خاص الاجتهاد: ان الفقيه حينما يصوغ نتيجة فقهية معينة فهو يعالجها منفصلة عن لوازمها الاخرى سواء كانت تلك اللوازم سلبية او ايجابية وذلك لان الصناعة الفقهية من حيث التنظير والاستدلال هي صناعة تجريدية تتجرد عن معطيات الواقع ومحتفات المسألة الاخرى. اما من حيث العمل فانها تحاول ان تقدم النتيجة عبارة عن سلسلة متكاملة من المسائل لايمكن فهم كامل النتيجة بالركون الى مسألة دون فهم المسألة الاخرى في سياق نفس الموضوع. بقلم/ الشيخ عدنان الحساني
القصور والصغر وصغرى .. النزاع اللفظي
اذا اردنا تحرير وجه المدافعة بين ما عليه الفهم الاسلامي للقصور وبين الفهم المعاصر فان الفهم الاسلامي يضع محددات وعناصر وعلامات. هذه العلامات هي المحدد الثابت الذي ينضبط من خلاله انطباق المصداق على المفهوم.
اما محدد العمر بالسنوات فهو عنصر تقريبي لايدخل كمحدد ثابت – طبعا هناك من الفقهاء من يذهب الى المحدد العمري الا اني كباحث اميل الى محدد الامارات – لذلك تجد ان الروايات تختلف من واحدة الى اخرى حول مقدار العمر المناسب للزواج: منها من تقول ثمانية ومنها تسعة وهي الاشهر ومنها اقل او اكثر..
اما الفهم المعاصر والذي يبني اراءه وفق مجمل القوانين الوضعية المتبعة فهو يجعل من العمر محددا رئيسيا في تقنين مقتضى الانطباق بين المفهوم والمصداق لذلك نجد ان ثمة اضطراب واضح وتباين مضطرد بين القوانين الوضعية من بلد الى اخر حول هذه المسألة فنجد ان قانون بلد ما يحدد سن أهلية الوجوب والاداء بسبع سنوات بينما في اخر يشترط في سن الاهلية ان يبلغ السادسة عشرة وهذا فارق كبير جدا ويشير الى تخبط واضح في ضبط المحددات التي يبتنى عليها تقنين التشريعات ومتابعة الاجراءات المدنية…
مع ان مصطلح القصور ليست له دلالة ثابتة مع اختلاف المرجعيات الاصطلاحية من جهة وفقدان التوافق على تحديده كمصطلح مرجعي لمثل هذه الاشكالية من جهة اخرى. ففي حين يتخذ مصطلح القاصر مرجعية مفتاحية اساسية في القانون الوضعي نجد انه قليل الاستعمال في النصوص الشرعية حيث استعيض عنه بمصطلح الصغير والصغيرة, الصبي والصبية, المميز, غير البالغ, الطفل, الحدث, وغيرها..
من هنا فان الاشكال الذي يتوجه من قبل اصحاب الفهم المعاصر على بعض الاحكام الشرعية يفتقد محدداته الاصطلاحية لانهم يفهمون من القصور معاني قد تخالف محدداتها التجليات الواقعية للمصطلح عند اهل الشريعة خصوصا وان القانون الوضعي لايستخدم المصطلحات ذات الدلالة الضدية او النقضية والتي تحدد مرادات الشريعة على الصغر والتي يستخدمها النص الشرعي من قبيل البلوغ وعدمه والرشد وعدمه والتمييز وعدمه
بل ان القانون يقف على مقتضيات التحمل والاهلية وهذه المقتضيات دلالتها عى القدرة الجسدية اكثر من دلالتها على القدرة الادراكية والعقلية على خلاف فهم الشريعة ومحدداتها الاصطلاحية حيث تقف من اول الامر على مقتضيات النضوج والادراك العقلي فضلا عن التحمل والاهلية الجسدية لذلك نجد ان الشريعة لاتعتني بالمحدد العمري اكثر من المحدد العقلي حيث ان التمييز وعلامات البلوغ هي التي تعين مديات تطور الصغير وبالتالي خضوعه للتكاليف المنوطة بذلك التطور..
تحقيق مناط البحث حول العقود بين زمان العقد وزمان الدخول
حينما يثار تساؤل حول نظرة المشرع الاسلامي للسن التي تناسب الاهلية التكوينية للمراة في تحقق مقتضيات الاستحقاقات الجسدية والغريزية، فان هذه الاثارة مجرد اقتفاء لظواهر النص او بالاحرى لظواهر احد وجوه تفسير النص الاصلي وذلك لان اصحاب مثل هذه الاثارة انما صاغوا انتقادهم استنادا الى ماوجدوه في كتب الاحكام الشرعية الجاهزة للعمل بمقتضاها.
في حين ان ثمة معطيات وابعاد وتفسيرات اخرى لها مدخلية في مزايلة هذه الاثارة ..فان الفقيه حينما يصوغ نتيجة فقهية معينة فهو يعالجها منفصلة عن لوازمها الاخرى سواء كانت تلك اللوازم سلبية او ايجابية وذلك لان الصناعة الفقهية من حيث التنظير والاستدلال هي صناعة تجريدية تتجرد عن معطيات الواقع ومحتفات المسألة الاخرى
اما من حيث العمل فانها تحاول ان تقدم النتيجة عبارة عن سلسلة متكاملة من المسائل لايمكن فهم كامل النتيجة بالركون الى مسألة دون فهم المسألة الاخرى في سياق نفس الموضوع. فانت حينما تريد ان تفهم نظرة الشريعة او الفقيه الى مسألة (اولياء العقد) مثلا لايمكنك ان تأخذ مسألة واحدة منفردة وترتب على الشيء مقتضاه مالم تجمع اجزاء الصورة الاخرى من خلال تتبع المسائل المرتبطة بنفس الموضوع
زواج القاصرة ومقتضيات التفويض الوضعي (التكويني) لولاية الاب
حينما ابرزت الشريعة مدخلية ولاية الأب في ادارة ملكية الطفل وتصرفاته فهذا الابراز في حقيقته توصيف تكويني وصياغة تنظيمية لمبرز عقلائي وارشاد الى مقتضى الطبع وليس تشريعا ولويا وهذا التوصيف شبيه مافي قوله تعالى: (وحرمنا عليه المراضع من قبل) فهذا توصيف تكويني وارشاد موسى ع تكوينيا لامتناعه عن الارتضاع من غير امه.. وذلك باعتبار ان الاب له استحقاقات تكوينية ثابتة حينها لاينظر المشرع الى حسن تدبير الاب او سوء تدبيره في ادارة هذه الولاية مادامت وظيفة الشارع وظيفة توصيفية لا تقنينية
فالشارع مثلا يسلط الناس على اموالهم بشكل عام فتصرفهم المباح وان كان مكروها في بعض صوره لدى الشارع الا انه يقره بشكل عام كذلك مسألة تجويز الاب لاجراء العقد على ابنته القاصر او الصغيرة وان كان قد يكون مكروها لدى الشارع الا انه يبقى من مقتضيات استحقاقات الاب التكوينية الوضعية للولاية.
ولكن مع ذلك فان للشارع السلطة الاعلى في فض التداخل الذي قد يقع بين صلاحيات الولاية الوضعية للاب وبين المصلحة الواقعية للفتاة مادام الشارع هو الذي بيده حق التفويض والاقرار لحدود هذه الولاية فتسقط ولاية الاب في التصرفات المحرمة الصريحة كتزويجها من احد محارمها نسبا وسببا او من كافر او تزويجها بالاكراه القسري ..والخ, وذلك لان هذه التصرفات فضلا عن مخالفتها لصريح الشريعة فهي مخالفة لطبائع التكوين والفطرة اما بالنظر الى امكانية تزويجها كصغيرة فيعبر عن قصور في تتميم المقتضيات التكوينية وليس مخالفة فاحشة لطبيعة الولاية التكوينية للاب شبيه كراهة الشريعة لبيع الثمار قبل نضوجها كالتمر والعنب وماسواهما..
ولكن تبقى الولاية على الأبناء القاصرين – ذكوراً أو إناثاً- هي صيغة عقلائية تنظيمية لشأن تكويني أقرها التشريع الإسلامي كما اسلفنا سابقا كونها تهدف إلى حماية الأولاد القاصرين ورعاية شؤونهم وتربيتهم والعمل لما فيه صلاحهم على كافة الأصعدة، والولاية بهذا المعنى تدور مدار المصلحة وليست سلطة مطلقة ولا يُسمح للولي باستغلال الولاية في غير صالح المولى عليه، وهو مايطلق عليه في الفقه الاسلامي بالعضل اي ان لا يستثمرها استثمارا سيئا يؤدي إلى ظلمه والاضرار به أو أكل أمواله بغير حق، وإذا فعل شيئا من ذلك فإنّ ولايته تسقط وتفقد مبررها الشرعي والأخلاقي.
ومثل هذه الولاية لا تبيح ما هو حرام في أصل التشريع ، بل لا بد أن تتحرك تحت سقف الشرع الحنيف، وبالتالي فان مخالفة هذه السقوف يؤدي الى اسقاط هذه الولاية والغاء العمل بمقتضاها…..
ولكن هل يكفي في اقرار الشارع ولاية الاب على القاصر ان تكون خالية من المفسدة والعضل ام ثمة شروط اخرى حتى تستوفي هذه الولاية كامل صلاحياتها؟.
قطعا إنّ تصرف الولي مهما كان منسجما من حيث التقليد مع الراي الفقهي الذي يتبعه فلا يكفي في مشروعيته ونفوذه خلوه من المفسدة، بل هو مشروط بأن يكون فيه مصلحة للمولَّى عليه،{ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير}البقرة 220 )، وذلك ان الفقيه حينما يعطي لتلك الولاية توصيفها المناسب قد لايتدخل في ابراز التحولات الموضوعية المتحركة للمصلحة التي تناسب مدخلية الزمان والمكان والظروف الاجتماعية وان ذهب بعض الفقهاء الى معالجة بعض المشاكل التي تعترض تطبيقات بعض الاحكام الى مدخلية الزمان والمكان في منجزية تلك الاحكام ولو مؤقتا وهذا لايتسنى الا لمن يذهب الى تعميم الصلاحيات الولوية للفقيه وهم اصحاب نظرية ولاية الفقيه العامة…
وقضية المصلحة أوحتى عدم المفسدة ذات مفاعيل متحولة ويدخل فيها عناصر جديدة تفرضها حركة الاجتماع الإنساني ومقتضيات الزمان والمكان وما تفرضه من تغيرات على هذا الصعيد، ومسألة اختيار الزوج أوالزوجة وصفات كل منهما العمرية أو الجمالية أوغيرها هي من المسائل المتحركة والمتغيرة وبالتالي فان الجمود على حرفية النصوص لايعطي للشريعة روح الحركة والتشكل مع مقتضيات الزمان والمكان …..
لذلك كان الشارع المقدس دقيقا في توصيف ولاية الاب …حين ان منظور الشارع في اجراء هذه الولاية ليس تقييد الحريات الانسانية والشخصية كما هو مظنون اصحاب الفهم المعاصر بل لان الصغيرة او غير الرشيدة قليلة الخبرة والادراك لشؤون الحياة وموافقة اختياراتها مع مقتضيات ماهو اصلح وماهو انسب كان لابد من متمم لولايتها على نفسها
اذ ان ولاية الاب كما قلنا ليست مطلقة وانما هي متممة لولاية البنت على نفسها وهو ماصرحت به نصوص النتائج الاستدلالية للاحكام الشرعية المتعلقة بهذا الشأن حيث صرحت بأنـ ( لا ولاية للاب ولا للجد أبي الاب على الولد في عقد النكاح بعد بلوغه ورشده، ولا ولاية لهما في عقد النكاح على البالغة الرشيدة إذا كانت ثيبا واما البكر البالغة الرشيدة،
فالاقوى استقلال كل منها ومن أبيها بأمر تزويجها، فإذا زوجت هي نفسها، صح عقدها ونفذ، وان لم تستأذن أباها في اجراء العقد، سواء أجرت الصيغة بنفسها أم وكلت أحدا سواها في ذلك، وإذا زوجها أبوها نفذ تزويجه وصح وان لم يستأذن منها في اجراء العقد، والافضل بل الاحوط لكل منهما أن يستأذن الآخر إذا أراد العقد عليها.
بل يجوز للاب أن ينقض عقد البنت إذا زوجت نفسها من غير اذنه، وان كان عقدها صحيحا في نفسه كما ذكرنا، وكل هذا مع مراعاة الشروط في ولاية الاب عليها وسيأتي بيان ذلك) .
اذن فالولاية تتميمية وليست مستقلة وبذلك يندفع اشكال الضغط او الاجحاف او العضل فالانسان يختار بمقتضى حريته ولاشك ان الصغيرة انسانة تمتلك حرية وان كانت منقوصة في اختيارها بل ان حريتها كاملة لكنها معلقة في بعض الاحيان على الاجازة بعد اتمام مراحل ادراكها العمري بمعنى ان اباها لو عقدها لشخص لايمكن ان يدخل ذلك العقد مرحلة الفعلية من دون اجازتها المستقبلية لذلك صرحت النصوص بسقوط هذه الولاية اذا تصادمت مع مقتضيات حريتها في الاختيار، حيث جاء فيها:
(إذا منع الاب بنته البكر البالغة الرشيدة من التزويج بالكفؤ مع رغبتها بالزواج منه، سقطت ولايته عليها، فإذا زوجت نفسها منه بغير اذن الاب وقد منعها من ذلك، صح زواجها منه، وليس للاب أن ينقض عقدها الذي أوقعته أو أوقعه وكيلها. وسقوط ولاية الاب في هذا المورد لا يعني سقوط ولايته في غيره، فإذا لم تتزوج البنت من ذلك الرجل ثم زوجت نفسها من رجل آخر ليس بكفؤ، صح للاب أن ينقض عقدها) .