لم يكن آل أحمد متفائلا، بسبب عدم وعي الكثير من الحجاج للأبعاد العميقة لهذه التجربة الروحية، ذلك ان الأمية والجهل والتخلف وقتئذ، لدى أعداد كبيرة من الحجاج، وعدم توفرهم على ثقافة مناسبة، واستغراقهم في الاطار الشكلي للطقوس، حجبهم عن وعي اهداف المناسك، وادراك مقاصد الحج، واستلهام الآثار التربوية الهامة للحضور في المشاعر.
الاجتهاد: تعد رحلة جلال آل أحمد الى الحج الموسومة «قشة في الميقات» واحدة من اثمن آداب الرحلة للحج. وتكتسب هذه الرحلة اهميتها من أن كاتبها من أبرز رواد القصة في الأدب الفارسي الحديث, مضافا الى انه ناقد, ومفكر, وسياسي, ورحالة, ومثقف متمرد.
وقد اختار جلال آل احمد الذهاب الى الحج مع القوافل الشعبية الفقيرة, فكان حجه يماثل حج المتسكع, كما تفصح عنه مذكراته بالنسبة الى نوع الطعام, والمساكن, ووسائط النقل, وطبيعة المرافقين في الرحلة. وهو اختيار لم يكن عشوائيا فيما اظن, ذلك انه اراد ان يعيش الصورة الحقيقية لهذه الرحلة, بعيدا عن التشريفات التي تخلعها على منتسبيها بعض القوافل المترفة, او بعض الوفود والبعثات الرسمية.
اخال ان آل أحمد كان بإمكانه السفر مع قافلة مرفهة، يتبوأ فيها مكانة تمنحه امتيازات مادية ومعنوية تحافظ على مقامه، لأنه كان ينال مكافآت على كتاباته، مضافا إلى مرتبه الشهري، لكنه آثر ان يرافق قافلة شعبية ذات امتيازات متواضعة كي يلامس عن قرب مشاعر الناس، ويتحسس حياتهم عن كثب، مثلما تكلم عن ذلك فيما كتب في هذه الرحلة مشيرا الى ضرورة اقتراب المفكر من هموم الناس، وقضاياهم عبر معايشتهم.
وكانت هذه عادته في السفر والتجوال بين المدن الايرانية، اذ يسافر مع الناس في وسائط النقل العام، فينفتح على خفايا حياتهم عن قرب، ويندمج في آلامهم المختلفة، ويتعرف على طبيعة تفكيرهم، وتطلعاتهم، وأحلامهم، ورؤيتهم للواقع، ومايضج به من متاعب، ومشكلات متنوعة.
ان هذه الرحلة منحت آل أحمد فرصة مهمة لإعادة اكتشاف طبيعة العلاقات السائدة بين عامة الناس، ونمط وعيهم وتفسيراتهم للظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ورؤيتهم الكونية، وطقوسهم، ولذلك كان يهتم بملاحقة كل صغيرة وكبيرة في أحاديث المرافقين في القافلة، وحالاتهم في ساعات الراحة والسكينة، والاضطراب والتوتر.
ومن ثم تبدو هذه الرحلة مناسبة عزيزة في حياة آل أحمد للفرار من عوالم النخبة ومشاغلها، والعيش مع عامة الناس، والالتصاق بحياتهم، تلك الحياة الزاخرة بالبساطة، والعفوية، والبراءة، المشابهة للبداوة، أو القريبة من الأشكال البدائية، وهي اشكال مافتئ آل أحمد شغوفا بالعودة اليها، لأنه كان يمقت كل الاساليب الحديثة التي اكتسحتها.
ولم تقتصر مطامح آل أحمد في رحلته على الملاحظات العابرة، والانطباعات العاجلة، وانما كان يسعى للتوغل في الأبعاد الخفية لما يراه من ظواهر، ويعمل على تحليلها، من أجل اكتشاف مضمراتها، وما لاتقوله من نزعات بشرية، وما يدخل في تشكيلها من عناصر ثقافية.
انه يحاول ان يسجل ملاحظاته من منظور باحث انثربولوجي، ولذلك يمكن ان تُصنف هذه المذكرات كوثيقة انثربولوجية، لدارس مهتم بالتعرف على طبائع المجتمعات الاسلامية، وانماط ثقافاتها، من خلال معايشة الجماعات الوافدة للحج من تلك المجتمعات، والاختلاط بمن يلتقيه منهم، والمبادرة بسؤاله، بما يتقنه من العربية أو الانجليزية.
تشتمل هذه الرحلة على معلومات تاريخية هامة، ذلك ان مؤلفها كان يدوّن ما يشاهده، من عمارة البيت الحرام، والجغرافيا السكانية والعمرانية لمكة المكرمة والمدينة المنورة، والاسواق والمتاجر، والشوارع، وعربات النقل، والمناسك، في عرفات، ومزدلفة، ومنى، واشكال مخيمات الحجاج فيها، بل حرص على تقديم احصائيات رقمية لأعداد الوافدين الى الحج في ذلك العام، وجنسياتهم. وهي ارقام استقاها من الصحافة الصادرة وقتئذ، لأن آل أحمد كان مواظبا على مطالعة الصحف اليومية في الديار المقدسة، وربما استقاها ايضا من اسئلته المتنوعة للأشخاص الذين يلتقيهم، حين يستقل وسائط النقل، أو يتجول في الأسواق، أو اثناء اداء المناسك، وزيارة المشاهد المشرفة.
وقد ظل يواظب على تسجيل ملاحظاته في دفتر يصطحبه حيثما كان؛ في محل الاقامة، وفي السيارة، وفي المناسك، وحتى في مواطن الانتظار، في المطار, وغيره.
تصنف رحلة آل أحمد الى البيت الحرام من النصوص الأدبية الفريدة المدونة باللغة الفارسية في العصر الحديث، لأن نصه يوظّف الموروث الحكائي، والفلكلور، والسخرية، ويبدع في صياغة نموذج مميز للسرد.
ويذهب بعض النقاد الى ان اسلوب جلال طوّر الأدب الفارسي، لأنه يصوغ عباراته ببيان يمزج فيه بين اللهجة الدارجة واللغة الفصيحة، وتتشكل نصوصه من جمل قصيرة، واحيانا لا تحتوي الجملة التي يصوغها على فعل في تركيبها، ومع ذلك تعبر عن معناها بوضوح.
وقد حاول بعض الادباء تقليده واستعارة تقنياته في السرد، ومحاكاته فيما كتب، بنحو بات اسلوب آل أحمد أحد النماذج الشهيرة في الأدب الفارسي الحديث.
وتجلى هذا الأسلوب كأروع مايتجلى في «قشة في الميقات»، بوصفه من النصوص الأخيرة التي كتبها جلال قبل وفاته بسنوات، مضافا الى انه كتبها في ظروف خاصة، مر خلالها بحالات قبض وبسط روحي، ولحظات انفعال، وتوتر، وضراوة، ولحظات استرخاء، وهدوء، وانشراح. وكل حالة ولحظة من تلك الحالات واللحظات تثير لديه شتى الهواجس،
وتستدعي في وجدانه مختلف الايحاءات والصور. والى ذلك يعود تميز اسلوبه وفرادته في هذه الرحلة، فهو يتألق في مواضع عديدة، فيرتقي الى الشعر المنثور، أو قصيدة النثر، حسب مصطلح النقد الادبي اليوم.
ليست يوميات آل أحمد تأملات في استجلاء الأبعاد التربوية لعبادة الحج، واستيحاء فلسفة كل واحد من المناسك، كما فعل بعض الذين كتبوا عن الحج، لأن آل أحمد أراد لمذكراته ان تتدفق بعفوية، وتجري بتلقائية، لاتتقيد بترسيمات وحدود مسبقة، بل تواكب حركة الحاج، وأحداث الرحلة اليومية الشديدة الغنى والتنوع، فهي تضم رؤى انثربولوجية، ورصد ظواهر اقتصادية، وتحليلات سياسية، وطرائف ادبية، ونقداً ساخراً، ومعلومات تاريخية، وجغرافية،…وغير ذلك.
لكن رحلة آل أحمد توهجت فيها ومضات، تحدثت عن فلسفة لبعض المناسك، كشذرات رصعت عباراته، خاصة في المواضع التي كان يكتب فيها مذكراته في الأيام التي امضاها في بقاع المناسك؛ في عرفات، والمشعر الحرام، ومنى، أو اثناء اداء الطواف في البيت الحرام، والسعي بين الصفا والمروة.
ولا أريد ان ابالغ لو قلت: على الرغم من مطالعتي لمجموعة من رحلات الحج المعروفة، وتشرفي بأداء الحج والعمرة عدة مرات، فإني وجدت نفسي مع «قشة في الميقات» انبسط حيث ينبسط جلال، وانقبض حيث ينقبض، واعيش في خيالي حالاته وأحاسيسه، في السعي والطواف، وكأني اواكبه في خطواته، واتماهى مع مشاعره، فأرى مايرى، وارتشف مايرتشف، واتحسس خطواته، واستمع الى ابتهالاته واستغاثاته، واذكاره.
وعندما كنت أقرأ حالاته، اتعطش بوجد وشوق الى البيت الحرام، والمناسك المقدسة، واتمنى ان اتمثل تلك الحالات والابتهالات، بل اتمنى ان يطالع الحجاج والمعتمرون رحلة آل أحمد، لينفتحوا على ماتختزنه المناسك من منابع للإلهام الروحي والتربوي، وليغدو الحج مناسبة استثنائية لإعادة بناء الشخصية المسلمة، وإعدادها أخلاقيا ومعنويا، لتجسيد رسالة الاسلام في الحياة، ومن ثم تجسيد التسامح، وقبول الآخر، والأمن والسلام.
لقد كان علي شريعتي شديد الاعجاب برحلة جلال هذه، وكان يأمل ان يرافقه مرة أخرى إلى الحج سنة 1969، لكن آل أحمد التحق بالرفيق الاعلى قبل ان تتحقق أُمنية صديقه شريعتي، وعندما ذهب الأخير للحج في ذلك العام كان يقول: «ان اطياف آل أحمد مالبثت ترافقني في كل مكان، كنا نؤدي المناسك معا، لكن لا أدري لماذا وجدته في السعي اكثر حضورا من أي مكان آخر.
ان اشعة حضوره ظلت ساطعة.كنت أسمع صوت أقدامه،كان يهرول مسرعا. كنت اتحسس زفير انفاسه كزفير انفاس عاشق.كنت أهرول مع جموع الناس، غير اني كنت اعانقه حيثما اذهب. ما انفك يهرول معي. أراه كالصخرة المتدحرجة من جبل الصفا. هكذا اندمج مع البشر، كنت اسمعه وأراه كالحلاج، حينما كان يضرب رأسه بعمود الاسمنت، وهو يصرخ بالناس: انما اضربه لصلابته وعصيانه. لماذا رأيته في السعي اكثر من أي مشعر آخر؟ لأنه تفاعل في حجه بالسعي أشد من أي منسك سواه. هكذا قرأته في رحلته الى الحج. أظن ان عمره يشبه السعي. كان كالعطشان الذي يلهث وراء الماء لاسماعيل الظامئ في الصحراء. كان عدوه في الصحراء بمثابة السعي…».
لم يكن آل أحمد متفائلا، بسبب عدم وعي الكثير من الحجاج للأبعاد العميقة لهذه التجربة الروحية، ذلك ان الأمية والجهل والتخلف وقتئذ، لدى أعداد كبيرة من الحجاج، وعدم توفرهم على ثقافة مناسبة، واستغراقهم في الاطار الشكلي للطقوس، حجبهم عن وعي اهداف المناسك، وادراك مقاصد الحج، واستلهام الآثار التربوية الهامة للحضور في المشاعر.