تاريخ الفقه الإسلامي

تاريخ الفقه الإسلامي: النشأة والتطور / بقلم: فاطمة حافظ

الاجتهاد: شهدت المكتبة العربية في أوائل القرن الماضي ظهور لون جديد من التأليف الفقهي يختص بدراسة تاريخ الفقه الإسلامي نشأته وأدواره ومدارسه المختلفة، وهو لون محدث لا نجد له نظيرا لدى القدماء الذين لم يغفلوا عن التأريخ للفقه الإسلامي لكنهم لم يفردوا له مؤلفات مخصوصة،

وإنما جاء منثورا في كتبهم ومصنفاتهم على اختلافها وخصوصا في كتب: مناقب الأئمة وأخبارهم وفضائلهم، وكتب الطبقات والتراجم، وكتب المذهب التي ألفها أنصار كل مذهب للذب عن مذاهبهم في مواجهة المذاهب الأخرى، وكتب الفهارس والبرامج والأثبات والمعاجم، وهي جميعا تتطرق إلى تاريخ الفقه تبعًا ولم تقصده قصدًا،

وتعالج مسائل جزئية ولا تقدم إطارا شموليًا يبين المراحل التي مر بها الفقه، وربما يرجع ذلك إلى أن المسلمين حتى عهد قريب لم يعرفوا فكرة التأريخ للعلوم، كل علم على حدة.

نشأة علم تاريخ الفقه

عني المستشرقون الغربيون منذ وقت مبكر بدراسة الفقه الإسلامي ونشأته وتطوره، وكتبوا في ذلك كتابات كثيرة يمكن اعتبارها اللبنات الأولى للتأسيس لعلم تاريخ الفقه،

ومن أبرز المستشرقين الذين أهتموا بذلك المستشرق الألماني إدوارد سخاو (ت: 1930) في بحثه (أقدم تاريخ للفقه الإسلامي) الصادر في فيينا عام 1870، والمستشرق المجري جولد تسيهر (ت: 1921) في بحوث ثلاثة له: أهل الظاهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، مادة فقه في دائرة المعارف الإسلامية، وألويس شبرنجر (ت:1893) في كتابه (مخطط تاريخ تطور الشرع الإسلامي)، ومارجليوث (ت: 1940) في كتابه (التطور المبكر للمحمدية)

وجوزيف شاخت (ت: 1969) في محاضراته التي نشرها بمجلة المشرق عام 1935 حول (تاريخ الفقه الإسلامي). وغالب هذه المؤلفات ينحو إلى الربط بين التشريع الإسلامي وبين القانون الروماني والزعم أن المسلمين تأثروا به بعد فتحهم لبعض البلدان الخاضعة للحكم الروماني، وإلى الادعاء بأن الفقه الإسلامي هو محصلة تطور تاريخي ولا يمت بمصدر إلهي.

أما على الصعيد الإسلامي فترجح المصادر التاريخية أن محمد الحسن الحجوي الثعالبي (ت: 1956) هو أول من صنف في هذا العلم باللغة العربية وذلك في كتابه (الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي) الذي نشر أولا في هيئة مقالات نشرت تباعا عام 1918، وتبعه الشيخ محمد الخضري بك في كتابه (تاريخ التشريع الإسلامي) الصادر في عام 1920،

وتوالت بعدهما الكتابات ومنها: (خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي) للشيخ عبد الوهاب خلاف (ت: 1956)، ومحاضرات في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد يوسف موسى (ت:1963)، والمدخل لدراسة الفقه الإسلامي لمحمد مصطفى شلبي (ت:1997)، وقد كثر التأليف فيه بين المعاصرين[1] لأنه صار مادة تُدرس في كليات الشريعة والقانون فألف فيه بوفرة واستقرت مناهجه وموضوعاته[2].

المصنفات التأسيسية والموضوعات

كان للكتابات الأولى في تاريخ الفقه أثر ظاهر في الكتابات اللاحقة حتى ليمكن القول أن المصنفات الأخيرة تقتفي نهج المصنفات الأولى مع إضافات يسيرة،

وفيما يأتي نقدم بيانا بأهم الكتابات التي أرست موضوعات ومناهج علم تاريخ الفقه، وهي كالآتي:

الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي للحجوي (1918)، وهو أول ما صنف في هذا العلم، وكان الباعث على كتابته سؤال يسأل فيه صاحبه عن كيفية نشأة الفقه الإسلامي إلى أن صار على ما هو عليه الآن فأجابه الحجوي بسلسلة محاضرات ألقاها في نادي الخطابة الأدبي بالمدرسة الثانوية بفاس في فبراير 1918[3]،

ثم فكر في جمعها في كتاب وزاد عليها حتى بلغت صفحاته ألف صفحة، وقد قوبل الكتاب بترحاب واسع في حينه فقال فيه الطاهر بن عاشور: رأيت منه ما لا يأتي مثله إلا لعالم في الشريعة، وقال فيه الشيخ بن باديس: وإن كتابكم هذا هو أساس النهضة الفقهية في جامع القرويين المعمور[4].

وعلى أي حال فإن عمل الحجوي لم يخل من انتقادات، منها خروجه عن موضوع البحث أحيانا، وتقسيمه أطوار الفقه الإسلامي إلى طور الطفولية وطور الشباب وطور الكهولة وطور الشيخوخة، إذ لا يصح وصف الفقه بالطفولة، ويبدو تأصره في هذا التقسيم بابن خلدون الذي قاس أطوار الأمم والحضارات على أطوار الإنسان.

تاريخ التشريع الاسلامي للخضري (1920)، وهو أحد أهم الكتابات في تاريخ الفقه وأكثرها نضجا واكتمالا، ومن الواضح أن الشيخ الخضري لم يكن يعلم بأمر كتاب الحجوي ولم يطلع عليه، إذ يذكر في مقدمته: أنه لم يحذ في كتابه حذو أحد سبقه في موضوعه،

ثم أضاف أنه تأمل تاريخ الفقه الإسلامي فوجدها ستة أدوار لكل منها طابع خاص وهي؛ التشريع في عهد النبي، ثم عهد كبار الصحابة، ثم عهد صغار الصحابة والتابعين، والتشريع في العهد الذي صار فيه الفقه علما من العلوم ويمتد من أوائل القرن الثاني إلى نهاية القرن الثالث،

والتشريع في عهد المسائل الفقهية والجدل وظهور المسائل الكثيرة وينتهي بسقوط بغداد وبعد ذلك بقليل في مصر، وأخيرا التشريع في عهد التقليد المحض ويمتد إلى العصر الراهن[5]، وفي جميع هذه الأدوار كان الخضري يفتتح بذكر الحالة السياسية لكل عهد ويعقب بذكر أهم الفقهاء الذين أثروا الحركة الفقهية.

محاضرات في تاريخ الفقه الإسلامي ليوسف موسى (1954)، وهو سلسلة محاضرات ألقاها محمد يوسف موسى على طلبة معهد الدراسات العربية، رغم تأخره الزمني إلا أننا نعده من المصنفات التأسيسية المهمة، وقد اختط فيه مؤلفه منهجا خاصا إذ قسم تاريخ الفقه إلى دورين أساسيين،

دور الصحابة والتابعين، ودور نشأة المذاهب الفقهية، وآثر النهج الموضوعي فقدم دراسة تاريخية تحليلية للفقه تخلو من التراجم- خلافا للحجوي والخضري-، وتجنب ذكر الحوادث السياسية وتأثيرتها على الحركة الفقهية، ويميزه كذلك اطلاعه على المنتج الاستشراقي بلغته الأجنبية، وتقديمه انتقادات لبعض الأفكار التي روج لها سخاو وجولد تسيهر بشأن نشأة الفقه الإسلامي[6].

وعلى أي حال فقد رسخ علم تاريخ الفقه في عصرنا الراهن، واستقرت مناهجه وموضوعاته وتقسيماته، إذ يبدو جليا أن تقسيم الشيخ الخضري بات هو التقسيم المتبع لدى الفقهاء المعاصرين،

وبصفة إجمالية فإن موضوعات تاريخ الفقه تتضمن المسائل الآتية:

-معنى الشريعة والفقه، وحاجة الناس إلى التشريع، وخصائص التشريع الإسلامي.

-التشريع في مرحلة ما الإسلام.

-التشريع في عصر الرسالة، ويتضمن أصول التشريع الإسلامي ومصادره وأساليبه.

-التطور الفقهي والتشريعي في عهد الخلفاء الراشدين، ويتضمن طرائق الخلفاء في استنباط الأحكام الشرعية، ونماذج من اجتهاداتهم مع التركيز بوجه خاص على اجتهادات عمر رضي الله عنه.

-الفقه في عصر التابعين وبداية ظهور المذاهب الفقهية في الحجاز والعراق، وبداية تدوين السنة.

-الفقه في عصر ترسخ المذاهب الفقهية، ونشاط حركة التأليف الفقهي، وتبلور المنهجيات وظهور الاصطلاحات الفقهية.

-الفقه في العصر الحديث، وضرورة استعادة الاجتهاد[7].

وبالجملة؛ يمكن القول أن علم تاريخ الفقه نشأ في بواكير القرن الماضي، وتأسس على يد الشيخين الحجوي والخضري، وتطور على يد الفقهاء اللاحقين حتى صار علما مستقرا في مناهجه وموضوعاته.

الهوامش

[1] ممن كتب فيه من الفقهاء المعاصرين: مناع القطان، عمر سليمان الأشقر، مصطفى الزرقا، عبد الكريم زيدان، محمد سعيد رمضان البوطي وغيرهم.
[2] فهد الرومي، فقه تاريخ الفقه، بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2014، ص78-79.
3 – محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، الرباط، فاس:1340، ص1. [3] [4] فهد الرومي، المرجع السابق، ص 77.
[5] محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي، دمشق:دار الفكر، ط8، 1967،ص 3-4.
[6] محمد يوسف موسى، محاضرات في تاريخ الفقه الإسلامي، القاهرة: معهد الدراسات العربية العالية، ج1 فقه الصحابة والتابعين، ص 21-25.
[7] فهد الرومي، المرجع السابق، ص79-80.

المصدر: إسلام أون لاين

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky