الاجتهاد: لا بدّ للاجتهاد والتفقّه السائد والرائج في واقعنا المعاصر من إجراء دراسة تقويمية لأدواته الاستنباطية، ومن أبرز هذه الأدوات: علم أصول الفقه.
وقف علم الأصول بثبات وشجاعةٍ في مواجهة النزعة الأخباريّة والاتّجاه السطحيّ للدين وأحادية المنبع الدينيّ (من خلال الاقتصار على الأخبار بوصفها المنبع الوحيد للدين)، مخلّصاً الاجتهاد من الجمود والتحجّر، وممهّداً الطريق أمام تطوّر الفهم الدينيّ والالتزام العقديّ.
ومع ذلك كله، ما تزال الحاجة ماسّةً إلى القيام بدراسة تقويمية لعلم الأصول؛ وذلك في أربعة مستويات:
“المنهج”، “الهيكلية”،”المحتوى والمضمون” (أي بعض الادعاءات الموجودة)، و”الوظيفة والمحددات”.
لقد خضع علم الأصول إلى عمليّة البسط بصورة تدريجيّة؛ الأمر الذي جعله عرضة لموجاتٍ من الاختلال البُنيويّ، وعدم الانسجام في فصوله، وكثرة الاستطراد؛ إذ لا لزوم لإقحام البحوث اللغوية في الموضوعات الأصولية، ولاسيما قسم الألفاظ الذي يستدعي اختصاره وتشذيبه؛ بحذف الإطالات وما لا طائل منه، ورفع الخلط بين العلوم.
وتوجد مجموعة من المسائل في مباحث الألفاظ، لا علاقة لها بعلم الأصول، ما يتطلب طرحها والبحث فيها قبل الشروع في علم الأصول،
كما يحوي ذلك العلم مجموعة أخرى من الموضوعات التي لا تطبيقات عمليّة لها في عملية الاستنباط، الأمر الذي يفرض على مؤسسات التعليم الديني إعتماد مقرّرات دراسية بعنوان «دراسات لغوية وألسنيّة» تتيح للطلبة فرصة الإلمام بالبحوث الضرورية – بوصفها مقدمات لذلك العلم – فیدرسون تلك المقررات إلى جانب الصرف، والنحو، والبلاغة؛ لما لها من دور لا يقل أهمية عن علوم اللغة في فهم النص.
في هذا السياق نطرح السؤال الآتي: ما صلة مبحث « الطلب والإرادة»، المباشرة أو غير المباشرة، بعلم الأصول؟
يأتي الجواب: «الأمر» بمعنى «الطلب»، الذي ينقسم بدوره إلى أربعة أقسام:
حقيقي (ذاتي)، إنشائي (لفظي)، ذهنيّ ومعنويّ. والأمر نفسه ينطبق على «الإرادة»؛ حيث تصور جمعٌ – منهم الأشعريون – أن الإرادة طلب نفسيّ، أما الطلب اللفظيّ فهو الطلب الاصطلاحي نفسه الذي يعني الأمر.
لقد أدّى طرح مسألة تغاير الإرادة والطلب أو اتحادهما، إلى انزلاق الأصوليين في خوض سلسلة من المباحث الفلسفية والعلمية المجردة والكلامية غير الضرورية، من قبيل: التساؤل عن حقيقة الإرادة والطلب، اختيارية مقدمات الإرادة، والتمايز بين الإرادتين الإلهية والإنسانية.
کما دفعتهم تلك المسألة إلى إحياء النزاعات القديمة بين الأشعريين والمعتزلة والإمامية في الحقيقة ونسبة الذات والصفات، والجبر والتفويض، ومعنى الكلام في نفسه، و … ما لا علاقة له بعملية استنباط الأحكام، ولا صلة له بماهية علم الأصول!
إن ظهور تلك الآفات في علم الأصول أمر طبيعي، نتيجة حالة القصور في تدریس الفلسفة والكلام، واختفاء دور فلسفة التفقه وعلم الفقه من المنظومة التعليمية الدينية، وهجر مناهج العلم وفنّ البحث!
فلماذا لا نهتمّ بطرح مباحث عملية وضرورية؛ كالمفاهيم والمعاني والمرتكزات والتطبيقات العملية في سيرة المعصومين “عليهم السلام” والعقلاء والعرف والمصالح؟ ولماذا لا نتناول بالبحث العلاقة الموجودة بين الفقه والفطرة؟
إن من عيوب علم الأصول الأخرى: تفشّي حالة التكلّس على القواعد والضوابط المتعارفة، وتضييق دائرة البحث في مباحث ضرورية، وإغفال أخرى؛ الأمر الذي يسلّط الضوء على ضرورة توسيع دائرة الأصول وقواعد الاستنباط، ولاسيما في ما يخص الاجتهادين الاجتماعي والسياسي.
وفي ما يتعلق بعلم أصول الفقه السائد والرائج، تحظى المباحث المعنية بـ “الكتاب” بالنصيب الأكبر من عملية الاستنباط، فيما لا ينال «العقل» سوی حیّزٍ محدودٍ فيها، على الرغم مما يلعبه من دورٍ مؤثر في فن الاجتهاد و فهم الدين؛ ما يستدعي توسيعه و تعميقه، بما يتناسب مع شأنه.
وخلافا لما هو مشهور، تشكّل آيات الأحكام (تلك الآيات التي يمكن لها أن تدخل في خدمة استنباط الأحكام والحدود الإلهية؛ استنادا إلى إحدى الدلالات الثلاث) أكثر من ثُلُث القرآن الكريم، بينما يمكن لفعاليّة العقل في حقل الدراسات الدينية – ومنها استخراج الأحكام – أن تحتلّ مساحةً أكبر بكثيرٍ مما يُتَصَّور.
وتوضيح ذلك: أن وظائف العقل تختلف في حقل البحوث الدينية، بحسب الجهات المأخوذة بعين الاعتبار، إلى أقسام مختلفة، منها:
١. بلحاظ شمول فعّاليّة العقل للحقول الثلاثة (العقائد، الأحكام، الأخلاق)، أو بلحاظ انحصار فعّاليّته في حقل محدّد، ويُعبّر عن هذين البعدَين، بالوظائف”العامة” و”الخاصة”:
أ. وظائف العقل « العامّة» والمشتركة في البحوث الدينية، وهي عبارة عن الآتي:
– إدراك بديهيات النزعة نحو التديّن والإيمان (من قبيل:ضرورة الدين، منشأ الدين، النبوة العامة، و..).
– إرساء المرتكزات اللازمة للحقول الثلاثة.
– إثبات إمكانية فهم الدين.
– المساهمة في تنظيم «معرة منطق فهم الدين».
– إثبات حجية سائر المنابع الدينية
– استنباط التعاليم الدينية من سائر المصادر الأخرى (أدوات فهم الدين وطرقه).
– وضع الضوابط والقواعد الضرورية للمعرفة الدينية .
– تقویم منابع فهم الدين وأدلته ورفع التعارض في ما بينها.
– تمییز صحيح المعرفة الدينية من سقيمها.
– استكشاف آفات المعرفة الدينية ومعالجة الأخطاء.
ب. وظائف العقل “الخاصة”، ويمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات؛ تَبَعَاً لفعّاليّته في كلّ حقلٍ من حقول الدّين الثلاثة؛ وهي عبارة عن:
– في حقل العقائد:
• إدراك أصول العقائد بصورةٍ مستقلّةٍ (من قبيل: وجود الواجب، التوحيد، و…).
• إدراك كثير من القضايا الدينية .
في حقل الأحكام:
• إدراك قسمٍ من علل الأحكام الدّينية وحِكَمها.
• الدفع نحو التزام الأوامر الشرعيّة والردع عن نواهيها
• تحديد صُغريات الأحكام الشرعيّة العامّة ومصادیقها (معرفة الأحكام).
• تعيين موضوعات الأحكام العملية (معرفة الموضوعات).
• إدراك المصالح والمفاسد المترتّبة على الأحكام في مقام التحقّق، وتحديد الأولويّات، ورفع التزاحم بين الأحكام.
• ترخيص المباحات و تأمينها (أو تقنينها) (ما لا نصّ فيه، ومنطقة الفراغ).
• تعيين آليّة تحقّق أحكام الدين الاجتماعيّة (البرنامج، والهيكليّة، والمنهج).
في حقل الأخلاق:
• إدراك الحسن والقبح الذاتيَّين للأفعال.
• إدراك قسمٍ من القضايا الأخلاقيّة بصورةٍ مستقلّة.
• تشخیص صُغريات القضايا الأخلاقية ومصادیقها.
• تحديد المفاسد والمصالح المترتّبة على الأحكام الأخلاقية في مقام العمل، وإدراك الأولويات ورفع التزاحم في ما بينها.
• الترخيص (أو جعل حكمٍ أخلاقيٍّ) في حالات الفراغ.
• الدفع إلى فعل الفضائل وکسبها، وترك الرذائل.
• تعيين آليّة تحقق الأخلاق الدينية.
۲. بلحاظ وظيفة العقل في نطاق كلّ واحدٍ من أطراف “واقعة الفهم” الخمسة؛ وهي عبارة عن:
أ. فعالية العقل في مبدأ الدين (الماتن = الشارع، المعصوم، العقل والفطرة).
ب. فعّاليّة العقل في نطاق منابع الدين (أدوات فهم الدين ومجاريه = المتن والنصّ بالمعنى العامّ).
ج. فعالية العقل في مُدرِك الدين (المفسّر= مخاطب الدين).
د. فعالية العقل المُدرَك (المعنى = رسالة الدين).
هـ. فعّاليّة العقل في مجال منطق إدراك الدين (المنهجيّة).
٣. بلحاظ نمط فعالية العقل في الحقول الثلاثة، يمكن تقسيم وظائف العقل إلى نوعين: «استقلال» و«آلی».
٤. بلحاظ «الوساطة» أو «المباشرة في فهم الدين.
5. بلحاظ وظائف العقل وفعاليتها، يمكن تقسيمها إلى قسمين: «حول الدين» أو في الدين».
6. بلحاظ وظائف العقل في نطاق الدين؛ تبعاً لتقسيم العقل إلى: نظريٍّ وعمليٍّ.
هذا، وتحتاج مرتكزات التقسيمات و مصادیقها ومعانيها إلى مزيد من الشرح والبسط؛ ما يستدعي إفراد بحثٍ مستقل له.
کما إنّ لكثيرٍ من موضوعات علم أصول الفقه الرائج سنخية مع مباحث فلسفة الفقه، من قبيل: المعنى والمبنى، صلات الفقه بالعقل، والفقه بالفطرة، والفقه بالسيرة، والفقه بالمصلحة، والفقه بالعرف، ومناهج علم الفقه، ولا يمكن طرح فقهٍ ناجعٍ وذي جدوى – اليوم- دون الاستعانة بفلسفتَي الفقه والاجتهاد.
ثمة مجموعة من المحاور التي ينبغي تعليمها وتعلّمها؛ بوصفها مُقرّرات دراسيّةٍ مدوَّنةٍ ومنسجمةٍ.
ويمكن الإشارة إلى بعضها، من قبيل:
مرتكزات الفقه والأصول الوجوديّة، والمعرفية، والإنسانية، والدينية، والمنهجية والاستدلالية، فضلاً عن المواضيع ذات الصلة بكلٍّ من معرفة الحكم والموضوع والآفات في عملية الاستنباط.
بناء على ما تقدّم، علينا أن نُخضِع المباحث المطروحة بشكل عامٍ في العلوم المنهجيّة الدينية – كأصول الفقه، والمنطق، وعلم التفسير ومناهجه، وعلم الحديث إلى عملية تقویم؛ بهدف استنباط مبادئ فهم الدين وضوابطه وقواعده ومقارباته ومناهجه، وتسليط الضوء على حالات القصور التي تعاني منها مناهج التفسير، واستخراج أساليب لتمييز الغَثِّ من السمين في الاستنباطات الدينيّة، وعرضها وتنسيقها وإكمالها بوصفها حقلاً معرفيّاً، وربّما فرعاً علمياً مستقلاً.
أما في مجال فهم الدين، فثمّة كثيرٌ من الأسئلة التي تنتظر الإجابة، من قبيل:
هل الدّين قابل للفهم؟
وإذا كان كذلك، فهل هو منهجيٌّ؟ في حال كان الدين منطقيّاً، ما هي عوامل تحوّلاته وعلل تفريعاته؟ وهل الدين قابل للقراءة؟ وإذا لم يكن قابلاً للقراءة، في الفرق بين قابلية القراءة وتنوع الآراء الدينيّة؟ وكيف يمكننا تمييز الفهم الصحيح من الفهم السقيم؟
تلك الأسئلة تفرض تأسیس حقلٍ معرفيٍّ، يمكن أن نطلق عليه اسم «علم منطق فهم الدين»، الذي بات يشكّل حاجة ضرورية بالنسبة إلى الاجتهاد والتَّفقه في الدين، ويحتاج إلى بناء مشروع مفضل ودقيق في واقعنا المعاصر.
المصدر: مقتطف من مقالة بعنوان: الاجتهاد والتفقه في الدين؛ قراءة تقويمية تطورية. للأستاذ الشيخ علي أكبر رشاد مجلة: الاجتهاد المعاصر العدد الأول الصفحة: 15.
تحميل العدد