعه في العقليات بشكل واسع. وهو صاحب مدرسة معنوية، ومن ضمن تأليفاته ديوان في العرفان باللغة الفارسية،
حتى الشيخ بهجت “رحمة الله عليه” قال: التقيت مع تلميذ الجانب المعنوي للسيد اليزدي.. وكان مليئا بالمقامات وكذا، والجانب الآخر مثلا الميرزا النائيني. فهو “رحمه الله” معروف بالبعد الأصولي، ولكن نفس الميرزا النائيني أيضاً هو صاحب مدرسة معنوية خاصة، وتلميذه الآغا جمال الدين صاحب مدرسة معنوية أيضاً، فجانب المدرسة المعنوية كثيرٌ في النجف.
فلماذا عندما يعدد البعض ميزات حوزة النجف يعتبرونها ممحضة في الفقه والأصول، ولا اعتناء لها في الجوانب الأخرى كالتاريخ والفلسفة والتفسير؟
الشيخ محمد السند: لا، هذا في الحقيقة غبنٌ لمدرسة النجف. ففي البُعد التاريخي: تخرج من مدرسة النجف كل من السيد محسن شرف الدين، والشيخ الأميني، والأردوبادي، والشيخ جعفر النقدي، والآغا بزرك الطهراني، والسيد محسن الأمين (صاحب كتاب أعيان الشيعة)، والسيد حسن الصدر (صاحب كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام)، ومدرسة سامرا مدمجة مع مدرسة النجف.
وفي الأبعاد الأخرى الشيخ عبدالله المامقاني (صاحب تنقيح المقال)، والسيد الخوئي صاحب معجم الرجال، والميرزا حسين النوري، فمدرسة النجف فيها مدارس رجالية ودورات حديثية.
مدرسة النجف مدرسة متنوعة، غاية الأمر هو أن هناك طابعاَ في مدرسة النجف لا يجعل من الفلسفة والعرفان وحي مُنزل، بل تتعامل معهما كإنتاج بشري، ولا يميلون الى تهويل الفلسفة، وكأنّ كل حرف فيها هو كتاب مسطور وورق منشور.
نعم في الآونة الأخيرة (فترة حكم النظام البعثي) بسبب شراسَة هجوم البعثيين على حوزة النجف، وتسفير كثير من طاقات وأعمدة النجف الأشرف، قَلّ جانب البحوث العقائدية والكلامية والتفسيرية، لكن الحمد لله عادت الآن بعد سقوط نظام الطاغية إلى البحوث العقلية والعقائدية والتفسيرية.
وإن كانت ضعيفة، لأنها ليست مشهودة في أجواء الحوزة. لكنها آخذة في الانتشار، ولكن كما أشرت، كانت الضربات البعثية لحوزة النجف شديدة، ولو تلقّتها أية حوزة اٌخرى لأُبيدت، ولكن بَقيت الحوزة النجفيّة صامدة بكيانها وجزورها لقوتها، وهي تتعافى من هذه الضربات شيئاً فشيئاً.
تفضلتم أن التتبع والانتباه إلى العرف ميزة المدرسة القُميّة أكثر من المدرسة النجفية، وأنّ المدرسة النجفية ممتازة في الصناعة الفقهية والأصولية، فهل هناك أثر لهذا الجانب على أعلام المدرستين في السلوك الاجتماعي أم لا؟
الشيخ محمد السند: في الحقيقة الثورة الدستورية (المشروطة) في إيران أيضا فيها مشاركة من حوزة النجف، وبمشاركة الأخوند والنائيني و… وهذا لا يمكن أن نغفله، ولكن مشاركة حوزه قم في الحالات السياسية أكثر طابعاً من حوزة النجف، وهذا بسبب ظروف وعوامل مرت بها، ولكن هذا لا يعني عدم المشاركة،
من الأمثلة على ذلك:
ثورة العشرين التي أقامتها الحوزة العلمية في النجف وحوزة سامراء، والتَّصدّي للاحتلال حتى في البلدان الإسلامية عملا بفتوى السيد اليزدي والآخوند الخراساني، كذلك مشاركة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والشيخ عبد الكريم الزنجاني.
ويقال أنّ للسيد عبد الحسين شرف الدين – وهو خريج حوزة النجف – سهماً وافراً في فتوى الشيخ شلتوت إذ تواصل مع الأزهر وأثّرَ في موافقهم، كما كان للسيد البروجردي والسيد محسن الحكيم.
فدور حوزة النجف في هذا الجانب لا يمكن أن نغفل عنه في العالم الإسلامي أو في الجانب السياسي.
لكن خوض حوزة قم العلمية في مجال التبليغ والتوعية والتثقيف الاجتماعي ذا طابع متميّز يمكن أن نلمسهُ.
بعبارة أخرى، الظروف التي قاسَتها حوزه النجف ليست ظروف سهلة، بل هي شرسة وقاهرة، وبرغم من ذلك قامت بأدوار لا يستهان بها، مثلاً رحلة الشيخ عبد الكريم الزنجاني أخذت صداها في الشام وفي فلسطين وسوريا ومصر، ومن قبله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، كذلك السيد حسين شرف الدين صَلّى في المسجد الحرام إمام جماعة؛ حيث أوكلت إليه عدة أيام.
فأستطيع أن أقول أنَّ وَقْعُ حوزة النجف في الطَّرف الآخر في العالم الإسلامي أكثر هيبة وقوة من حوزة قم الشريفة، وإن كان لحوزة قم جهود لا يستهان بها، لكن هذا واقع مملوس.
كما أستطيع أن أقول أنّ حوزة النجف بما لها من طابع ومميزات، وحوزة قم بما لها من طابع ومميزات، تتكاملان في الأدوار، وهذا هو المطلوب أيضاً من حوزة كربلاء وحوزة مشهد، أو حوزة الكاظمية أو أصفهان، وحوزة جبل لبنان أو البحرين أو القطيف أو الأحساء وهَلُمّ جرّا.
الحوزات الشيعية كلّما كثُرَت أصبحت مراكز نور تَشعّ أكثر وأكثر، مثلاً في القرن السادس أصبحت “حلب” عاصمة الحوزات الشيعية، بني زهرة وابن شهر آشوب الذي كان المرجع الأعلى وبني زهرة كانوا يقطنون حلب، ومازالت قبورهم هناك.
فهذا يدلّ على أن الحوزات الشيعية كلما كثرت وتعددت تأخذ طابعا من الأدوار والمسؤوليات، وتكمّل بعضها البعض.
قبل صدام وفي الظروف العادية نرى نوعاً من العلاقة الثابتة والمستمرة بين الحوزات، ولكن حاول صدام بعد تسلمه الحكم حصر حوزة النجف وللأسف استطاع وحال دون توسعها إلى درجة كبيرة، برأيكم كيف نستطيع اليوم وبعد سقوط صدام والانفتاح الموجود، أن نصل إلى المستوى المطلوب من العلاقات بين الحوزات؟
الشيخ محمد السند: من الضروري توفير تسهيلات آلية بين الحوزتين. مثلاً ألححت على بعض مؤسسات النشر في قم لافتتاح مركز في العراق للنشر والتواصل الثقافي، وإلى الآن لم يتم ذلك، ولا أدري سبب البطء!
لو تسهل أيضا أمور أخذ التأشيرة، وبشكل خاص لطلبة النجف وطلبة قم من أجل الزيارة وغير ذلك من الإجراءات، فمثلا بدل أن تكون شهر لتكن ثلاثة أشهر أو سته أشهر وهذه الأمور تعبّد الطريق للتواصل.
واقترحت أيضا أن يكون هناك مبني مؤلف من شقق سكنية خاصة بطلبة قم أو طلبة مشهد في النجف الأشرف وفي كربلاء، وبالخصوص للعلماء الفضلاء الذين يريدون أن يقضوا موسماً علمياً معيناً، أو يريدون متابعة تحقيقات علمية معينة مدة شهر أو أكثر. و كذلك لو تبني العتبة الحسينية أو العبّاسية أو العتبة العلوية في قم شقق سكنية لاستضافة بعض الطلاب أو الشخصيات الدينية النجفية الذين يمكثون فيها شهرا أو شهرين.
أو مثلاً إحداث طريق بين قم أو تهران والنجف وكربلاء و.. لتنفيذ هذه الاقتراحات تأثير ثقافي وحوزوي وحضاري وعلمي و …
هذه الآليات التسهيلية، وهذا التزاور والذهاب والإياب يسهّل عملية التلاقح والتفاعل بين المحققين والكتّاب والباحثين والمؤسسات، وهو الآن جاري نسبياً، لكن يمكن تعزيزه بشكل أكبر.
كثيراً ما قلت للإخوة المسؤولين في حوزة قم وغيرها: النجف باب لكم، لها موقع خاص في العالم الإسلامي وفي الأزهر، وحتى عند الوهابية، وجامع الزيتونة والقيروان وحتى في الغرب، وهذا بحكم وجود أمير المؤمنين – سلام الله عليه – وبالمقابل حوزة قم بابها مفتوح لدول كثيرة كباكستان والهند وأفريقيا و…، لو تمّ هذا التلاقح الفكري، سيخدم كلا الحوزتين وسيخدم المشروع الشيعي العالمي إن شاء الله بشكل كبير جداً.
بشكل خاص في أي مجال يجب أن تكون هذه العلاقات بين الحوزتين؟
التفاعل العلمي يجب أن يأخذ مساره الطبيعي، هناك ترشيد للأهداف والمسارات. هذا صحيح، ولكن يجب أن يكون برحابة أفق حتى يُثمِر ويُنمي ويولّد آفاق غير متصورة في الحسبان، هذا ليس بمعنى أنه لا يكون هناك دراسة ودقّة في هذا الأمر والهدف، دائما يقولون أنّ الطاقات الطبيعية بأفقها الواسع تنمو أكثر مما قد يورده عليها نظام ضيق، هذا يشبه خصخصة مؤسسات الدولة، لماذا تذهب الدولة إلى الخصخصة، لأن النظام المحدد والضيّق يميت الطاقات.
وبعبارة أخرى؛ مسؤولية نشر نور أهل البيت في العالم كبيرة، ومن العجيب أن بعض الجهات أو المؤسّسات في قم أو في النجف، تستعين بطرف ثالث ورابع و..، بينما التعاون بين الحوزتين يمهّد الطريق أسرع من الاستعانة بأطراف بعيدة أو أجنبية.
من باب المثال: حسب ما سمعت أنّ الوهابية منذ سقوط صدام أنشؤوا بأنفسهم أو بالوكالة وبدون ترخيص رسمي مدينة صغيرة في بغداد تحتوي على مطبعة وحوزة ومستوصف وقاعة اجتماعات للفكر الوهابي، وسمعت أيضاً أنهم بنوا مكان آخر، والآن سمعت أنّهم أنشؤوا في شمال بغداد جامعة ضخمة جداً؛ فهم مشتغلون في كلّ مكان بدل أن تشتغل النجف وقم.
أنا أتصور أن أفق التعاون والتفاعل كبير جداً، وهو آخذ في النشوء الحمد لله، ولكن ببطء شديد.
كما أن التنسيق بين الحوزات أمر ضروري لأننا اليوم وصلنا إلى مرحلة لا تستطيع الحدود الجغرافية أن تحول دون وصول المحسنات والمشاكل، أقصد أن دور الحكومات تضاءل في إدارة المجتمع، فمثلاً مسألة الفرق المنحرفة الموجودة مثل أحمد حسن اليماني وأمثاله.. هم يبدؤون عملهم من النجف لكنه لا يتوقف عليها بل يمتدّ إلى إيران وغيرها. فدور الحوزتين بل الحوزات في مثل هذه المساءل مهم ولايمكن أن تقف في وجوه هذه المشاكل من دون التعاون فيما بينها.
وكما ذكرت لا توجد آلية مشتركة للنشر للأسف، لماذا لا تتواجد دور النشر الموجودة في قم هنا في النجف؟ والعكس كذلك.
الحمد لله بدأت العتبة العباسية والحسينية الآن بالتواجد في قم ولديها مركز، التقاء العتبات الشريفة خطوة جيدة، وهو جسر للتواصل بين العتبات لوجود الزوار والقوافل، ولكن يراد لهذا الأمر تسريع وتفعيل بشكل أكثر وأفضل، وكما ذكرت في مستهل حديثي، الآليات رغم أن الأنسان ينظر لها بصغر لكنها كبيرة التأثير، هي آليات ليست فكرية ولكنها تؤثر في الفكر كثيرا.
كلّ ما تفضلتم به خارج نطاق الحوزة، أو أكثره خارج نطاق الحوزة. ما حصل للعتبات وغير ذلك، هذا لا تدير رحاه الحوزة، وإن كان للحوزة أثر، مثلاً محاولات السيد المصباح الذي أقام مُجمّع سكني لغير العراقيين، لكن ماذا فعلت الحوزة؟ وبصراحة، هل ترى طرفين في الحوزة؟ يعني هناك لحوزة قم مديرية لكن بمن يتمثل الطرف المقابل في النجف؟
الشيخ محمد السند: إدارة الحوزة في النجف موجودة، ولو أنها كانت عَبر بيوت المراجع والجهات الأخرى كالمؤسسات والمدارس وغير ذلك، والتفاعل أيضا موجود ولكنّه بطيء، ولعل البطء لكي تكون الجسور مبنية على ركائز وطيدة، لذلك ليس حثّي على التعجيل في الخطوات بقدر ما هو تعجيل وحث على الآليات. لأنّ الآليات تُوجِدُ البيئة اللوجستية لتفاعل الفكر بدراسة.
لو أردنا الحديث عن التطور والتقدم الحضاري المنتشر في العالم، وما يأتي به من جديد المسائل والمشاكل والمستجدات للعالم الاسلامي، وبشكل خاص للعالم الشيعي، كيف ترى مواجهة الحوزة لهذه المسألة؟ هل استطعنا أن نواكب العصر في هذه المشاكل، وإذا نريد أن نواكب بشكل أكثر وأفضل كيف يجب أن تكون الدراسات الحوزوية؟
الشيخ محمد السند: هذا أمرٌ يتطلّب ركنين أساسين:
الركن الأوّل: قوة الدراسة الحوزوية، يجب أن تكون الدراسة الحوزوية التقليدية (إذا استطعنا أن نفترضها تقليدية) قوية. والضعف أو التزعزع في جانب من جوانبها أمرٌ خطيرٌ.
الركن الثاني: هو الاطلاع والانفتاح العلمي والثقافي للحوزات على البيئات الحديثة. لأن الإنسان يتأثر بقدر ما يطّلع سواء في جانب الفقه السياسي، أو الاجتماعي، أو الدولي وكذلك الاطلاع على المؤسسات الدولية الموجودة، ولغة القانون الموجودة، والتيارات الفكرية البشرية.
لابدّ من الاطلاع ومن دراسة هذه الجوانب وتقييمها، فهذا الأمور في جوانب عديدة تكون مواكبة للعلوم العصرية، لا أقول نتخصص فيها، لأن تخصصنا العلوم الدينية، لكن الاطلاع الثقافي أمر ضروري.
أنا أشبّه دائماً العلوم الحوزوية الأصيلة بالمواد الخام الطبيعية، والآليات الحديثة بتصنيع المصانع، فالمصانع بدون مواد خام لا تنتج شيئاً يذكر، والمواد الخام من دون تصنيع، لا تسَوَّق ولا تنتشر، فلابُدّ من تقوية البعدين وبنائهما بشكلٍ قوي، وأما إذا طغى أحدهما على الآخر فسوف لن نحصل على النتيجة المطلوبة المرجوّة، يعني مثلاً أكدَمة الحوزة هذا جانب خطير، لكن أن يكون في الحوزة جانب أكاديمي فهذا أمر ضروري.
لعلماء النجف تجربة جيدة من سبعين سنة أو أكثر في هذا المجال، فهم جعلوا الكوفة أكاديمية محضة، وجعلوا الحوزة التقليدية في النجف القريبة إلى المرقد المقدسة لأمير المؤمنين(ع)، وجعلوا ما بين الكوفة والنجف على مراتب بين الحوزوية والأكاديمية، وأنا أرى هذا التقسيم للأدوار ناجحاً في النجف.
هل تذكرون إنتاجات لهذه العلاقة الكوفية النجفية؟
الشيخ محمد السند: نعم. مثلاً في الكوفة، الذين أسسوا الجامعة الأكاديمية الحكومية، هم علماء النجف، وهذه سياسة السيد محسن الحكيم وغيره من أعلام النجف، يجب أن يتربّى من سيقود الدولة في أحضان يملأها الطابع الحوزوي، ومن هنا بادروا لتأسيس جامعات أكاديمية تتأثر من البيئة.
ما بين الكوفة والنجف منتدى النشر وأمثالها؛ كجامعة كلانتر، وكثير من الكليات الدينية التي هي بين الأكاديمية والحوزوية، بينما بقت الحوزة على تقليديتها في النجف.
على أيّة حال المقصود أن يكون اطّلاع طالب العلم على ثقافة العصر، ولا أقول تخصص كما أنّ مراجعة المادة اللغوية لازمة له، وما أرسلنا من رسول إلى بلسان قومه، اللسان ليس هو القومية بل هو الثقافة وحامل للثقافة.
هناك من يقول نحن لا نرفض المنهج التقليدي للحوزة، لكنّنا نحتاج إلى تحديث، فبهذا الأسلوب الاحتياطي أو البراءي الموجود في الحوزة لا نستطيع مواكبة العصر، فنحن اليوم دخلنا ساحة إدارة الحكومة في إيران، أو هناك حضور واسع للحوزة في الحكم في العراق أو البلدان الأخرى، وكذلك العلاقات الدولية، فهل يمكن للأسلوب التقليدي الموجود أن يواكب هذه الاجتماعيات من دون أي تحديث؟
ومن قال بالانحصار في الأسلوب التقليدي؟! لنضم الأسلوب الأكاديمي إلى التقليدي بدون أن تغلب الأسلوب الأكاديمي على التقليدي والتقليدي على الأكاديمي مما يؤدي إلى عدم محافظة التقليدي على تقليديته وعدم قدرة الأكاديمي على أن يؤدي دوره.
أنا أقول أنّ تجربة النجف رائدة في هذا الأمر، إذ جعلوا الأسلوب الأكاديمي في الكوفة والتقليدي في النجف، وما بين الكوفة والنجف أنشؤوا عدة كليات مزجة بين الأسلوبين. فالخيارات الثلاثة موجودة، من يريد التقليدي يجده، ومن يريد الأكاديمي يجده أيضاً، وليس التقليدي غير مطّلع وغير منفتح على القسمين، كما أن الأكاديمي المحض ليس غير مطلع على القسمين، وكذلك الوسطي جغرافياً أو مزجياً مطلع على كلا الطرفين.
فهذا مثل الفيزياء والكيمياء والطب والهندسة. يمكن المزج بينهما مثلاً ونقول هندسة الطب أو طب الهندسة، ولكن تبقى التخصصات على حالها.
مع الأسف الشديد توجد الآن ظاهرة خطيرة جداً كعدوى، وهي عدم القوة في دراسة المقدمات في الحوزات العلمية في النجف وقم، أتذكر أن كتاب “المطول” كان يدرس في زماننا ثلاثين مرة! أين هو الآن في الحوزة؟ هذه شكاية لكلتا الحوزتين. كان الأستاذ يدرّس مغني اللبيب أربعين مرة! مغني اللبيب في الجامعات الأكاديمية يدرّس لمرحلة الدكتوراه، بينما في الحوزة هو من دروس المقدمات.
أقول بصراحة: إن هذا التضعضع في بُنَى الحوزة مؤشر خطيرٌ جداً، أنا لا أقرأ آية اليأس، توجد والحمد لله نقاط إيجابية قوية في الحوزة، لكن عدم المحافظة على علم الصرف وعلم البلاغة وعلم النحو وحتى الفقه والأصول مؤشر خطيرٌ للحوزة.
لدينا كتب التراث، اذا أعطيت الطالب سندويش، لا يستطيع أن يقرأ عبارة الرياض وعبارة الجواهر ولا عبارة المسالك لأنّه انقطع عن تراثه الديني، التراث الذي حافظ عليها كل هذه الأجيال، طوال عشرة قرون في الأصول وفي الفقه وفي التفسير و… فنحن ضيعنا المشيتين أو المشربين التقليدي والأكاديمي.
أنا لا أقول الأسلوب الأكاديمي ليس ضرورياً، بل هو ضروري، لكن بإتقان وقوة، بدون أن يمزج بشكل هشّ في الأسلوب التقليدي.
على كل، هناك مؤشرٌ خطر، ولا سيما في المقدمات وهو أن العلوم المقدمية في الاستنباط آخذة في الضعف، وهذا خطير جداً.
أتذكر أنّي التقيت بآية الله الشيخ آقا رضا المدني(6) – رحمة الله عليه – قال لي: قبل أن أكتب الرسالة العملية، أحسست بأنّه يجب أن أُدرّس المغني. فدَرَست المغني كله (ثمانية أبواب، وليس الباب الأول والرابع فقط)، ثمّ درّسته للطلاب مرة أخرى وبعد ذلك عندما أخذت في كتابة فقه الحدود وفقه القصاص وفقه الحج، أحسست بأن قوّتي الاستنباطية أصبحت أضعاف ما كانت عليه.
أيضا الشهيد الثاني صاحب شرح اللّمعة الدمشقية والذي يعتبر رمز علمي عظيم يقول في كتابه مُنية المريد : لما بلغت الاجتهاد، وجدت أنّي ضعيف في علوم النحو والصرف والاشتقاق و.. فعاودت دراستها بيني وبين نفسي حتى أصبحت قويا فيها.
فهذه العلوم وغيرها كعلوم الفلك والرياضيات وشي من الطّب كان يدرس في الحوزات العلمية.
الإمام الخميني والشهيد الصدر، هما حوزويان وليسا أكاديميان، لكنّهما ينادون بنوع من التحديث في الحوزة. الإمام أتى بمسألة ولاية الفقيه بهذا الشكل الجديد، ويقول: يجب أن يبقي فقه الجواهري، لكن يجب أن يتطور ويجيب عن المسائل الجديدة، وكذلك الشهيد الصدر ألّف اقتصادنا ومنطقه الفراغ و.. فهما جاءا بآليات جديدة في الفقه وعملا على تحديثه من دون نفي المسألة الأكاديمية. سؤالي: هل هذا الفقه الموجود بهذا الشكل يكفي لحضورنا في المجتمع بهذا الشكل الواسع؟
عندما نقول يجب المحافظة على الفقه التقليدي لا نقصد نفي وجود الفقه الأكاديمي أو السياسي أو الدولي المعاصر، لكن مثل هذا الفقه يشبه ما قام به أتاتورك في تركية! ماذا صنع أتاتورك في تركية؟ لقد قطع الشعب التركي عن تراثه الإسلامي بالاستعانة باللغة، أنا لا أقول بعدم الانفتاح على شيء، بل لننفتح ولكن بدون أن نضيع التراث، وجدت أحد المجتهدين وكان نابغة، يقول: الجواهر صعب عليّ! وهذا منعني أن أغوص في علم الاجتهاد، مع أنه كان متخصصا في علم من العلوم الحوزوية الكبيرة.
إذا كان كتاب الجواهر يصعب عليه وهو من جيل خمسين سنة ماضية، فالإخوة الذين يدرسون الفقه التسهيلي والفقه السندويشي اليوم! بالتأكيد لا يمكنهم فهم “الجواهر” ولا “مجمع الفائدة” للمقدس الأردبيلي، ولا “المبسوط” و.. بل يصعب عليهم، وكأنما جدار حاجزٌ أمامهم يحول دون فهمه، لذا الانقطاع عن تراث عشرة قرون في علوم دينية عديدة آفة خطير جداً!
هناك من المجتهدين المعاصرين والذين يدرّسون الفقه والأصول، من يقول يصعب علينا كتاب الجواهر، فهؤلاء أوتاد في الحوزة يقولون يصعب علينا الجواهر، فكيف بالجيل الذي لا يهتم بالتراث، ولا يستطيع أن يقرأ الجواهر! والدليل هو أنهم درسوا عند أستاذ لا يهتم بالجواهر.
بصراحة أقول؛ قليل من أساتذة بحث الخارج يراجع الجواهر أو مستند الشيعة للنراقي، أو الرياض أو مفتاح الكرامة أو يراجع مصادر المبسوط و.. والحال أن هذا التراث فيه مواد غنية، وجدت فتوى لدى كثير من المعاصرين؛ حول: مَن زَنا بامرأة ذات بعل تحرم عليه مؤبداً. قالوا لا يوجد دليلٌ على ذلك، بينما الدليل موجود في كتاب ابن برّاج وكذلك في المبسوط! عدم المراجعة لهذا التراث يغَيب أحكاماً شرعية.
أنا لا أقول عندما نأخذ التقليدي ينعدم الأكاديمي في الحوزة! لا الحوزة الأكاديمية موجودة والحوزة التقليدية أيضاً.
ولا نقول بعدم وجود الحوزوي السياسيء والحوزوي الثقافي أو البارلماني و… بل لتكن موجودة، لكن عدم وجود الحوزوي التقليدي خطأ، التفاعل داخل الحوزة سيكون أكثر من التفاعل بين الحوزة وخارج الحوزة.
الآن لو يعطى أيّ طالب عبارة من كتاب “المطوّل” أو “المغني” أو “شرح النظّام” و… لا يستطيع أن يفهمها. كل هذه الأمور نحن درسناها بكدّ وجهد وبتوصية من الكبار، الآن بعض النكات العلمية التي نشرحها وفق تلك القواعد لا يفهمها الإخوة الحضور، ويجب أن أوّضح لهم مقدمة الأمر ومقدمة مقدمة الأمر ومقدمة مقدمة المقدمة كي يفهمون المطلب! العلوم الدينية في الدرجة الأولى علومٌ نقليةٌ وعقلية، والنقل يحتاج إلى اللّغة وعلوم أخرى، علم القانون أيضاً يرتبط بالنقل كما يرتبط بالعقل.
أحد مخاوف الكتابات الحديثة أنها تُغيب اللّغة الموجودة في تراث الفقه وتراث التفسير وتراث الأصول. أنا قرأت الهرمونتيك واطلعتُ عليه بجذارة، وعقدت فيها عدة ندوات وسلسلة بحوث ولكن لن تأتي بشيء.
بل باعتراف الكثيرين، حتى بعض الحوزويين الذين درسوا في السوربون، نقلوا أن السوربون يعترف بأن قدرة الفكر الأصولي عند الشيعة الإثنا عشرية الإمامية أكثر من مدارسهم اللسانية. فإن مدارسهم اللّسانية تقتات ما في السُّفرة الأصولية الإمامية، حتى أني وجدت تصريحاً لكثير من علماء الجمهور يعترفون بعلم الأصول والفكر الأصولي الشيعي.
وعند استقبالي لمستشرقتين هنا في النجف، اعترفتا بأن الفكر العقلي عند الحوزة الشيعية الإثنا عشرية يقل نظيره في العالم، نحن نخسر هذه القوة بهذه الدراسة التسهيلية السندويشية الخطرة.
أنا أقول لكلٍّ دوره، واحد يكون إمام طائفة، وواحد إمام مسجد وآخر يكون العلامة الطباطبائي أو الشهيد الصدر أو المطهري، أو السيد البروجردي أو السيد الخميني، لابد من النوابغ، ولا يمكن أن يكون الجميع بمستوى واحد.
هذا لا يعني ألا تكون للحوزة يد سياسية، يد أكاديمية، يد في علوم الحديث، هذا ضروري داخل الحوزة، لكن لا أقول أن تكون كل الحوزة هكذا مثلا تارة مدرس قوي في الفقه، مدرس قوي في الأصول، مدرس قوي في اللغة، مدرس قوي في الرجال وفي علم الحديث، أي عليّ أن أعطي كل واحد دوره، لا أن نُغيّب علم الحديث فترة بسبب ضعفنا في الفقه، هذا خطأ، أو نغيّب علم الرجال لآننا في علم التفسير ضعفاء، هذا خطأ. كل خندق و كل نافذة يجب أن يلاحظ ويُرى بعين متطلّعة.
كان كثير من أساتذتي -رحمة الله عليهم -إذا شاهدوا أحد العلماء لم ينكب فقط على الفقه والأصول وانكبّ على علم الحديث أو على علم غيرهما يحترمونه وكأنه مرجع من المراجع الكبار، لأنّ هذا يحافظ على خندق تركه الجميع، يقوم بمسؤولية ويتفرد بها.
ولو لم يكن في الفقه والأصول؟
نعم، لا في الفقه ولا في الأصول مثلا الآغا بزرك مع هذا الجبل المشيد، أو مثلا ميرزا النوري تذكر عنهم أمور كان المفروض دعمهم أكثر، هؤلاء في الحقيقة مرابطين على ثغور لا أحد يقوم بها، مثلا الذريعة للأغا بزرك لو تسأل الكثيرين في الحوزة من ذوي المستوى ما هي الذريعة؟ هل الذريعة هي موسوعة واحدة؟ الذريعة موسوعات، وكتب لكن لا أحد يعلم بها. فالمقصود أنّ الأدوار تتعدد، وهو شيء مهم جدا.
الهوامش
1- المرجع المرحوم السيد محمد الحسيني الروحاني صاحب منتقى الأُصول
2- المرجع الديني آية الله السيد محمد رضا الكلبايكاني من أعماله افاضة العوائد
3- العلامة السيد علي الفاني الإصفهاني قدس سره من آثاره تحفة الجواهر وبيان الخيانة (ردّاً على أحمد الأمين المصري وإتّهاماته على الشيعة)
4- الفيلسوف والعارف بالله الشيخ يحيي الأنصاري الشيرازي المعروف في ايران ب”شیخ الاشراق” توفي في ربیعالاول ۱۴۳۶هـ ق بمدينة قم.
5- الشيخ ميرزا هاشم بن محمّد الآملي من مؤلفاته ” بدائع الأفكار” (تقرير درس أُستاذه الشيخ العراقي في الأُصول) تُوفّي(قدس سره) في الرابع من شهر رمضان 1413ﻫ بقم المقدّسة.
6- آية الله الشيخ رضا بن عبد الرسول المدني الكاشاني. من مؤلفاته “براهين الجج للفقهاء والحجج (4 مجلدات). تُوفّي(قدس سره) في الرابع والعشرين من ذي الحجّة 1412ﻫ بمدينة كاشان.
الموقع الرسمي لسماحة الشيخ السند على النت : www.m-sanad.com