الاجتهاد: لم يكن خافيًا على المجتمع الإسلامي الأول ما كان يتمتع به أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) من خصائص متفردة وإمكانات غير مسبوقة، جعلته المتصدر في الإنجاز بعد صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله)،
وكذلك قد بات جليًّا تَصدُّرُه في التثقيف النبوي كمًا ونوعًا للحدِّ التي كوَّن عند مدارك ذلك المجتمع قراءة واضحة القصد مفهومة المُراد.
ولمَّا كان المجتمع الإسلامي الأول طبقي الاعتقاد والتعبد -كما هو شأن المجتمعات في كل عصر- برزت طبقة كانت الأخطر على مُنجَز الإسلام، تلك التي امتهنت منهجية المداراة وتقبل الدين في الظاهر، وتعبَّدت في الدخيلة للمؤامرة ابتغاء منفعة شخصية غير مشروعة، مع إيمانها بأنَّ تلك المنفعة لن ترَ النور إن خُلِّيت المسيرة والتخطيط النبوي، فراهنت على أن تكون عقبة صعبة الاجتياز أمام كل ما من شأنه أن يقف في عرض طموحاتها حتى وإن أدَّى ذلك إلى أخطر التداعيات والنتائج، فخطَّطت مبكرًا وتصافق أفرادها على مصادرة مقام النبي (صلى الله عليه وآله) واقصاء أهله، بعدما فهموا كما تقدَّم قصد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المتزايد مع الزمن وضوحًا وتأكيدًا،
وهذا ما صرَّح به أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) مع أصحابه بمحضر من هذه الفئة عندما فعَّلت خطتها المُبيَّتة بعد استشهاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برواية تقول: ((فقال لهم علي (عليه السلام): لقد وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة: إن قتل الله محمدًا أو مات لتزوون هذا الأمر عنا أهل البيت، فقال أبو بكر: فما علمك بذلك؟ ما أطلعناك عليها، فقال (عليه السلام): أنت يا زبير، وأنت يا سلمان، وأنت يا أبا ذر، وأنت يا مقداد، أسألكم بالله وبالإسلام، أما سمعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول ذلك وأنتم تسمعون: (إنَّ فلانًا وفلانًا – حتى عدَّ هؤلاء الخمسة – قد كتبوا بينهم كتابًا وتعاهدوا فيه وتعاقدوا أيمانًا على ما صنعوا إن قتلت أو مت، فقالوا: اللهم نعم، قد سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول ذلك لك: إنَّهم قد تعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا، وكتبوا بينهم كتابًا إن قتلت أو مت أن يتظاهروا عليك وأن يزووا عنك هذا يا علي، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فما تأمرني إذا كان ذلك أن أفعل؟ فقال لك: إن وجدت عليهم أعوانا فجاهدهم ونابذهم، وإن أنت لم تجد أعوانًا فبايع واحقن دمك)) ([1]).
فيستبين ممَّا ذُكِر أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان مطَّلعًا على ما في سر القوم من مؤامرة دوِّنت على صحيفة مشؤومة؛ بل كان مطَّلعًا على كل أمر جال في خواطرهم واستتر في ضمائرهم، كما وقد علِم أيضًا أنَّ الأمور ستؤول إلى ما خطَّ على الصحيفة، وعلى الرغم من ذلك لم يتوانَ (صلى الله عليه وآله) عن تسليح أمته بأسباب الهداية بأكبر قدر يُتاح من بينات القول وواضحات التبليغ، وصولًا إلى الذروة عند بيان الغدير الأغر.
والغدير ذلك الحدث الأعظم في الإسلام الذي به حُدِّدت وجهة الدين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المُؤمِنَة من الضلال، وفيه كان (صلى الله عليه وآله) ملتفتًا بدقة -مستعينًا بالوحي- قبل البدء بمراسيم ذلك البيان إلى كل تفصيل يقع في طول إغنائه وإحكامه من قرائن حال ومقال، مسقطًا سلفًا كل التجاذبات والتأويلات التي يمكن أن يُتَشدَّق بها لاحقًا على حرف المعنى عن وجهة قصده المتعينة، فما أن يلوح تأويلٌ غير مقصود للنبي (صلى الله عليه وآله)، إلَّا وترى النبي قد أبطله سلفًا قبل أن ينفثه الشيطان في صدر متبنيه، وبالإفادة من العنايات النبوية المتعددة المرفقة مع التبليغ، سيتعيَّن مرادًا إلهيًا نبويًا واحدًا وستنتفي موضوعة الشك والتأويل، والجدير بالذكر أنَّ جلَّ تأويلات بيان الغدير سقطات تبناها المتأخرون ليصحِّحوا موقف سلفهم ويلمعوا عدالتهم المزعومة.
فالغدير محطة توسطت بين مرحلتين: هما مرحلة التخطيط والتآمر من جهة ومرحلة التنفيذ من جهة أُخرى، فكانت إنذارًا نهائيًا وتنبيهًا مؤكدًا للمتآمرين أصحاب الصحيفة، ثم حجة بالغة عليهم وهم يتجاوزون واعيتها منفذين مؤامرتهم المشؤومة في يوم السقيفة، وعن متانة حجية الغدير وإعجاز تبليغه، ما ورد عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): ((يا معاشر المهاجرين والأنصار، الله الله لا تنسوا عهد نبيّكم إليكم في أمري (صلى الله عليه وآله)، ولا تخرجوا سلطان محمد من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم… فقال بشير بن سعد الأنصاري الذي وطّأ الأرض لأبي بكر، وقالت جماعة من الأنصار: يا أبا الحسن، لو كان هذا الأمر سمعته منك الأنصار قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف فيك اثنان، فقال عليّ (عليه السلام): يا هؤلاء؛ أكنت أدع رسول الله مسجّى لا أُواريه وأخرج أُنازع في سلطانه؟ والله ما خفت أحداً يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه، ويستحلّ ما استحللتموه، ولا علمت أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ترك يوم غدير خمّ لأحد حجّة، ولا لقائل مقالاً)) ([2])، وأيضًا عن الزهراء (صلوات الله عليها) حين قال لها الأنصار: ((يا بنت محمّد، لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر ما عدلنا بعليّ أحدًا، فقالت: وهل ترك أبي يوم غدير خمّ لأحد عذرًا؟)) ([3])، يضاف إلى متانة بيان الغدير حجيةً؛ كثرة ناقليه من الصحابة فكان متواترًا متعدد الطرق مفيدًا للقطع، وقد عدَّ طرق حديث الغدير غير واحد؛ فقال بعضهم أنَّها خمسة وسبعين طريقًا، وبعض عدَّها مائة وخمس طرق، وبعض مائة وخمسين طريقًا([4])، وقد ذكر هذا الحديث الشريف في الكتب المهمة لأهل العامة، وكان ممَّن أورده منهم أحمد بن حنبل في فضائله فقال: ((عَنْ أَبِي لَيْلَى الْكِنْدِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ يَقُولُ، وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ جِنَازَةً، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقَالَ: أَبَا عَامِرٍ، أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ لِعَلِيٍّ: ((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ))؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَبُو لَيْلَى: فَقُلْتُ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ قَالَهَا لَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ)) ([5])، والنسائي في سننه: ((عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) عَنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَنَزَلَ غَدِيرَ خُمٍّ أَمَرَ بَدَوْحَاتٍ، فَقُمِمْنَ، ثُمَّ قَالَ: كَأَنِّي قَدْ دُعِيتُ فَأَجَبْتُ، إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخِرِ: كِتَابَ اللهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا؟ فَإِنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، ثُمَّ قَالَ: ِإنَّ اللهَ مَوْلَايَ، وَأَنَا وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ وَلِيُّهُ فَهَذَا وَلِيُّهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، فَقُلْتُ لِزَيْدٍ: سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) قَالَ: مَا كَانَ فِي الدَّوْحَاتِ رَجُلٌ إِلَّا رَآهُ بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ))([6]).
ونخلص إلى القول بأنَّ بيان الغدير مَثَّل عصارة التبليغ النبوي على مدى ما يقارب العقدين والنصف من الزمن، وما زالت حجيته نقطة توقف ثم مساءلة في الطريق السالك إلى الله، الخارج منها إما إلى هدى أو ضلال.
فهنيئًا لمن اختار الهدى مخرجًا ملتزمًا سبيل نجاة قبل محطة الآخرة ومساءلتها {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر: 8).
الهوامش
[1])) كتاب سليم بن قيس، سليم بن قيس الهلالي الكوفي (ت: ق1): 154-155.
[2])) الاحتجاج، الشيخ الطبرسي (ت: 548): 1/96.
[3])) الخصال، الشيخ الصدوق (ت: 381): 173.
[4])) ينظر: الغدير، الشيخ الأميني (ت: 1392): 1/154.
[5])) فضائل الصحابة، أحمد بن حنبل (ت: 241): 2/613، ح1048.
[6])) السنن الكبرى، النسائي (ت: 303): 7/310،ح 8092.
المصدر: مؤسسة علوم نهج البلاغة