فقه الحرية ـ دراسة فقهية في الحرية وقيودها

فقه الحرية ـ دراسة فقهية في الحرية وقيودها / قراءة وعرض + تحميلPDF

الاجتهاد: سنقوم في هذا الكتاب (فقه الحرية ـ دراسة فقهية في الحرية وقيودها للشیخ محمد حسن قدردان ملكي) باستعراض الأدلة الفقهية للحرية، لإظهار ضعف مقولة التنافي بين الدين والحرية، فكما لم تتبن الفلسفة السياسية الغربية الحرية بنحو مطلق، كذلك الفقه فإنه يرى حدوداً لهذه الحرية، لا ينبغي لها ان تتجاوزها، وهي ما سنتعرض له بالبحث.

مدخل:
لعل من أكثر المفاهيم دينامية، وارتباطاً بعاطفة الناس وميولهم الشديدة باتجاه الشعور بالسيادة والتحكم بمجمل أمورهم، هو مفهوم الحرّية، هذا المفهوم الذي مع كونه يسكن الوجدان الإنساني كبديهة من البديهيات، غير أنه في لحاظ التحقق يخرج من البداهة بالمقدار الذي يخضعه فيه التوظيفات والأطر سياسية كانت، أم فلسفية، أم حقوقية أم غيرها، إلى ما يناسب أهدافها والثقافات التي تؤمن لها المناخ المناسب للحركة!

في مقابل ذلك هناك التوظيف بالمعنى الإيجابي، والذي بالرغم من ايجابيته تبقى الحرية خاضعة فيه لمنسوب التحليل والبحث العلمي والموضوعية والحيادية وغير ذلك، وبهذا يتأرجح مفهوم الحرية بين تحريفات متعمدة، وتأويلات متأملة، ليفسح بذلك المجال أمام التحريف الذي يستمد قوته وسرعة انتشاره من السياسة غالباً،

كما يجد في فضاء المصالح لبعض الدول والجماعات والمدارس الفلسفية الأفق رحباً، ولذلك مخاطر كبيرة جداً على مستويات عدة،

منها: تقديم منظومة حقوقية، وهامش حركة للفرد والجماعة لا يأخذ بعين الاعتبار أبعاد الإنسان الروحية.
ومنها: عدم وضع ضابطة محددة يستطيع الإنسان من خلالها التمييز بين ما هو حرية وما هو انحراف وتحلل بثوب حرية.
ومنها: وهذا أكثر ما تظهر فيه ملامح السياسة المعادية للإسلام، حيث يصار فيه إلى نحت الحرية بنحو تظهر فيها أنها تقع على الجهة المقابلة للإسلام، ويقدم الإسلام بالموازاة من ذلك على أنه دين لا مكان فيه للحرية.

وبناء عليه، وبلحاظ هذا المستوى الأخير على وجه التحديد، فقد وجد فقهاء ومفكرون وكتاب إسلاميون الدافع كبيراً لتقديم دراسات وبحوث وتنظيرات تهدف إلى بيان عدم وجود أي تعارض بين الإسلام وبين الحريات فردية كانت أم مدنية سياسية أم غيرها، ومن بين ما قدم نجد ما كتبه وحاضر فيه الشهيد مطهري، والإمام الخميني، والإمام علي خامنئي وغيرهم، وفي السياق نفسه، نجد كتاب “فقه الحرية” الذي كتبه محمد حسن قدردان ملكي، وهو موضوع هذه القراءة الموجزة التي بين أيديكم.

ومن البديهي، أن أي دراسة فقهية حتى تكون مبرزة لرأي الإسلام، لا بد لها أن ترتكز على المصادر الفقهية المقررة لاستنباط الحكم الشرعي، أو استكناه الرأي الشرعي، القائم على أسس فلسفية إسلامية،

وكتاب “فقه الحرية” قد خضع للسنة هذه في البحث، مضافاً إلى منهجته وفق منهجين رئيسين هما: المنهج الفقهي الذي يقوم على استعراض الرأي الفقهي من ثم نعالج فيه الآراء من خلال الرجوع إلى الأدلة الفقهية، أما المنهج الآخر فهو المنهج المقارن الذي برز في بعض المواضع من الكتاب عند عرض نظريات يتبناها فلاسفة سياسة وحقوقيون غربيون.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الفقهاء الذين تصدوا للبحث في موضوع الحرية هم قلة نسبة إلى ما بحث في موضوعات أخرى، ولما بحثه علماء ومفكرون غير إسلاميين في موضوع الحرية وهذه الإشارة تريد الإلفات إلى مسألة تاريخية ترتبط بمبررات الخوض في دراسات من هذا النوع،

ولا بأس من عرض شيء موجز فيث هذا السياق، هو مضمون إجابة قدمها محمد حسن قدردان ملكي على السؤال البديهي الذي من الممكن أن ينقدح في ذهن القارئ حول السبب في عدم ملاحظة الفقهاء لمسألة بهذه الأهمية بالنحو المطلوب، حيث يشير إلى أن إحدى أسباب خوض غير المسلمين في هذا الموضوع هو ملاحظتهم للتعارض الذي وقع بين المسيحية والحقوق الإنسانية في القرون الوسطى، ما دفعهم ـ بتعميم غير مبرر ـ لأن ينظروا ويأسسوا للفكرة التي لا زالت مستمرة حتى الآن، والتي مفادها: أن الدين ـ وليس الميحية بالصورة التي قدمت بها في العصور الوسطى ـ يقابل الحرية، وهذا الأمر لم يكن مطروحاً في الأدبيات الإسلامية لانتفاء التعارض المذكورة

أما السبب الآخر لعدم اهتمام الفقهاء بمسألة الحريثة هو أنه لم ينظر إليها على أنها مؤيد أو معارض للأسس الإسلامية، أما السبب الثالث فهو عدم اهتمام الفقهاء بالمسائل السياسية والاجتماعية بالنحو الذي كان بالنسبة إلى الأحكام الفرعية الفردية.

من هنا، فقد اتسم البحث في مسألة الحرية بالتشتت والتناثر في مطاوي الكتب، كما جرى إدراجها في عناوين لا ترتبط بأغلبها بالحرية بنحو مباشر، وبناء عليه، فإنه يمكننا والحال هذه أن نلمس أهمية كتاب “فقه الحرية”، كونه أول دراسة جامعة تناولت بشكل مباشر هذه المسألة.

أقسام كتاب فقه الحرية:

ينقسم الكتاب إلى مقدمة وفصول خمسة وخاتمة على الشكل التالي:
الفصل الأول: مسائل عامة
الفصل الثاني: الحريات الفردية
الفصل الثالث: الحريات المدنية
الفصل الرابع: الحريات السياسية
الفصل الخامس: حرية الأقليات
خاتمة وتضمن خلاصة واستنتاج

المقدمة:

الحرية تولد الحركة، وكلما خلا السرب أمامها ازدادت حركة وتفاعلاً، وهذا التفاعل الذي يسكن أفراد الإنسان يشكل حقل تجاذب يتراوح بين التناغم والتنافر وفي أحيان كثيرة يؤدي إلى التصادم، وكنتيجة لهذا التفاعل تنشأ القيود التي تأتي لتمنع التصادم الذي تؤدي إليه الحرية المجردة من أي قيد، وهذه القيود التي فرضتها على الإنسان الحياة الاجتماعية جعلت له بإزائها حقوقاً وحريات عرفت بلحاظ موضوعاتها بالحريات الفردية، والمدنية، والسياسية وغيرها.

وقد عالج فلاسفة السياسة الغربيون في العصور الأخيرة هذه المسألة، وبرزت فيه نشاطاتهم ما عرف بنظرية الحقوق الطبيعية التي تشبه المعنى الفطري الذي يقول به الإسلام، وقد سجلوا نجاحات في هذا المضمار، لكنهم تجاهلوا البعد الروحي للإنسان، وكنتيجة حتمية للتجاهل هذا، فقد أطلقت الغرائز والميول الحيوانية، لتقع الحريات المعنوية والأخلاقية في أسر تلك الغرائز في ما يمكن أن يسمى “العبودية الخفية”،

ومن مصاديق ذلك في الغرب تشريع بعض أنواع الانحراف الجنسي (هامش: فقه الحرية، ص 8)، وقد سعى الغربيون، وبعض مفكري الشرق إلى تفسير هذا النزوع نحو الحرية بالشكل الذي تخلو منه الأديان السماوية ومنها الإسلام، بل ذهب بعضهم إلى اعتبار الفقه الإسلامي، بما يشتمل عليه من تكاليف وإلزامات كنوع من أنواع الأسر، تقف الحرية أمامه في الجهة المقابلة. (هامش م.ن. ص. ن.).

الفصل الأول: مسائل عامة:

تعريف الحرية: جاءت الحرية في المعاجم بمعنى: التخلص، الخلاص، التسلط على الفعل، الاختيار، ضد العبودية والأسر والإجبار، وقد تعددت اللحاظات في تعريف الحرية بتعدد القيود التي أضيفت إلى التعريف، وهذا سببه كون تعريف الحرية من التعريف السهل الممتنع، بحيث ذكر لها ما يزيد على المائتي تعريف (فقه الحرية ص 14)،

وعلى كل حال فإن التعريف المشهور للحرية هو عدم الجبر من الخارج، وهي تارة تطلق في مقابل الجبر، أي الإنسان الفاعل المختار، وبعبارة أخرى موجود حر بالخلقة والتكوين، وهو المعبر عنه بالحرية التكوينية، وتارة أخرى بمعنى الحرية الاعتبارية التشريعية، التي تعني مجموعة من الحقوق التي يمتلكها الشخص الحر بشكل طبيعي أو تعاقدي وله الحق في العمل بها، والآخرون ملزمون برعاية هذه الحقوق،

فالحرية على هذا تتكون من أمرين هما: الحق والتكليف، وتفسير الحرية بالحق لازم كون الحرية مشروعة، والحرية المرادة في البحث تتكون من عنصرين، أحدهما: القدرة المشروعة على الفعل، والآخر: عدم المانع الخارجي (فقه الحرية: ص 16).

هذا وتنقسم الحرية بالاعتبار الحقوقي والسياسي إلى فردية، عامة (مدنية)÷ وسياسية، أما الحرية الفردية فتشمل مجموعة من الحريات، منها: حرية حق الحياة، الإقامة، التنقل، السكن، التملك، العمل، الاعتقاد، والمذهب والدين،

أما الحرية المدنية، تشمل الحرية في: التعبير، التجمعات، انشاء الجمعيات والتيارات، الصحافة والنشر، ووسائل الإعلام العامة،

أما الحريات السياسية، وهي القمة في الحريات المدنية، فتعني حرية القيام بالأعمال التي هي مقتضى الدولة الشعبية، وحرية الاستفادة من الوسائل التي تمكن المواطن من إيصال صوته إلى الآخرين، ولها تأثير فعلي على الحكومة ـ وهذا جزء من تعريف ذكره الكاتب نقلاً عن كوهن (فقه الحرية: ص 28/ 29).

الحرية إيجابية وسلبية:

في علم السياسة هناك مصطلحان أساسيان يتم تداولهما هما: الحرية الإيجابية، والحرية السلبية، أما الأولى فتمثل البعد الإيجابي للحرية أي القدرة المشروعة أو “الحرية لأجل” أما الثانية فتمثل البعد السلبي أي عدم السلطة الخارجية أو “الحرية من” (فقه الحرية ص 28/29).

وإلى جانب الحرية، هناك العدالة التي مع أنها تعد أيضاً من المفردات المقدسة، غير أن اتحادها مع الحرية في التقديس لا يعني اتفاقهما دائماً، بل يمكن أن يكون تحقق أحدهما أحياناً موجباً للمنع من تحقق الأخرى، فمثلاً من يدعو إلى الحرية المطلقة دون ملاحظة المنافع الاجتماعية والقيم الإنسانية هو يضحي بالعدالة، نظير ما تصنعه الليبرالية،

وفي مقابل هؤلاء هناك من يضحي بالحرية في سبيل العدالة أمثال الشيوعيين الذين لم يلاحظوا حقوق الأفراد وما يستحقونه، ومن المهم هنا، الالتفات إلى أن التعارض بين الحرية والعدالة يمكن تصوره عندما نلحظ الحرية المطلقة دون قيد، وكذلك عندما نلحظ العدالة المساوقة للمساواة المطلقة (فقه الحرية ص 33/36).

هدف الحرية:

لقد نظرت الليبرالية إلى الحرية على أنها هدف بحد ذاتها فيما نظرت إليها الاشتراكية على أنها وسيلة، ولهذا فقد اتجهت الأخيرة إلى ترجيح الحريات الاجتماعية على الفردية، غير أن بيان حقيقة الأمر يحتاج إلى تقديم بيان حول متعلق الحرية، أي الإنسان،

وقد وقع الاختلاف في تعريفه، وانقسمت الآراء عموماً إلى اتجاهين، الأول مادي والثاني ما اصطلح عليه بما وراء الطبيعة، والاتجاه الثاني هو الذي يرى إلى الحرية على أنها وسيلة لتحقيق هدف أسمى من الماديات ـ وهو أعم ممادعت إليه الاشتراكية ـ وعلى أساسه تضيف بعض أقسام الحرية، في الوقت الذي تفتح فيه أبواب أخرى أمام حريات أخرى تحت عنوان: الحرية المعنوية أو الأخلاقية،

ومن هنا، فإنه لا يمكن أن ينظر إلى حرية النفس الإنسانية على أنها قد ضيقت، بل ينظر إليها على أنها دخلت في التقنين الذي يحفظها إلى جانب الحريات الأخرى، هذا مقتضى الحق الطبيعي، نظير القوة الهاضمة في الإنسان، الذي عند مرضها يعمد الإنسان إلى الحد من ميولها، ولا يكون ذلك مخالفاً للحق الطبيعي (فقه الحرية ص 47).

الفصل الثاني: الحريات الفردية:

في البداية يشار إلى أن المقصود من هذه الحريات هو: الحريات والحقوق الثابتة للفرد الإنساني، التي عبر عنها الإلهيون بالمواهب الآلهية، فيما عبر عنها الماديون بالحريات الطبيعية، وهذه الحريات والحقوق ثابتة ولا يمكن سلبها منه أو التضييق عليها من قبل أي جهة إلا في موارد خاصة.

وللحرية الفردية أقسام، منها حرية حق الحياة التي يستدل عليها بالقرآن والسنة، أما القرآن فقد تمت الاستفادة من آيات حرمة القتل، وحرمة الإجهاض، والاغتيال وغيرها،

أما الروايات فقد استدل بروايات متعددة مثل: الإسلام قيد الفتك وغيرها، ومن جهة أخرى فإن لحرية حق الحياة كما لغيرها قيوداً في موارد متعددة كالقصاص، وارتكاب بعض الذنوب، والإفساد وغير ذلك، ومن الحريات الفردية حرية الإقامة والتنقل التي استدل عليها بمضامين آيات متعددة، وروايات أيضاً مضافاً إلى أحل الإباحة، وجرى تحديدها بقيود في موارد مثل التفريط بالدين والإيمان من قبيل الإقامة في بلاد الشرك، ومنها حرية المسكن التي تعني الحريات الإنسانية الثابتة داخل المنزل بحيث لا يحق لأحد الدخول إليها، والتدخل في المسائل الخاصة بالمواطنين كالتنصت، والمراقبة،

والأدلة على ذلك من الآيات قوله تعالى “يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا” (الحجرات: الآية: 12) وغير ذلك، ومن الروايات ما ورد عن النبي (ص): “من اطلع في بيت بغير إذنهم حل لهم أن يفقأوا عينه”، وغيرها، ومنها حرية التملك، ولا شك أن هناك اختلافاً بين النظرية الليبرالية والنظرية الاشتراكية في تعيين حدود هذا الحق، فالاشتراكية التي لطالما حاولت رفع التناقض الذي رأته موجوداً بين الانتاج ونظام التوزيع، ترى أن الملكية الفردية تقع تحت ظل ملكية المجتمع والدولة على العكس من الليبرالية، أما الإسلام فقد قدم حق التملك بصورة معتدلة، والأدلة على هذا الحق من الآيات قوله تعالى “وأحل الله البيع وحرم الربا” (البقرة آية 275).

ومن الروايات ما روي عن النبي (ص): “الناس مسلطون على أموالهم”، و”حرمة ماله كحرمة دمه”، وغيرها، غير أن لهذه الحريات قيوداً أيضاً مثل وضع الضرائب، وعدم الإضرار بالغير، وعدم امضاء بعض المعاملات كالربا، وبيع ما لا مالية له شرعاً، والمعاملات التي عبر عنها بالمكاسب المحرمة، فالإسلام يقر أحل الملكية الفردية، ويرى أ، لازمها هو التبادل الخاضع لقواعد وأصول منها، ما يدل عليه قوله تعالى “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل” والممنوع هو انتقال المال من يد إلى أخرى دون تحقق فائدة ذات قيمة إنسانية بالنسبة لصاحب الثروة، ومن القيود أيضاً الإضرار بالمصالح الاجتماعية في الدولة الدينية مراعاة لقاعدة “المهم والأهم”.

الفصل الثالث: الحريات المدنية:

لا بد من الإشارة إلى الحقوق المدنية كمقدمة للوصول إلى تعريف الحريات المدنية، فالحقوقيون ذكروا في تعريفهم لأقسام الحقوق المدنية بـ”أنها الحقوق الفردية للمواطنين، والتي ترتبط بنحو مباشر بالآخرين، المجتمع والدولة، كحق السكن، العمل، منع العقوبة والحبس دون محاكمة عادلة، والحصانة على الأموال والنفوس (فقه الحرية ص 93)،

أما منظرو الفلسفة السياسية فيصطلحون عليها بالحريات المدنية، وتفترق عن الحريات الفردية بأنها أوسع، وبكون موضوعها هم الجماعة أو المجتمع، وبكونها ضرورة في المجتمع المدني، كما ويشار هنا إلى أن لهذه الحرية أقسام مثل: حرية تشكيل الجمعيات والتجمعات، حرية العقيدة وحرية التعبير وغيرها، والإسلام يقر طرق تحصيل المال وتنمية الوضع الاقتصادي سواء أكان ذلك بشكل فردي أو جماعي،

ويستدل على ذلك بجملة أمور منها: للمسلمات الفقهية التي ترى حق الدفاع عن الحقوق الفردية والجماعية، ولما كانت الجمعيات والجماعات بصدد إحقاق الحق على مستوى الفرد والجماعة فقد شملتها أدلة الدفاع عن الحقوق الشخصية، وأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الأدلة أيضاً دليل “التعاون على البر والإحسان”، ومنها أصل تحمل المسؤولية، والقيد الوحيد لهذه الحرية هو الإضرار بالغير، لهذا فإنه لا يصح في المظاهرات التعدي على الأموال الخاصة أو المتعلقة بالدولة، لأنها بذلك تكون مشمولة بأدلة حرمة الظلم والعدوان.

حرية العقيدة:

والمراد منها حرية الإنسان في اختيار الرأي والفكرة التي يريدها، والجدير بالذكر هنا، هو أن هذه الحرية ليست في اختيار العقيدة بل في طرق الاختيار ومقدماته،

وهنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة التفريق بين حرية العقيدة وحرية الفكر، فهناك طرق ومقدمات للعقيدة تقع على قسمين، أولهما: المقدمات والأسباب التي تؤدي إلى الاعتقاد بالشيء، وهي مقدمات خاطئة تؤدي إلى عقيدة باطلة، والمؤدي إلى حدوث مثل هذه العقيدة يسمى بالعلة أو العلل،

وثانيهما: المقدمات والأسباب التي تشكل مقدمة لحصول العقيدة التي هي النتيجة المنطقية والصحيحة لها، دون وقوع صاحبها في شبهة أو غفلة، وهذه العقيدة يطلق عليها العقيدة الحقة، وفي اصطلاح آخر حرية الفكر، أو الفكر المطابق للواقع ويعبر عن مقدماته بالدليل أو الأدلة،

وللشهيد مطهري كلام مهم في هذا السياق يشير فيه إلى أن هناك فرقاً كبيراً بين حرية التفكير وحرية العقيدة، وأن حرية التفكير تنشأ من الاستعداد الإنساني عند البشر بالقدرة على التفكير، ولا بد من أن يكون هذا الاستعداد حراً، وأن تقدم البشرية مرهون لهذه الحرية،

أما حرية العقيدة فلها خصوصية أخرى باعتبار أنه ليس كل عقيدة تنشأ من تفكير سليم، وحرية العقيدة في مثل هذه الحالة تصبح غير مفيدة، بل إن مواجهة هذه العقيدة الباطلة يعد جهاداً في سبيل تحرير الإنسان من الأسر الذي وضع نفسه فيه، فلا يكون في ذلك أي تقييد لحرية الإنسان الفكرية، ويكون الحديث عن حرية الإنسان في هذا المجال إنما هو عن حريته في طرق الاختيار ومقدماته، لا في اختيار العقيدة،

من هنا، فإن الإسلام يرجح الفكر على العقيدة دون أن يفرضه عليها، هذا، على أن يكون مواجهة العقائد الباطلة من خلال المنطق والحوار.

استدل عليها من القرآن الكريم بآيات نفي الإكراه في الدين، والآيات التي تدعو إلى الحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن، والتي تدعو إلى السلم، وغيرها، كما استدل عليها بالسيرة العملية للمعصومين مضافاً إلى دليل العقل.

حرية التعبير: وتشمل مجالات مختلفة مثل إظهار العقيدة والنقد وتقديم الاقتراحات، والصحافة وسائر وسائل الإعلام، فهي من الحقوق الأساسية للإنسان. وقد استدل عليها عموماً من القرآن بالآيات نفسها التي استدل بها على حرية اختيار العقيدة، والتي منها الآية التي تدعو إلى الجدال بالتي هي أحسن التي يلازمها القول بحرية إظهار العقيدة اعتبار ذلك من ملازمات الجدال،

كما يستدل عليها بسيرة المعصومين العملية والنظرية، وبأصالة الإباحة مضافاً إلى الدليل العقلي وكذلك، وهذه الحرية مقيدة بقيود الأخلاق والقيود الاجتماعية، والسياسية، والدينية،

وعليه فإن السماح بالتحريف والإخلال بأسس الدين وإهانة المقدسات بحجة حرية التعبير يعد مصداقاً للسماح بالظلم لأنه يؤدي إلى الضلال، وأي استعباد أشد من عبودية الضلال، وبالتالي فإنه المنع من ذلك يعد تحريراً للإنسان من أسر الضلال والانحراف عن جادة الحق.

مخالفة الجهاد لحرية الدين: يعالج الكاب بحق هذا العنوان إشكالية مفادها، أنه قد يظهر بدءاً أن الحكم بالجهاد في القرآن والروايات مخالف لحرية اختيار الدين، لأن الجهاد إنما هو لقتال الكفار إذا رفضوا اعتناق الإسلام، فيقال في سياق الرد بأنه يوجد في ما يتعلق بمشروعية الجهاد الابتدائي فروض أربعة، يختلف الحكم في كل واحد منها،

وهذه الفروض تنقسم إلى قسمين، الأول يرتبط بعصر حضور المعصوم، والثاني يرتبط بعصر غياب المعصوم، والقسم الأول لم يتم البحث فيه حيث اكتفى الكاتب بذكر ملاحظة وهي أن الجهاد في عصر الحضور إنما كان لبسط سلطة الإسلام وليس إجبار الكفار وإكراههم عليه أما القسم الثاني فالفرضان المطروحان فيه هما: عصر الغيبة ودعوة أهل الكتاب إلى الإسلام، وعصر الغيبة ودعوة للكفار والمشركين إلى الإسلام،

وفي هذا الصدد، فإنه يوجد في الفقه رأيان:

الرأي الأول: وجوب الجهاد الابتدائي ضمن مسؤولية وإشراف الفقيه العادل، ودليله عموم وإطلاق آيات الجهاد والروايات الواردة في المقام.
الرأي الثاني: توقف مشروعية الجهاد الابتدائي على حضور الإمام المعصوم، أو نائبه الخاص، ودليله الروايات الدالة على اشتراط الجهاد بالإمام العادل أو نائبه الخاص، وهناك رأي ثالث يتأمل في مشروعية الجهاد في عصر الغيبة بالمعنى التقليدي،

وقد سعى أصحاب هذا الرأي إلى التوفيق بين الرأيين بتقديم تفسير للجهاد الابتدائي يرجع إلى أن هذا الجهاد في الإسلام لا يقضي بإكراه الناس على اعتناق الدين، بل الأصل فيه هو إزالة الموانع التي تحول دون وصول الإسلام إلى الناس في الأرض،

وقد أشكل الكاتب على هذا الرأي بعد الثناء وعليه بما مضمونه: بأن هذا الرأي مع كونه أشد عقلانية في موضوع الجهاد، لكنه لا دليل عليه من آية ورواية، مع أن ما ذكره من أقوال لعلماء مثل الشهيد مطهري والسيد الخامنئي والسبحاني وجوادي آملي، والآيات التي استدل بها بعض هؤلاء على رأيهم المذكور يعد دليلاً من القرآن عليه.

الارتداد وتنافي حكمه مع حرية اختيار الدين:

بعد القول بحرية العقيدة يأتي النقاش في مسألة حكم قتل المرتد، فيشار هنا إلى ملاحظات أربع رئيسة ذكر الكاتب منها ثلاث وترك واحدة وهي على الشكل التالي:

الملاحظة الأولى: وهي حول حقيقة الارتداد، ومعناه في الاصطلاح الفقهي، والتفريق بين المرتد الفطري والملي، مع ذلك الآراء التي تتمركز حول الملاك في التفريق بين الفطري والملي، ثم في شروط تحقق الارتداد من بلوغ وعقل، واختيار، وقصد، وكون الارتداد فردياً،

أما الملاحظة الثانية: فهي حول استعراض الآراء التي وردت في المجال أحكام الارتداد، وفي خصوص تنفيذ حكمه، وفي مسائل أخرى مثل سقوط الحكم بالتوبة، أو سقوطه عند الجهل وشبهه، أو سقوطه عند عدم إظهار ذلك ومسألة اختصاص الحكم بالمعاند أو المحارب، وغيره،

الملاحظة الثالثة: الضلال، الذي يظهر معه ضعف بعض الشبهات التي ترى تنافي حكم الارتداد مع حقوق البشر وحرية العقيدة، اعتبار أن ما يترتب على ترك الإسلام ليس إلا الضلال والخسران، كما أن من المصالح التي يمكن رصدها في هذا المجال مصلحة مواجهة التآمر، وتقديم حق الله تعالى على حق الناس.

ومما يندرج في إطار حرية اختيار الدين التي يقرها الإسلام، حرية المذاهب والقراءات المختلفة، حيث تتعدد الآراء داخل المذهب الواحد من قبل أهل الخبرة عند تحليلهم للموضوعات المتفرقة، وهذا ما يبحث عنه في علم الفقه على أنه من الأساسيات، واستناداً عليه ينظر إلى الأحكام على كونها غير قطعية بل ظنية اجتهادية.

حرية التعبير: وهي من المصاديق البارزة للحريات المدنية، ومجالاتها: إظهار العقيدة، النقد وتقديم الاقتراحات وحرية الصحافة والإعلام، وقد انقسمت آراء الفقهاء في هذا المجال عموماً بين مؤيد ومعارض، حيث ارتاب البعض من حرية التعبير ورأى أن في نشرها خطراً على الدين، وسبب ارتيابهم يرجع إلى كونهم نظروا إلى الحرية المطلقة، أما المؤيدون فقد قدموها على أساس كونها من أحكام الدين استناداً إلى ما فسروا به حرية التعبير، حيث فسروها بنحو لا يستلزم الإخلال بالأحكام الدينية وهذا ما ورد التأكيد عليه في الدستور الإيرانيز

الأدلة الفقهية على حرية التعبير:

استدل عليها بآيات متعددة من القرآن الكريم منها: قوله تعالى (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك أولوا الألباب)، فهي من جهة تؤيد حرية التعبير، وهذا لازم القول باتباع أحسن الأقوال، باعتباره يتضمن حرية عرض الأقوال المخالفة، ومن جهة أخرى تلزم المؤمنين باختيار الأحسن، وهذا مقتضى العقل والفطرة، ومنها قوله تعالى: “… قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين” مضافاً إلى آيات أخرى في المقام، ومن الأدلة عليها أيضاً سصيرة المعصومين العملية والنظرية.

فقد قامت سيرتهم على ذلك حيث أعطوا حق التعبير عن الرأي لمخالفيهم بل لأعدائهم كذلك، كما أنهم بينوا للناس هذه المسألة بصور مختلفة، وبروايات متعددة مثل روايات النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والروايات الخاصة بهذا النوع من الحرية، كما أستفيد من أصل الإباحة في المقام. يضاف إلى هذه الأدلة الدليل العقلي باعتباره يحكم بكون اللغة والبيان من النعم الإلهية، ولا يمكن لأحد سلبها من أحد، لأن ذلك يموجب لتضييع حق طبيعي وهو من مصاديق الظلم والتعدي.

قيود حرية التعبير في الفقه وأدلتها:

لحرية التعبير قيود تندرج تحت عناوين ثلاثة وهي:

1 ـ القيود الأخلاقية، ودليلها القرآن الكريم كالآيات الناهية عن الاستهزاء أو إشاعة الفاحشة، والروايات التي تنهى عن التجسس وإفشاء السر، ويمكن أن يعنون ذلك كله بعنوان: مراعاة الحرمات الإنسانية.

2 ـ القيود الاجتماعية السياسية: فحرية التعبير للمواطنين ترتفع عند الإخلال بالحقوق والمصالح العامة.

3 ـ القيود الدينية: فحرية التعبير عندما تصل إلى حد التعدي على الدين مثل التحريف، والبدعة، والإخلال بأساس الدين، وإهانة المقدسات، تدخل في منطقة محرمة وخطوط حمر لا يمكن السماح بتجاوزها، وقد صرح القرآن الكريم بذلك في آيات عدة منها: قوله تعالى “ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، ويتخذها هزواً أ,لئك لهم عذاب مهين” وغيرها من الآيات.

وينبه هنا إلى أن القيود المذكورة هي عناوين نظرية، تطبيقها بيد الحاكم، كما أنه لم يرد في الفقه تحديد عقوبات خاصة للموارد المذكورة، باستثناء العقاب الأخروي، فيترك العقاب الدنيوي بعنوان التعذير بيد الحاكم الشرعي أيضاً.

الفصل الرابع: الحريات السياسية:

“وهي إعطاء حرية العمل للمواطنين أو الجماعات والأحزاب من قبل الحكومة للمشاركة في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية سواء أكان ذلك لتأييد الدولة القائمة أم لمعارضتها (فقه الحرية 189).

وتلحظ الحريات السياسية عموماً بالمقايسة مع الدولة من جهتين إحداهما: في تشكيل نوع الحكومة وتعيين الحاكم، والأخرى: في استمرار الحكومة وإدارتها.

والموقف الفقهي من هاتين الجهتين يمكن تلخيصه في ما يلي، ولكن بعد أن تقسم الدولة بشكل عام إلى نوعين دينية (إسلامية تحديداً) وغير دينية، حيث يطرح السؤال التالي: “هل يمكن للمسلم على المستوى الفردي وتبعاً لذلك هل يمكن للمجتمع المسلم أن تكون له حرية الاختيار لأي واحد من النوعين؟ (فقه الحرية ص 191)،

وفي سياق الإجابة عن هذا السؤال تتم ملاحظة الفصل بين الإثم وبين العقوبة الإلهية، وأن الدين أمر اتباعه بإقامة الدولة الدينية، وإطاعة من نصبه ولياً عليهم، ولم يلجأ إلى الإكراه، بل أعطى اتباعه حق اختيار الدولة غير الدينية باعتبارهم مواطنين. وإن كان ذلك مصداقاً للتخلف عن التكليف الديني، من هنا، فإنه يتضح أن الموقف الفقهي هو إعطاء حرية اختيار الدولة للإنسان.

الأدلة الفقهية للنظرية:

استدل عليها بالقرآن الكريم والروايات، أما القرآن فقد استدل بآية الاستخلاف (البقرة الآية 30)، وبقوله تعالى “ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين” (القصص الآية 5)، وغيرها من آيات تدل على أن الله تعالى قد فوض للإنسان حق الحاكمية، وجعل للناس حق تعيين الحاكم والدولة، وأيضاً تمت الاستفادة من الآيات التي تؤكد على أصل العدالة كقوله تعالى “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط” (النساء الآية 135) وقوله تعالى “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط…” (الحديد الآية 25)،

ويمكن الاستدلال بها على المدعى بالملازمة، باعتبار أن الحرية هي طريق العدالة، فلو أقيمت الدولة بنحو مخالف لإرادة أكثر الناس فإن ذلك يعد عملاً مخالفاً للعدالة، يضاف إلى الآيات المذكورة آيات أخرى تنهى عن الاستكبار الذي من مصاديقه فرض الدولة وسلب حرية الاختيار من الناس.

أما الروايات فقد تم الاستدلال منها بما أكد على أصل الحرية والتساوي بين الناس، وعلى اشتراط رضا الناس واعتبار الأكثرية كما في خطاب النبي (ص) إلى الإمام علي (ع): “يا ابن أبي طالب، لك ولاء أمتي، فإن ولوك في عافية، وأجمعوا عليك بالرضا فقم في أمرهم…”، وكما في قول الإمام علي (ع): “أيها الناس! عن ملأ وإذن إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمر تم..” (فقه الحرية ص 208/ 211).

ويضاف إلى الأدلة هذه، الشواهد التاريخية التي تصور مسألة الحكم والقيادة في عصر النزول، حيث يتضح أنها كانت تتم من خلال البيعة والعهد “وعليه، ففي الأدب السياسي والاجتماعي للعرب، كانت مشروعية الحكم والسلطة تتم من خلال بيعة الناس…” (فقه الحرية ص 206).

وليس في المصادر الفقهية دليل يدلّ على التعيين، وهذا بنفسه يعدد للً على حرية الاختيار المذكورة، هذا من ناحية الأدلة النقلية، أما الدليل العقلي فإنه يمكن تصويره من خلال الحق الطبيعي الذي أعطاه الله تعالى للبشر، حيث إن العقل لا يرضى بفرض السلطة التي تراها الأقلية على الأكثرية، ويرى ذلك مخالفاً للحقوق الطبيعية للإنسان.

وما تقدم حتى الآن، هو في خصوص تعيين نوع الحكومة والحاكم، أما في ما يرتبط بحرية ودور الناس في إقامة الحكومة وإدارتها، فإنه يطرح السؤال التالي: هل يملك الناس دوراً في تعيين الجهاز الحاكم، وهل لرأيهم موضوعية في ذلك؟

وفي سياق الإجابة على ذلك، يلاحظ وجود آراء ثلاثة وهي:

أ ـ التنصيب، ب ـ الانتخاب المحض، ج ـ التلفيق بين النصب والانتخاب،

أما الأول فحاصله نفي أن يكون هناك ثمة دور لرأي الناس في السلطة،

أما الثاني فهو يرى أن شأن الحكم والسلطة بكافة أبعاده موكول إلى الناس، وأصحاب هذا الرأي يتحدثون عن نوع من الوكالة،

أما الرأي الثالث فهو من الآراء الجديدة التي تبناها بعض الفقهاء المعاصرين، وهو يرى أن هناك عنصرين تقوم عليها مشروعية الدولة الإسلامية،

الأول: هو النصب الآلهي الذي تم من خلال بيان صفات وشروط القائد السياسي والديني عموماً،

والثاني: عنصر الانتخاب وهو موكول إلى الناس، وما ذكر من أدلة على حرية اختيار السلطة والحاكم يصب في مصلحة هذا الرأي الثالث، يضاف إليها ما يستدل به تحت عنوان أصل الشورى (فقه الحرية ص 221) وولاية المؤمنين، وأن المجتمع مسؤول عن إقامة الدولة وحفظها (يراجع سورة آل عمران الآية 144) وغيرها، ومن الفقهاء المعاصرين الذين وافقوا على هذه النظرية، الإمام الخميني، العلامة الطباطبائي، الإمام الخامنئي وغيرهم (فقه الحرية 229/ 232).

ومن الحريات السياسية تذكر حرية النقد والإشراف والاستجواب، والإسلام يرى هذا الحق للناس، ويدل عليه أيضاً ما ورد أعلاه من أدلة على حرية الاختيار، يضاف إليها دليل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما دل على لزوم المشورة، والنصيحة، وعلى كون ذلك من المسؤوليات العامة التي يتحملها الناس كافة، ودليل السيرة العملية للمعصومين.

هذا كله على أن يبقى النقد في دائرة الموضوعية، وهذا بمثابة القيد الأساسي بالنسبة لهذه الحرية حتى لا ينقلب النقد إلى تآمر.

ثم إن الإسلام يرى ـ وهذا من لوازم الدور المعطى للناس في سياق حريتهم في تعيين الحاكم والمشاركة في الحكم ـ من الحريات السياسية المهمة في المجتمع المدني، حرية استجواب الحاكم، وحرية العملية الانتخابية وحرية تشكيل الأحزاب، التي يدل على مشروعيتها فقهياً باختصار: أصل الإباحة، وأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة، والإشراف على عمل الدولة، والحسبة، والشورى، والتعاون على البر والعدالة ورفع الظلم.

الفصل الخامس: حرية الأقليات:
إن مراجعة تاريخ بلاد الغرب تشهد على المعاملة السيئة مع الأقليات لا سيما المسلمين، ومع أن الأمور تحسنت عموماً في القرون الأخيرة غير أن هناك العديد من الدول الغربية لا زالت تعاني فيها الأقليات من حرمان دورها في التعبير عن نفسها، فلا وجود لممثل عنها في البرلمان (فقه الحرية ص 288).

أما في الدولة الإسلامية فقد قسمت الأقليات في الفقه إلى قسمين: دينية وغير دينية، أما الأقليات الدينية فهم اتباع الديانات السماوية كاليهودية والمسيحية والزرداشتية وغيرها، وما سيجري بحثه في هذا الفصل هو “مسألة الأقليات الدينية دون النظر إلى المصداق، والأقليات غير الدينية حيث يشكل الكفار والمشركون المصداق الأبرز لها.

حرية العقيدة:

سبق وأن تم التعرض في الفصل الثالث لهذه المسألة، يضاف هنا أمر آخر، وهو أن الفقه يعترف بحرية العقيدة للأقليات، وفق معاهدة محددة تبرمها الدولة الإسلامية مع هذه الأقليات، وصريح آيات القرآن الكريم تدل على ذلك، مضافاً إلى سيرة النبي (ص) وسيرة الإمام علي (ع)،

أما الأقليات غير الدينية “فحيث لا مشتركات عقيدية أساسية بينها وبين الإسلام، اختلف الخطاب القرآني المتعلق بها” (فقه الحرية ص 291)، لهذا، فقد التزم الفقهاء بعدم ثبوت حرية العقيدة للكفار، ولم يعدوهم من مواطني الدولة الإسلامية، ورأوا أنهم “مخيرون بين اعتناق الإسلام أو القتال” (فقه الحرية ص 291).

وهذا بناء على ما تم تقديمه من أدلة عند البحث عن حرية العقيدة لا يمكنه قبوله، أي اعتماد العنف والقوة في الدعوة إلى الدين، وما يمكن ذكره في توجيه الموقف المذكور فهو:

أولاً: اختصاص ذلك بالكفار والمشركين الذين يسعون لإضعاف الدولة الإسلامية (فقه الحرية ص 291).
ثانياً: لم يرد الحكم بقتال المشركين مطلقاً، بل ورد حكم آخر، هو بمثابة طريق ثالث وهو الصلح “عقد المهادنة”.
ثالثاً: إن الكفار الذين يسعون للعيش بسلام في ظل الدولة الإسلامية، ولا يسعون للمواجهة لم يرد في حقهم في القرآن الكريم الأمر بقتالهم بل ورد التأكيد على الإحسان إليهم.

حرية التعبير:

بعد أن تعتبر الأقليات من مواطنين الدولة الإسلامية، يثبت لهم الحق في ممارسة حقوقهم الطبيعية التي منها التعبير، وقد أعطى النبي (ص) لأهل الكتاب هذا الحق، وتشهد بذلك المناظرات والحوارات التي أجراها (ص) معهم، وفي الآيات والروايات العديد من الدلالات والشواهد على ذلك.

حرية التملك:
لقد اعتبر الإسلام أموال الأقليات التي تدخل في عهد مع الدولة الإسلامية أنها كأموال المسلمين، كما جعل لحقوقهم المالية والاقتصادية حرمة لا يحق لأحد التعدي عليها.

حرية الإقامة والسكن:
تتمتع الأقليات الدينية بهذه الحرية دون أي فرق بينهم وبين الأكثرية، وقد ورد التصريح بذلك في ما أبرمه النبي (ص) من عهود مع الأقليات في عصر النزول، كما في عهده مع يهود بني عاديا وغيره.

حرية الشعائر الدينية:
للأقليات الحق وكامل الحرية في البقاء على دينهم أو اختيار الإسلام ديناً، ولهم حرية إقامة الشعائر الدينية في أماكنهم العبادية، والدليل على ذلك العهود التي أبرمها النبي (ص) مع أهل الكتاب، والسيرة النظرية والعملية للإمام علي (ع) ومن بعده سائر الأئمة الأطهار (ع).

ومن الفقهاء من أنكر حرية الأقليات في بناء المعابد، مستدلاً على ذلك بالروايات والإجماع المدعى من ابن زهرة، ويشار هنا إلى أن سند الروايات التي تدل على عدم جواز بناء الكنائس ضعيف، ولهذا فقد ذكرها صاحب الجواهر كمؤيدات للإجماع وليس كدليل، أما الإجماع المدعى فيرى الكاتب أنه مدركي، ومستنده الروايات، ومثله لا يكون حجة. ولا خلاف أنه إذا كان المراد من بنائها تحويلها إلى مراكز سياسية واجتماعية تعمل على إضعاف الإسلام، فلا شك أنها ستكون بحكم مسجد ضرار.

الحريات السياسية:
من الطبيعي في هذا الإطار أن تكون حرياتهم محدودة، فلا يمكن لأقلية في أي بلد أن تكون بيدها مفاتيح السلطة، كرئاسة السلطات الثلاث، ولا تستثنى الأقليات الدينية في المجتمع الإسلامي من ذلك.

فلا يحق لغير المسلم تولي أمور المسلمين أو القضاء بينهم، أما في ما يرتبط بالوظائف المتوسطة كالوزارات، أو مديري الوزارات أو المناصب الأخرى، فلا دليل على المنع من ذلك، وسيرة النبي (ص) تدل على عدم وجود مانع عن ذلك. أما حق الإشراف والرقابة على الحكام والاعتراض عليهم، ورفع الدعاوى في المحاكم القضائية فهم متساوون مع المسلمين، وفي سيرة الإمام علي (ع) ما يدل على ذلك صراحة.

خلاصة واستنتاج:

1 ـ الحريات الفردية وأقسامها، هي مما اتفق عليه الفقهاء، وقام عليها الإجماع من قبلهم، ووقع الخلاف في بعض فروع ذلك وقيوده.

2 ـ حرية العقيدة هي من الحريات المدنية التي وقع النزاع فيها، وتقدم أن الإسلام يرى حرية اختيار الدين، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى القول بحرية الفكر فقط، ومن هذه الخلفية دافعوا عن جهاد الكفار والمشركين لإلزامهم بالإسلام، في مقابل من رأى الجهاد بمثابة رافع لما يمكن أنيعد مانعاً في طريق الدعوة إلى الإسلام.

3 ـ حكم الارتداد هو من الأحكام التي كانت ولا زالت محل نقاش، ومع أن أصل هذا الحكم متفق عليه، لكن الخلاف وقع في موضوعه وشروطه.

4 ـ تتفرع من حرية العقيدة حريات أخرى مثل حرية المذهب، والقراءة الخاصة، حرية الاختلاف في الفتوى ـ وبعد الفصل بين صحة النظرية وحجيتها، فإن الكاتب رأى حجية القراءات المتعددة المعتمدة على القواعد المعتبرة.

5 ـ تم التعرض في الفصل الثالث إلى الأدلة الفقهية على حرية التعبير، وجرى البحث في فلسفة الحكم الذي نص على حرمة كتب الضلال، حيث تم رفع الشبهة التي اعتبرته تقييداً لحرية التعبير، من خلال تحديد موضوع الحرية بداية، وصولاً إلى القول باختصاص هذا الحكم بمن تحتمل في حقه الانحراف دون العلماء.

6 ـ تم التأكيد في الفصل الرابع على حق الناس وحريتهم في انتخاب السلطة وإدارتها.

7 ـ كما جرى طرح مسألة حرية العمل الحزبي والأدلة الفقهية عليه، حيث أشير إلى تمتع معارضي الدولة الدينية بمساحة من الحرية وإن كانت محدودة.

8 ـ فيما خص الأقليات الدينية، فإن التعامل معهم بإحسان يعد من المسلمات الفقهية، وقد وقع الخلاف في بعض الجزئيات كبناء المعابد وما شابه ذلك، أما في ما يرتبط بالأقليات غير الدينية فقد وقع الخلاف بين الفقهاء في مجال تحديد طريقة التعامل معهم حيث يرى البعض أن الأحكام المرتبطة بشأنهم كانت مؤقتة، فيما رأى آخرون ومن خلال الرجوع إلى الأدلة الفقهية أن القاعدة هي التعايش مع الكفار والمشركين تحت عنوان المواطنة في الدولة.

الخاتمة
وفي نهاية المطاف لا يسعنا إلا الإشارة إلى أهمية هذه الدراسة التي قدمها محمد حسن قدردان ملكي لجهة كونها أول دراسة جامعة تناولت بشكل مباشر مسألة الحرية، وعبارة “دراسة جامعة” توصيف وصف به قدردان ملكي كتابه وهذا التوصيف إن كان المراد به جمع ما تفرق من مسائل تندرج تحت موضوع الدراسة فهو توصيف دقيق، أما إذا كان المراد به الإحاطة العلمية الكاملة بمسائل الحرية فلا شك في أنه سيتفهم منه ما لا يقبل الحديث بعد ذلك عن عقبات ـ مانعة من الجمع ـ أشار إليها الكاتب وعد منها الاختصار الذي منعه من الدخول إلى تفاصيل أدلة الحرية وقيودها، واستعراض رأي الموافقين والمخالفين لها وتحليلها،

وأحسب أن الدخول في هكذا مبحث هو بمثابة العرش بالنسبة للدراسة، على الأقل في حدود التناسب مع عنوان الكتاب، وبالخصوص أننا نتحدث عن دراسة هي الأولى من نوعها باللحاظ المذكور سابقاً، ولا سيما وأننا لمسنا الاختصار في مجمل ما قدم، فما المانع من تقديم ما استثني ولو بنحو العرض المختصر نظير غيره،

والأمر نفسه ينطبق عند ذكره للعقبة الثانية وهي ترك البحث في بعض الحريات كالاقتصادية والقضائية والاكتفاء باللمحة الموجزة، لحساب استعراض الأبعاد السياسية للمسألة الحرية وأقسامها، نعم يمكن أن يقبل هذا التوصيف عند حصره بالهدف الذي أشار إليه الكاتب في بداية كتابه من رفع شبهة وجود تعارض بين الإسلام ومصادره وبين الحرية الفردية، التعارض الذي يزكيه البعد السياسي للموضوع.

ومن هذه الزاوية أجد ما يبرر لي اقتراح إضافة قيد على العنوان يستفاد منه تغليب البعد السياسي على غيره؛

وأخيراً، هذه الإثارة في التوصيف تجعل للكاتب علي حق التنويه، ومن زاوية موضوعية بهذا الجهد، والإشارة إلى أن ملاحظتي هذه تأتي بعد مطالعة شيقة لم ينسها التفصيل ملامح التقديم الذي استهل به الكاتب دراسته.

 

قراءة وعرض: روميو عباس

المحتويات

فقه الحرية

 

تحميل الكتاب

فقهُ الحرية

 

 

المصدر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky