انحصار الأم النسبية بصاحبة النطفة(البويضة)

انحصار الأم النسبية بصاحبة النطفة (البويضة) / الدكتور السيد حسين الحسيني

الاجتهاد: إن الأم النسبية هي خصوص صاحبة النطفة التي لها دخالة في النشأة التكوينية لمولودها؛ فإن هذا هو المفهوم بعد التدقيق في استعمالات أهل اللغة للفظ (الوالدة)، وإن كان الانصراف الأولي يأخذ إلى استعماله في صاحبة الحمل.

إن الاستدلال على انحصار الأمّ النسبية بخصوص صاحبة النطفة، يعتمد على أمرين:

الأول: بيان أن المراد من لفظ (الوالدة) لغة هو من لها دخالة في النشأة التكوينية للولد.
الثاني: ما نستفيده من الروايات الدالة على أن نطفة المرأة – أي البويضة – هي أساس النشأة التكوينية للولد بعد تلقحها بحويمن الرجل.

أما بيان الأمر الأول، فيقول الراغب الأصفهاني: “وتولُّد الشيء من الشيء: حصوله عنه بسبب من الأسباب”(1)، فيكون بالنسبة إلى تولد الإنسان عبارة عن حصول المولود بسبب تلقح نطفة المرأة بنطفة الرجل؛ فإن هذا التلقح هو السبب في حصول العلقة ثم المضغة إلى آخر مراحل التكوين.

إذًا، الولادة أو التولد عبارة أخرى عن تلك النشأة التكوينية للولد. ومن هنا يقال: “جارية مولدة: ولدت بين العرب ونشأت مع أولادهم”(2).

والدليل على النشأة التكوينية أمور:
الأول: التبادر؛ أي انسباق الحصول التكويني دون الاعتباري عند إطلاق اللفظ، ودون خصوص ما كان عن حمْل.
الثاني: إطلاق لفظ (الوالد) على الأب بلا تكلف مع كونه ليس ذا رحم، وإطلاق لفظ (الولدان) على خَدَمة المؤمنين في الجنان مع كونهم ليسوا من رحم أصلا؛ قال تعالى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ)(3).
الثالث: ذيل الآية الثانية من سورة المجادلة، وهو قوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا)(4)؛ فإنه دال على أن الأمومة أمر حقيقي، لا مجرد اعتبار حتى تصبح الزوجة المظاهرة أمًّا بقول زوجها لها: (أنت عليَّ كظهر أمي).
هذا بالنسبة إلى الأمر الأول.

أما الأمر الثاني فقد وردت العديد من الروايات المعتبرة التي دلت على أن نطفة المرأة – أي البويضة – هي أساس النشأة التكوينية للولد بعد تلقحها بحويمن الرجل، كما دل العلم الحديث على ذلك. وبعد أن عرفت أن الوالدة هي خصوص من لها دخالة في نشأت ولدها، فتكون هذه الروايات دالة على انحصار الأم النسبية بصاحبة النطفة.

ومن هذه الروايات ما رواه الصدوق في العلل عن أمير المؤمنين ع قال: “تعتلج النطفتان في الرحم، فأيتهما كانت أكثر جاءت تشبهها، فإن كانت نطفة المرأة أكثر جاءت تشبه أخواله …”.

أما كيفية الاستدلال بهذه الرواية، فهو من خلال العبارة الأخيرة: (فإن كانت نطفة المرأة أكثر جاءت تشبه أخواله).
وتوضيحه: دلت الرواية على أن كل ولد فيه قابلية شبه وراثي بكل أخواله الذين هم إخوان صاحبة النطفة، وقد استفدنا العموم من الجمع المضاف (أخواله).

إذًا (كل خال له في مولود أخته قابلية شبه وراثي به)، وتنتج هذه الموجبة الكلية موجبة كلية أخرى بعكس نقيضها الموافق، وهي: (كل من لا يكون له في مولود أخته قابلية شبه وراثي به لا يكون خالا له). ثم وضعت هذه الكبرى في قياس من الشكل الأول، وهو:
– أخ الحامل (صاحبة الرحم دون النطفة) ليس له في مولود أخته قابلية شبه وراثي به.
– وكل من لا يكون له في مولود أخته قابلية شبه وراثي به لا يكون خالا له.
– أخ الحامل (صاحبة الرحم دون النطفة) ليس خالا لمولودها.
ولازم هذه النتيجة أن صاحبة الرحم دون النطفة ليست أمًّا لمولودها؛ لأن لازم عدم خؤولة زيد لعمرو عدمُ أمومة أخت زيد له(5).

وبعبارة أخرى: إن المفهوم لغة من لفظ (الوالدة) هي من لها دخالة في النشأة التكوينية لمولودها حصرا، وصاحبة النطفة لها هذه الدخالة دون صاحبة الرحم فحسب، فتكون صاحبة النطفة هي الوالدة حصرا.

ثم إنه من خلال استفادة حصرية الأمومة النسبية بصاحبة النطفة، وأن غيرها ليس أمًّا، يمكن تقييد إطلاقات ما دل على شمول الأم لكل من صاحبة النطفة وصاحبة الرحم؛ كقوله تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)(6)؛ فإن قوله تعالى: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) يفيد أن (كل من أولدت أمٌّ مطلقا؛ أي سواء كانت صاحبة النطفة أم صاحبة الرحم)، وهذه القضية الكلية الموجبة المطلقة تم تقييدها بقضية جزئية سالبة استفيدت من الروايات مفادها أن (ليست صاحبة الرحم أمًّا).

والنتيجة: إن الأم النسبية هي خصوص صاحبة النطفة التي لها دخالة في النشأة التكوينية لمولودها؛ فإن هذا هو المفهوم بعد التدقيق في استعمالات أهل اللغة للفظ (الوالدة)، وإن كان الانصراف الأولي يأخذ إلى استعماله في صاحبة الحمل. بالإضافة إلى الروايات المعتبرة التي دلت بالملازمة على انحصار الأم النسبية بصاحبة النطفة، مما يجعلها صالحة لتقييد إطلاقات استعمال لفظ الوالدة في الأعم من صاحبة النطفة والرحم. والله العالم.

الهوامش

______________________

(1) مفردات ألفاظ القرآن، ص883.

(2) العين ج8، ص71.

(3) سورة الواقعة، الآية 17.

(4) قال تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).

(5) وإن قيل: ولكن الرواية ليست في مقام البيان من جهة الأمومة حتى يصح التمسك بإطلاقها. قلت: (أن يكون المتكلم في مقام البيان) شرط لظهور الملزوم في المراد لا اللازم. وعليه، يمكن الأخذ باللازم وإن لم يكن المتكلم حين نطقه بالملزوم في مقام بيان المراد من اللازم. مثال: قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)، وقوله تعالى: (وفصاله في عامين)، فإن لازم هذين الظهورين أن يكون أقل الحمل ستة أشهر، ويمكن الأخذ بهذا اللازم وإن لم يكن الشارع في الآيتين في مقام بيانه؛ وذلك لأن هذا الشرط لظهور الملزوم في المراد لا اللازم. فتأمل جيدا.

(6) سورة المجادلة، الآية 2.

موقع السيد حسين الحسيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky