الاجتهاد: التحقيق ـ كما في كتاب «تأسيس الشيعة»ـ أنّ أوّل من صنّف في بعض مسائل علم الأصول هشام بن الحكم المتوفّى سنة ١٧٩ ه، تلميذ الإمام الصادق عليهالسلام، صنّف كتاب «الألفاظ ومباحثها». ثمّ يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين تلميذ الإمام الكاظم عليهالسلام، صنّف كتاب «اختلاف الحديث ومسائله».
علم الأصول وإن اسّس في عصر الإمامين الصادقين”عليهما السلام”ولكنّه لم يكن مدوّناً. وفي أوّل من قام بتدوينه خلافٌ. قال السيوطيّ في محكيّ كتاب «الأوائل»: أوّل من صنّف في اصول الفقه الإمام الشافعي. وصرّح بذلك أيضاً صاحب «كشف الظنون». وقيل: يحتمل أن يكون أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم الّذي كان سابقاً على الشافعيّ. قال ابن خلّكان: هو أوّل من وضع الكتاب في اصول الفقه على مذهب[استاذه]أبي حنيفة.
يمكن أن يقسّم تأريخ علم الاصول إلى ثلاثة أدوار :
(الدور الأوّل) دور التأسيس:
لا شكّ أنّ علم الأصول من العلوم الّتي ابدع بعد عصر التشريع، فإنّ في عصر التشريع كان الرسول “صلىاللهعليهوآلهوسلم” مرجعاً وحيداً في بيان الأحكام الشرعيّة ، وكان الصحابة يتعلّمون الأحكام من ساحته المباركة ويرجعون إليه في حلّ مشاكلهم العلميّة والعمليّة.
وأمّا بعد التشريع فالعامّة فقدوا مصدر التشريع فاضطرّوا للاعتماد على مصدرٍ آخر لحلّ ما يبدو من التعارضات بين بعض الأحكام والجواب عن بعض المستحدثات في الأنام. فبدءوا بتطبيق بعض القواعد الاصولية.
وأمّا الشيعة الإماميّة فإنّهم كانوا في غنى عن استعمال القواعد الاصوليّة إلى بداية عصر الغيبة الكبرى(سنة ٣٢٩ ه). وذلك لاعتقادهم بأنّ الإمام المعصوم هو المرجع الوحيد بعد النبيّ “صلىاللهعليهوآلهوسلم” في بيان الأحكام وتفسير القرآن والسّنة.
وعليه، فالعامّة أسبق من الإماميّة في مجال التطبيق والاستناد. وإنّما الكلام في من سبق على غيره في إبداع علم الاصول وتأسيسه. والتحقيق أنّ أوّل من أسّس هذا العلم وفتح بابه ورسّخ قواعده ـ تعليما لمن يدرك عصر الغيبة ـ هو الإمام الهمام أبو جعفر الباقر عليهالسلام، ثمّ ابنه الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق عليهالسلام. قال العلّامة السيّد حسن الصدر في كتاب «تأسيس الشيعة»: أوّل من أسّس اصول الفقه وفتح بابه وفتق مسائله الإمام أبو جعفر الباقر عليهالسلام، ثمّ بعده ابنه الإمام أبو عبد الله الصادق عليهالسلام. وقد أمليا أصحابهما قواعده، وجمعوا من ذلك مسائل رتّبها المتأخّرون على ترتيب المصنّفين فيه بروايات مسندة إليهما (١).
(الدور الثاني) دور التدوين :
اعلم أنّ علم الأصول وإن اسّس في عصر الإمامين الصادقين عليهماالسلام ولكنّه لم يكن مدوّنا. وفي أوّل من قام بتدوينه خلاف.
قال السيوطيّ في محكيّ كتاب «الأوائل» : أوّل من صنّف في اصول الفقه الإمام الشافعي (٢). وصرّح بذلك أيضا صاحب «كشف الظنون» (٣).
وقيل : يحتمل أن يكون أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم الّذي كان سابقا على الشافعيّ. قال ابن خلّكان : هو أوّل من وضع الكتاب في اصول الفقه على مذهب [استاذه] أبي حنيفة (٤).
وقيل : يحتمل أن يكون محمّد بن الحسن الشيباني فقيه العراق ، فإنّه توفّي سنة ١٨٢ ه أو ١٨٩ ه ، والشافعيّ مات في سنة ٢٠٤ ه. وقد صرّح ابن النديم في «الفهرست» بأنّ للشيباني تأليفا سمّي : «اصول الفقه» (5).
ولكنّ التحقيق ـ كما في كتاب «تأسيس الشيعة» (6) ـ أنّ أوّل من صنّف في بعض مسائل علم الاصول هشام بن الحكم المتوفّى سنة ١٧٩ ه ، تلميذ الإمام الصادق عليهالسلام ، صنّف كتاب «الألفاظ ومباحثها». ثمّ يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين تلميذ الإمام الكاظم عليهالسلام ، صنّف كتاب «اختلاف الحديث ومسائله».
(الدور الثالث) دور الاستناد :
ثمّ جاء الدور الثالث ، وهو دور الاستناد إلى قواعد اصول الفقه في مقام الاستنباط. وهذا الدور لا يتقدّم على عصر الغيبة الكبرى.
وأوّل من استند إلى القواعد الاصوليّة واعتمد عليها في استنباط الأحكام الشرعيّة الشيخ الجليل الحسن بن عليّ بن أبي عقيل صاحب كتاب «المستمسك بحبل آل الرسول» وهو من مشايخ جعفر بن محمّد بن قولويه. وهو أوّل من هذّب الفقه واستعمل النظر وفتق باب البحث عن الاصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى.
ثمّ اقتفى اثره ابن الجنيد المعروف بالإسكافيّ ، وهو استاذ الشيخ المفيد.
ثمّ وصل الدور إلى محمّد بن محمّد بن نعمان بن عبد السلام ، المعروف ب «الشيخ المفيد». فألّف كتاب «التذكرة باصول الفقه» ، واعتمد على الاصول في استنباط الأحكام.
ثمّ انتقل الدور إلى تلامذة الشيخ المفيد :
منهم: السيّد الأجلّ السيّد المرتضى الملقّب ب «علم الهدى» ، المتوفّى سنة ٤٣٦ ه ، صنّف كتاب «الذريعة إلى اصول الشريعة».
ومنهم: شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسيّ، المتوفّى سنة ٤٦٠ ه ، صنّف كتاب «العدّة في اصول الفقه».
ومنهم: سلّار بن عبد العزيز الديلميّ، المتوفّى سنة ٤٦٣ ه ، صنّف كتاب «التقريب».
وبعد الشيخ الطوسيّ توقّف سير البحث عن نظريّات السابقين ونقدها. وذلك لحسن ظنّ تلامذة الشيخ بما استنبطه وأفتى به في كتبه. واستمرّت هذه الحالة مدّة تقرب من قرن إلى أن وصلت إلى ابن إدريس الحلّي ، المتوفّى سنة ٥٩٨ ه ، فأقام مجلس البحث والنقد ، وألّف في الفقه الاستدلالي كتاب «السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى».
وبعد ابن إدريس وصل الدور إلى المحقّق الحلّيّ، صاحب «شرائع الإسلام» المتوفّى سنة ٦٧٦ ه. فألّف في اصول الفقه كتاب «نهج الوصول إلى معرفة الاصول» و «معارج الوصول إلى علم الاصول».
وبعده وصل الدور إلى العلّامة على الإطلاق أبي منصور جمال الدين الحسن ابن يوسف بن عليّ بن مطهّر الحلّي ، المتوفّى سنة ٧٢٦ ه. فالعلّامة بعد الدقّة والنظر في كتب القوم ألّف كتبا قيّمة في علم الاصول. منها: «غاية الوصول في شرح مختصر الاصول» و «النكت البديعة في تحرير الذريعة» و «تهذيب طريق الوصول إلى علم الاصول» و «مبادئ الوصول إلى علم الاصول».
وهذه الكتب صارت محطّ أنظار العلماء ومدار البحث والتحقيق إلى زمان الشهيد الثاني ، المتوفّى سنة ٩٦٥ ه.
وقد ألّف الشهيد الثاني كتابا سمّاه «تمهيد القواعد».
ثمّ ألّف ابن الشهيد الثانيّ أبو منصور جمال الدين الحسن بن زين الدين ـ المتوفّى سنة ١٠١١ ه ـ كتابا سمّاه «معالم الدين». وهذا الكتاب صار مدار البحث والدرس بين الأكابر ، فأقبلوا عليه بالتحشية والتعليق والشرح.
وفي القرن الثالث عشر بلغت العناية بعلم الاصول مرتبة اتّصفت بالإطناب والتطويل. فألّفوا كتبا مفصّلة ومبسوطة في علم الاصول. منها : «هداية المسترشدين» للشيخ محمّد تقي الاصفهانيّ ، «قوانين الاصول» للمحقّق القمّي المتوفّى سنة ١٢٣١ ه ، و «الفصول الغرويّة» للشيخ محمّد حسين الاصفهانيّ المتوفّى سنة ١٢٦١ ه ، و «فرائد الأصول» للشيخ الأعظم الأنصاري المتوفّى سنة ١٢٨١ ه.
وشرع الدور الآخر من زمان العلّامة الاصولي المحقّق الشيخ محمّد كاظم الخراسانيّ ـ ستأتي نبذة من حياته لا حقا ـ ، فإنّه بادر إلى تنقيح الاصول وتحريرها عن الفضول، ورتّبها على وجه أنيق، وألّف كتاب «كفاية الاصول» الذي هو الآن بين يدي القارئ الكريم، وصار هذا الكتاب من الكتب الاصولية المتداولة عند دارسي العلوم في الحوزات العلميّة وغيرها، بل صار محطّ أنظار الأساتذة وأهل العلم والتحقيق.
وبعد انتهاء دور المحقّق الخراسانيّ انتقل الدور إلى تلامذته، لا سيّما العلمين:
١ ـ المحقّق الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ، المتوفّى سنة ١٣٦١ ه.
٢ ـ المحقّق الشيخ ضياء الدين العراقيّ ، المتوفي سنة ١٣٦١ ه.
فهؤلاء الأعلام قد انكبّوا على تهذيب علم الاصول وتعميقه ، فتخرّج من معهد بحثهم ومجلس درسهم كثير من العلماء والمجتهدين.
الهوامش
(١) تأسيس الشيعة : ٣١٠. (انتقد أبو زهرة كلام السيد حسن الصدر في مقدّمة أصول الفقه الجعفري حيث قال: صحيح أن الإمامين الباقر والصادق ‘ أمليا مسائل علم الأصول على أصحابهما، إلاّ أنّ هذا ليس بتصنيف، بل الشافعي هو من صنّف هذا العلم، ومن جهةٍ ثانية، صحيح أنّ هشام بن الحكم ويونس بن الرحمن قد صنّفا كتابهما قبل الشافعي ولكن أوّلاً: هذه المؤلّفات مشتركة بين علم الأصول والعلوم الأخرى. ثانياً: تختصّ بمسألة واحدة من مسائل علم الأصول، في المقابل أعاد الشافعي ترتيب جميع مسائل هذا العلم)( أبو زهرة، أصول الفقه الجعفري: 8، 9.)
(٢) الوسائل في مسامرة الأوائل : ١٠٣.
(٣) كشف الظنون ١ : ١١١.
(٤) تأريخ ابن خلّكان ٢ : ٤٦٣.
(5) الفهرست : ٢٨٥.
(6) تأسيس : ٣١٠.
المصدر: كتاب: كفاية الأصول – ج ١ – المؤلف: الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ] – المحقق: الشيخ عباس علي زارعي السبزواري
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي