الاجتهاد: بالرغم من التوسع والتقدم والازدهار الذي امتاز به علم الأصول في العصور الأخيرة، وضخامة مباحثه ومؤلفاته إلى حد الاعجاب والفخر، إلا أن وجود مثل كتاب “التذكرة بأصول الفقه” – على اختصاره وإيجازه – في عهد الشيخ المفيد يدل على أصالة قواعده، وأن ما تحتويه من آراء ونظريات متطورة لم تحصل فجأة، ولم تكن وليدة ساعتها، وإنما هي استمرار وامتداد لجهود أصولية متعاقبة. .. بقلم المحقق السيد محمد رضا الحسيني الجلالي.
(أصول الفقه) يعني: العلم الذي يحتوي على القواعد العامة التي يعتمدها الفقيه عندما يريد معالجة أدلة الأحكام الفقهية ليستنبطها منها، وهي تتنوع إلى قواعد تحدد نوعية الأدلة القابلة للاستخدام في الفقه، وإلى قواعد تحدّد مدى دليليّة تلك الأدلة، وإلى قواعد تحدّد شروط الاستدلال الصحيح وطرقه ومسالكه المعتبرة شرعاً، وإلى قواعد تحدّد الأدوات اللازمة للمعالجات عند تعارض الأدلة وتنافيها.
وبمعرفة هذه القواعد واستيعابها ثم تطبيقها يكون الفقيه على عدّة وقوة لاستنباط الحكم في علم الفقه معتمدا مبانيه الأصولية تلك.
وقد كان الفقهاء الشيعة يستخدمون هذه الأصول، والقواعد بالسليقة التي تطبّعوا عليها وتلقوها في معاملاتهم العرفية التي كانوا يتداولونها في مدارسهم وعلى أساليبهم اللغوية المرتكزة في فهم معاني الألفاظ وتحصيل التفهيم والتفاهم، اعتمادا على ما لهم من قوة في التقنين والقناعة بالأعراف المتفق عليها بين العقلاء.
ولما تكثرت المعارف وتداخلت كان من الضروري إبراز هذه القواعد في قالب معين، وجمعها في إطار محدد، سمّي بعلم (أُصول الفقه).
ولقد اصطيدت وحدات هذه القواعد، ونماذج مطبقة منها في ما ورد عن الأئمة عليهم السلام من أحاديث تحتوي على أكثر من مجرد عرض الأحكام وسردها، بل تحتوي على الاستدلالات والمناقشات الفقهية، وخاصة عندما كان الفقهاء من أصحابهم، يحاولون التفريع على ما كان الأئمة عليهم السلام يطلقونه من نصوص وقواعد.
وكما تألق فقهاء الشيعة منذ الصدر الأول في تقرير هذه القواعد واستخدام هذه الأصول، فإنهم كذلك سبقوا في تحريرها وضبطها وتقييدها في المؤلفات.
فكانت هناك مؤلفات في بعض الجوانب الأصولية الهامة، كمباحث الألفاظ، والعموم والخصوص، والاجمال والبيان.
أما قدماء الفقهاء فكانوا يحررون مبانيهم الأصولية ضمن الكتب الفقهية وفي خلال المسائل التي تناسب تلك البحوث، وخاصة عند التعرض للخلاف ونثار المناقشات بالنقض والابرام، فيعدون ما يصلح للاستدلال ويرفضون ما لا يصلح، كما هو الحال بالنسبة إلى أدلة القياس والرأي والاستحسان والمصالح المرسلة، الباطلة عند الشيعة.
ومع أن المؤلفات الشيعية القديمة في هذا الفن عرضت للتلف والإبادة، فإن التاريخ احتفظ لنا بهذا المختصر من كتاب ألفه الشيخ المفيد ، في مرحلة متقدمة مما يدل على نضج هذا الفن وتكامله في عصره.
وبالرغم من التوسع والتقدم والازدهار الذي امتاز به هذا العلم في العصور الأخيرة، وضخامة مباحثه ومؤلفاته إلى حد الاعجاب والفخر، إلا أن وجود مثل هذا الكتاب – على اختصاره وإيجازه – في عهد الشيخ المفيد يدل على أصالة قواعده، وأن ما تحتويه من آراء ونظريات متطورة لم تحصل فجأة، ولم تكن وليدة ساعتها، وإنما هي استمرار وامتداد لجهود أصولية متعاقبة، كما أنها تعتبر أساسا قويما للجهود المتتالية التي حمل رايتها تلامذة المفيد ومن بعدهم أعلام الشيعة الكرام.
ومهما يكن، فإن مؤرخ علم الأصول يمكنه أن يحدد معالم هذا العلم في عصر المفيد وما حوله، من خلال هذه الرسالة على اختصارها.
كما أنّا نقف فيها على عناصر من فكر الشيخ المفيد الأصولي، نشير إلى أهمها:
1 – الأدلة:
جعل الشيخ المفيد مصادر الحكم الشرعي: العقل ثم اللسان (أي اللغة) وهو مصدر معرفة المفردات والمعاني اللغوية، ثم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، والملاحظ أنه عطف على السنة أقوال المعصومين الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، مما يوحي أن مصطلح (السنة) عنده يختص بالمروي عن الرسول صلى الله عليه وآله.
ويلاحظ – أيضا – أنه لم يذكر (الإجماع) في أدلة الأحكام الشرعية، والسبب أنه لا يقول بحجية الاجماع في نفسه، وإنما يلتزم بالإجماع الدخولي، الذي تكون العبرة فيه بقول المعصوم الداخل فيه، فلذا لم يعد الاجماع وحده دليلا مستقلاً.
2 – الخبر الواحد:
حكم بحجية الخبر الواحد بشرط الاقتران بقرينة تؤيد صدقه، أو بدليل عقلي، أو بشاهد من عرف أو بالإجماع غير المخالف، وإلا لم يكن حجة، بل صرح بأنه: (لا يوجب علما ولا عملا).
3 – المراسيل:
وحكم بحجية الخبر المرسل – غير المعارض بأقوى منه – وقال: (يعمل به أهل الحق على الاتفاق).
4 – الظواهر:
يقول بحجية ظواهر الكتاب، بعد إثبات أنّ للكتاب ظاهرا مراداً منه واستنكر القول بنفي الظاهر منه.
كما اعتمد على أسباب نزول الآيات للتوصل إلى المراد القرآني.
5 – دلالة الأمر على النهي عن ضده:
يقول بعدم دلالة الأمر بالشئ على النهي عن ضده بالدلالة اللفظية الوضعية، وإنما يقول بدلالة العقل على ذلك وحكمه به، وعلى أساس استحالة اجتماع الفعل وتركه عقلا، فإذا كان الفعل مطلوبا فالضد غير مطلوب.
وهذا يدل على استخدام الأصوليين لحجة العقل في فترة متقدمة من تاريخ علم الأصول.
6 – اشترط العلم بالحقيقة والمجاز،
ولم يكتف فيهما بالظن، وجعل الطريق إلى ذلك أحد أمرين:
1 – الإجماع من أهل اللغة.
2 – الدليل المثمر للبيان.
ولم يعتمد على كلام بعض أهل اللغة، أو بعض أهل الإسلام ممن ليس بحجة في المقال والفعال، فإنه لا يعتمد في إثبات حقيقة الكلام.
وأوجب التوقف إذا لم يقم دليل علمي على تعيين المعنى الحقيقي أو المجازي.
7 – في التخصيص:
ادعى أن السنة الفعلية لا تكون مخصصاً لعامّ لفظيّ، إلا إذا كان أصل العام لا يصح إلا بفرد خاص، وقد مثل لذلك بقوله: إذا روى أن النبي صلى الله عليه وآله أحرم، لم يجب الحكم بذلك أنه أحرم بكل أنواع الحج من إفراد وقران وتمتع، بل إنما يصح الإحرام بنوع واحد، فوجب القضاء بالتخصيص بواحد منها فقط.
8 – المجمل والمبين:
عبر عنهما بالكنية والظاهر، وهي تسمية غير معروفة في المصادر الأصولية المعاصرة.
9 – يقول بنسخ الكتاب بالكتاب، لكن لا بالسنة،
ويقول بمجئ النسخ في أخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عند تعارضها، لكن لا يقول بالنسخ في أحاديث الأئمة عليهم السلام.
إن احتواء هذه الرسالة على صغرها على هذه الآراء من الشيخ المفيد تزيد من أهميتها، مع أن الذي يبدو من النسخ أنها مختصرة من أصلها الكامل، المسمى في الفهارس ب (التذكرة بأصول الفقه).
ولو قدر أن حصلت لنا النسخة الكاملة من كتاب الشيخ لأفادتنا أكثر من ذلك، ولوقفنا على جوانب أهم من معالم الفكر الأصولي في مدرسة الشيخ المفيد رحمة الله عليه.
وبالله التوفيق.وكتب السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
المصدر: موسوعة الشيخ المفيد الجزء التاسع (ويحتوي على : التذكرة بأصول الفقه- الاشراف – أحكام النساء – ذبائح أهل الكتاب – المسح على الرجلين – رسالة في المهر – جوابات أهل الموصل)
تحقيق: الشيح مهدي نجف
قم دار المفيد
تحميل الجزء التاسع من موسوعة الشيخ المفيد
في ذكراه.. أضواء على المنزلة العلمية للشيخ المفيد/ العلامة حسن زاده الآملي + تحميل