جاء في التاريخ أن من السنن الحنيفية التي كانت لعبدالمطلب في دار الندوة، أن البنت إذا بلغت مبلغ النساء أتوا بها إليه فيلبسها الخمار. وقالوا: وكان وجهها مكشوفا، وأحيانا تسدل خمارها على كتفيها فيظهر بعض صدرها. واستمرت المرأة على هذا الزي بعد الإسلام حتى منتصف ما بعد الهجرة، ثم فرض الحجاب بغير زيادة كثيرة على ماكان سوی ستر الصدر، وزيادة الحشمة بعدم اظهار مفاتن الجسد.
الاجتهاد: المعروف في عرف الأديان أن الإنسان الأول هو آدم أبو البشر ومعه زوجه الأم حواء، والمعروف في عرف مذهب أهل البيت علیهم السلام أن أولاد آدم تزاوجوا فيما بينهم إخوة وأخوات، وعليه فأولادهم محارمهم، جد وجدة وإخوة وأخوات وأعمام وعمات وأخوال وخالات، ولعل في هذا المقطع من التاريخ الديني ما يلتقي بالتاريخ المادي الزاعم أن الناس كانوا منکشفين للطبيعة بما فيهم المرأة في المعاشر البدائية.
أما ماعدا المعاشر البدائية فالزي المشترك المعتاد لنساء الشرق القديم كان طويلا فضفاضا لا يتقسم على الجسد، وإنما يظهر منهن بعض السواعد والأقدام، عاطلة أو محلاة بالحلي من الذهب والفضة واللؤلؤ والعقيق وغيرها، على النهج السائد في نساء الشرق من الاحتشام بغطاء الشعر التقليدي، کالرجال أيضا، مع اختلاف أغطية الرأس بين الشعوب نساءً ورجالا، ولعله بدأ الحجاب مع وجود التناكر بين الأرحام المحارم مع تكاثر البشر من أبناء آدم علیه السلام ، و تشترك فيه الأديان السماوية الثلاثة .
والعرب خاصة كانوا يتعممون، و«العمائم تيجان العرب»، فعلى رؤوس رجالهم العمائم، وعلى رؤوس نسائهم الخمر.
وجاء في التاريخ أن من السنن الحنيفية التي كانت لعبد المطلب في دار الندوة، أن البنت إذا بلغت مبلغ النساء أتوا بها إليه فيلبسها الخمار.
وقالوا: وكان وجهها مكشوفا، وأحيانا تسدل خمارها على كتفيها فيظهر بعض صدرها.
واستمرت المرأة على هذا الزي بعد الإسلام حتى منتصف ما بعد الهجرة، ثم فرض الحجاب بغير زيادة كثيرة على ماكان سوی ستر الصدر، وزيادة الحشمة بعدم اظهار مفاتن الجسد.
وقد فرض الحجاب بآيتين:
الأولى: الآية التاسعة والخمسين من سورة الأحزاب الخامسة نزولا في أواخر السنة الخامسة للهجرة، والتسعون في النزول العام(۴)، ونصها: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (۳). وبناته وأزواجه ونساء المؤمنين بمعنی أزواجهم حرائر، والحرائر بفضل انتسابهن إلى العوائل كن بطبيعة الحال أكثر خفرا وصونا وحصانة، أما الجواري فلعدم انتسابهن إلى العوائل كن أكثر انفلاتا.
وجاء في الروايات أن شباب المدينة كانوا يلاحقونهن .
وتأكيدة لهذا التفريق كانت هناك أعراف وقوانين سابقة – كالقانون الأشوري مثلا – تلزم الحرائر عند خروجهن من بيوتهن بحجاب لرؤسهن، بينما تمنع الجواري من ذلك .
وإماء العرب في الجاهلية كن يكتفين بالخمار للرأس والدراعة للصدر، ولكنهن -كما يفهم من الآية- كن يتطوعن أحيانا للتحجب تشبها بالحرائر، فعدم اختلافهن في الزي مع الحرائر عرض الحرائر مع الجواري لتحرش الشباب، فاشتكت الحرائر – كما في التفاسير – إلى أهليهن، فنزلت الآية تأمرهن بحجاب إضافي يميزهن عن إمائهن كما صرحت الآية : “ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤدین “، وكانت وسيلة القرآن إلى ذلك هي إدناء الجلابيب .
ولم يتفق اللغويون – ويتبعهم المفسرون – في معنى الجلابیب، ففسروه بالقناع والخمار والملحفة، وكأنها الثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، أو الثوب الذي تلبسه المرأة فوق ثيابها، أو الثوب الواسع الذي يستر جميع البدن من أعلاه إلى أسفله، وعليه شاهد من قول المتنبي، واختاره القرطبي في تفسيره، وهو المعنى المعروف حتى اليوم بصيغة الجلابية، وهي ثوب فضفاض طويل تلبسه المرأة – بل الرجل – في شتى البلدان العربية.
فمع هذا ليس الجلباب عبارة عائمة غائمة، بل هو شيء واضح محدد كعلامة تميز الحرة عن الجارية، وهو التعليل الذي ذكرته الآية للأمر بالجلابيب، ليس في الآية أمر بستر الوجه علامة تميز الحرة عن الجارية، وإن أخذ به بعض الفقهاء والمفسرين، أو قل فقهاء المفسرين، مع بعض المفسرين الروائيين، إذ رووا أن نساء المدينة حجبن وجوههن بعد نزول هذه الآية من سورة النساء، وعليه اعتمد من تشدد في حجاب الوجه فيما سوى الحج في حال الإحرام. والمتفق عليه هو أن الجواري غير مشمولات بهذا الحكم في هذه الآية بالحجاب الإضافي للحرائر بالجلابيب.
ويحتمل الاستنباط من حكم هذه الآية من سورة الأحزاب، أن الحجاب الإضافي فرض على الحرائر للتحرز من فتنتهن للرجال، إذ إن مصدر أذيتهن تحرش الشباب بهن، ولا شك في أن منشأ ذلك التحرش هو فتنة النساء لهم، فلولا الفتنة لم يكن الإثارة والتحرش، ولولاها لم يحصل الأذى منهم لهن كما في الآية: “أن يعرفن فلا يؤذین” بتحرش الشباب بهن،
فمصدر الفتنة هي الحرائر في المقام الأول؛ لأنهن في الغالب أجمل من الجواري، وأقدر منهن على التلاعب بعقول الرجال، وليس العكس، فليست الفتنة في الإماء أكثر خلافا للمفسر الاندلسي أبي حيان في البحر المحيط – اللهم إلا لانفلاتهن لعدم انتسابهن إلى عوائل، كما مر، لا لأنهن أجمل للبعول وأقدر على اللعب بالعقول، كما قال، ولا نقول، وهو من نوع اجتهاد العقول في موضع النص المنقول، والذي تضمنه التعليل الصريح للحكم بحصره في تمييز الحرائر عن الجواري، فالغرض هو درء الفتنة الأكثر بالحرائر،
ولذلك تشدد هذا التشريع في حجب الحرائر وتساهل في الجواري، من دون أن يكون الحكم متوقفا على وجود الجواري، فالحكم في الآية غير موقوت بوجود الجواري لتحجب الحرائر، فالحكم صدر عن المشرع الإسلامي للتحرز من الإغراء غير مقید بزمن خاص، بل بوضع خاص هو الإثارة والإغراء للرجال بالنساء، فالحكم في الآية لا يصطدم باعتبار أبدية الأحكام الشرعية إستنادا إلى الحديث القائل: حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(۵)، والخطاب الإلهي في الآية لم ينطلق من قرار إلهي بوجود الرق أبديا ، كما أوهمه الواهم(۶).. .
والآية الثانية في الحجاب هي الآية الحادية والثلاثون من سورة النور، الثالثة بعد المئة نزولا، والسابعة عشر نزولا بالمدينة بعد الهجرة،(۷) أي بعد أكثر من عشر سور بعد سورة الأحزاب، والنازلة بعد سورة النصر النازلة في فتح مكة في الثامنة للهجرة، أي في أواخر عهد التشريع قبل وفاة المبلغ الأول عن المشرع الأعظم، رسول الله ﷺ بعامين تقريبا، وهي قوله سبحانه : ” وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ(۸)،
فهذه الآية أدت الأمر بستر الصدر بقولها: ” وليضربن بخمرهن على جيوبهن” الخمر: جمع خمار، والجيب – قديما – هو الزيق الذي يلي الصدر، والمقصود اسدال الخمار الذي يغطي الشعر على الصدر ليغطيه كذلك، فهذه الآية هي الآية الأصلية في الحجاب، ففيها تتعين حدوده غير المقيدة بوضع أو زمن، فهي صدرت عن المشرع الإسلامي للتحرز من الإغراء وخوف الفتنة، وهو الاعتبار الذي راعته الآية في نهيها عن التبرج وإبداء الزينة، وأمرها بستر الشعر والصدر، ولكنها بدورها أيضأ لم تضف الكثير على الزي الجاهلي سوی ستر الصدر، وزيادة الحشمة بعدم اظهار مفاتن الأجساد المثيرة والمغرية.
ومن الآية الستين في هذه السورة أيضا يستفاد أن هذا الحكم بهذا الحجاب خاص بالشباب من النساء حتى سن معينة هي التي يكن فيها قابلات للعلاقة الجنسية، وهذا نص الآية:” والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نکاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غیر متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن(۹)، فالقواعد من النساء هن اللواتي بلغن سن اليأس وما في حكمه مما يوقف حاجة المرأة إلى الرجل، وكذلك يجعلها من جهة أخرى غير مثيرة لشهوته إليها،
واتفق الفقهاء والمفسرون على أن الآية تنص على إعفاء هذه الفئة من النساء من القيود التي فرضت عليهن في الآية السابقة، فلا جناح، أي لا إثم ولا حرج، في أن تخرج المرأة التي تعدت هذا السن وقد وضعت ثيابها الواسعة الساترة، بشرط ألا تكون متبرجة بزينة، فلو أسفرت عن وجهها وحسرت عن بعض شعرها فلا جناح عليها، وكذلك لا جناح على الناظر إليها بغير ريبة شهوة و تلذذ، وقد فرض انتفاؤه طبيعية أيضا.
الهوامش
(1) باب کتاب النبي ﷺ إلى كسرى وقيصر من کتاب المغازي من صحيح البخاري ۳: ۹۰، باب ۱۴، من أبواب الفتن، من سنن الترمذي ۳: ۳۶۰، حدیث ۲۳۶۵، وباب النهي عن استعمال النساء في الحكم من کتاب آداب القضاء من سنن النسائی ۲۲۷:۸، مسند أحمد ۵: ۳۸، تحف العقول: ۳۵، الخلاف في الفقه ۳۱۱:۳
(2) وظهر أخيرة النقاش الفقهي حتى في هذا، وممن تناوله بهذا النقاش الشيخ محمد مهدي شمس الدين العاملي في كتاب مستقل بعنوان أهلية المرأة لتولي السلطة في (۱۶۰ صفحة) وهو الكتاب الثاني من مسائل حرجة في فقه المرأة، يسبقه الكتاب الأول الستر والنظر في (۲۸۰ صفحة)
(3)- ۱۰۶: ۱
(4)- الحزاب :۵۹.
(5) أصول الکافی ۱: ۵۸ حدیث ۱۹، ج ۲ ص ۱۷ حدیث ۲، وسائل الشيعة ۲۷: ۱۶۹ عن كنز الفوائد ۱ : ۱۶۴.
(6) مقال السيد هادي العلوي: العدد ۴۱ ص ۳۳ – ۳۴.
(7) التمهيد ۱: ۱۰۷.
(8) النور: ۳۱.
(9) النور :۶۰.
المصدر: كتاب : المرأة في الجاهلية والاسلام (الصفحة 41) / الشيخ محمد هادي يوسفي الغروي