خاص الاجتهاد: من خلال القراءة الفاحصة والتحقيق في الآثار الفقهية لفقيد الفقاهة، آية الله السيد محمد هادي الميلاني (قدس سره)، يتضح جلياً أنه يُعدّ في عداد الفقهاء القائلين بـ “الولاية العامة للفقيه”، وإن لم يفرد لهذا المبحث باباً مستقلاً في تضاعيف مباحثه.
وقد استعرض سماحته في “کتاب الخمس” – بمناسبة الحديث عن سهم الإمام (عليه السلام) وكيفية التصرف فيه – مباحث ولاية الفقيه بشكل صريح، حيث طَرَحَ جانباً من أدلة القائلين بالولاية العامة. وإن منهجية البيان وآلية الاستدلال التي اعتمدها في هذا المقام، تعكس بوضوح تبنيه للولاية الموسّعة، بل ويمكن استظهار القول بالولاية العامة من مبانيه بشكل تام.
علاوةً على ذلك، فإنّ التعابير التي وظّفها سماحته في مواضع شتّى من آثاره الفقهية حول “الفقيه” و”صاحب الولاية”، تُعدّ شاهداً جلياً على نمط رؤيته الفقاهتية؛ وذلك من قبيل تعابير: “نائب الغيبة”، و”نائب الإمام”، و”نائب المعصوم”، و”نواب الحجة”.[۱] وهذه التعابير في أدبيات الفقه السياسي الشيعي، غالباً ما يستخدمها القائلون بـ “النيابة العامة” للفقهاء؛ إذ إنّ هذه العبارات تبطن دلالةً طبيعية على نوعٍ من الولاية الموسّعة والاجتماعية للفقيه، ويندرُ صدورها عمّن يحصر ولاية الفقيه في دائرة “الأمور الحسبية” الضيقة فحسب.
ومن جهة أخرى، فإنّ سعة الصلاحيات التي يرتئيها سماحته للفقيه في نتاجه الفقهي المتاح، تأبى تصنيفه ضمن المؤمنين بولاية الفقيه في إطار الأمور الحسبية (بمعناها المشهور).
نعم، ورد في بعض تعابيره ذِكرٌ لـ “الأمور الحسبية”[۲]، وهو ما قد يوهم بدوا بوجود تهافتٍ ظاهري مع نظرية الولاية العامة. بيد أنّه من خلال الدقة في مباني آية الله الميلاني ومنهجه الفكري، يمكن رفع هذا التعارض الصوري؛ إذ إنّ التفسير الأرجح هو أنّ مراد سماحته من “الأمور الحسبية” هو معناها “الموسّع”؛ أي تلك الأمور التي لا يرضى الشارع بتركها، وهذه الدائرة عنده شاسعة جداً بحيث تستوعب الكثير من المجالات الاجتماعية والحكومية، إلا ما خرج منها بدليل خاص. وبناءً عليه، فإنّ استعماله لمصطلح “الأمور الحسبية” لا يعني القبول بالولاية المحدودة، بل هو رؤيةٌ قابلة للتفسير في سياق “الولاية العامة” ذاتها.
ومجملُ هذه الشواهد والقرائن يقطعُ بأنّ آية الله الميلاني كان يرتئي ـ من منظرٍ فقهي ـ نظريةَ “الولاية العامة للفقيه”، وأنّ مبناه في الفقه السياسي يبتني على أساس “النيابة العامة” للفقيه عن الإمام المعصوم (عليه السلام). وهذا الاستظهار لا يبرزُ في تقريراته لأدلة ولاية الفقيه فحسب، بل يتجلّى بوضوحٍ في تعابيره حول منصب الفقيه وسعة صلاحياته في الشؤون الاجتماعية والحكومية. ومن هنا، فإنّ التفسير الصحيح لفكره السياسي والفقهي رهينٌ بقبول هذا المبنى، وعلى هذا الأساس ستُصاغُ التحليلات اللاحقة في هذا البحث.
وكما أشرنا آنفاً، فإنّ سماحة آية الله العظمى الميلاني لم يفرد بحثاً مستقلاً ومنقّحاً تحت عنوان “ولاية الفقيه”، بل استعرض ذلك في كتابه “محاضرات في فقه الإمامية”، وتحديداً ضمن مباحث الخمس، وذلك استطراداً عند طرح تساؤلٍ مفاده: “هل الشيعة في عصر الغيبة مكلّفون بدفع الخمس إلى حاكم الشرع ليتصرف فيه وفق ما يراه من المصلحة، أم يجوز لكلّ مكلّف ـ نظراً لغيبة الإمام الثاني عشر (عجل الله فرجه) ـ أن يتولّى صرفه بنفسه في موارده المقررة دون حاجةٍ لتسليمه إلى حاكم الشرع؟”؛ ومن هذا المنطلق فتح سماحته تمهيداً بعنوان “مناقشة أدلة ولاية الفقيه”، تناول فيه أدلة هذه المسألة بالبحث والنقد والتمحيص.[۳]»
وعلى الرغم من أنّ الفقهاء المتأخرين دأبوا ـ في مقام إثبات ولاية الفقيه العامة أو نفيها ـ على الاستناد إلى منظومةٍ من الأدلة تشمل السنّة، والإجماع، والعقل، بل وأحياناً الأدلة الأربعة كافة؛ إلا أنّ آية الله العظمى الميلاني لم يخض في هذا المقام في مثل هذا الاستقصاء للأدلة، بل اقتصر في دراسته على الروايات المرتبطة” فحسب. حيث انتخب من جملة الروايات التي يتمسك بها القائلون بالولاية العامة ثماني رواياتٍ فقط، عرضها بالنقل والتحليل. ويبدو أنّ هذا الاختصار والاكتفاء بهذا المورد المحدود من البحث لم يكن إلا لكون طرح المسألة لم يأتِ لغرض تأسيس بابٍ مستقلٍ وتفصيلي، بل جاء استطراداً لمناسبة بحث حكم التصرف في الخمس زمن الغيبة، فلم يكن من بنائه (قدس سره) في هذا الموضع بسطُ المقال أو التتبع المستوعب لسائر الأدلة.
وقد اعتبر سماحته أنّ من أهم أدلة الولاية العامة للفقيه في عصر الغيبة هو “التوقيع الشريف” الصادر عن الإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) لإسحاق بن يعقوب، والذي جاء فيه: «وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِیهَا إِلَى رُوَاهِ حَدِیثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِی عَلَیْکُمْ وَأَنَا حُجَّهُ اللَّه». حيث يذهب سماحته ابتداءً إلى إحراز “الاعتبار السندي” لهذه الرواية؛ نظراً لأنّ ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ـ وهو مَن لا يروي عن أيٍّ كان ـ قد أوردها في كتابه، كما نقلها الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي بواسطته؛ فضلاً عن كون الرواية “مشهورةً” وقد عمل بمضمونها جمهرةٌ من الأعاظم؛ وعليه، فإنّ مجهولية حال “إسحاق بن يعقوب” لا تقدحُ في اعتبار السندِ بوجهٍ من الوجوه.
وأمّا من حيث “الجهة الدلالية”، فإنّ ظاهر عبارة “الحوادث الواقعة” لا يمكن حملها على الأحكام الشرعية أو المسائل المستحدثة؛ إذ لا يُطلق في العرف الفقهي على الحكم الشرعي أنه “حادثة” أو “واقعة”، بل هي أمورٌ يرجعُ البتُّ فيها إلى وليّ الأمر وسائس المجتمع. ولذا، يتعيّنُ أن يكون المراد بها هي الشؤون الاجتماعية والحكومية التي كانت ملقاةً على عاتق الإمام (عليه السلام) حال حضوره.
ثم ينبري سماحته لتفنيد أهم الشبهات المثارة حول هذا التوقيع، والتي كانت متداولةً بين الأعاظم في ذلك العصر؛ أولها: احتمال أن يكون المراد هو المسائل المستحدثة وإرجاع حكمها إلى الفقيه؛ فيجيب (قدس سره) بأنّ ظاهر الرواية هو إرجاع “نفس الحوادث” لا “أحكامها”، وحملُ اللفظ على إرجاع الحكم هو خلافُ الظاهر.
وثانيها: لعلّ هذا الإرجاع من قبيل المجاز العرفي المشهور (أي أنّ الرجوع في القضية كناية عن الاستفتاء عن حكمها)؛ فيرى سماحته أنه حتى مع تذليل المانع اللفظي بالمجاز، فإنّ ذلك لا يستقيم مع “سياق الرواية”؛ إذ إنّ الإمام (عجل الله فرجه) استخدم تعابير ثقيلةً وجزلة بقوله: «فَإِنَّهُمْ حُجَّتِی عَلَیْکُمْ وَأَنَا حُجَّهُ اللَّه»، جاعلاً ذوات الرواة حجةً، بينما لا تستدعي حجية الفتيا في المسائل المستحدثة مثل هذا التأكيد، ولو كان المقصد مجرد حجية الرواية لكفى قوله: «ما يروونه فعنّي يروون» (كما في رواية العمري وابنه). وثالثها: إنّ تعبير “الحجة” يصدق على الفتوى أيضاً؛ فيجيب بأنّ حجية رواية الفقهاء الثقات كانت من البديهيات المتواترة آنذاك، وكان “إسحاق بن يعقوب” من وجوه الشيعة وأهل العلم (كما يستشفُّ من النبرة التفصيلية والتكريمية في التوقيع وتصدّيه للمسائل الكلامية والاعتقادية)؛ وعليه، فمن المستبعد جداً أن يكون مثل هذا الأمر الجليّ هو محور سؤاله.
وفي الختام، يؤكد آية الله الميلاني أنّ تعبير «فَإِنَّهُمْ حُجَّتِی عَلَیْکُمْ» يتمتع بـ “الإطلاق”، ولا ينحصر في قبول الرواية فحسب، بل يشمل جميع الشؤون التي كان المرجعُ فيها حال الحضور هو الإمام نفسه؛[۴] أي الأمور العامة والاجتماعية، والحقوق المعطلة، وحفظ النظام الإسلامي، وكل ما يؤدي تركه إلى الإضرار بالدين وحقوق الناس.
وهذا الإطلاق يُعدُّ دليلاً محكماً وجلياً على “الولاية العامة للفقيه” في عصر الغيبة.
ولعلّ الأهم في عبارات سماحته هو ما نصه:
«هذا کله مضافاً إلى أن الإطلاق فی قوله علیه الصلاه و السلام: “هم حجتی علیکم” یقتضی عدم الاختصاص بقبول الروایه، و شموله للأمور التی کان الإمام مرجعا فیها، بحیث لا یبقى الناس حیارى فی الأمور العامه و فیما یرجع إلى الأمور، و الحقوق للغائبین أو القاصرین، و غیر ذلک. و کذا لا یبقى العذر لهم فی ترک عدة من الأمور الدینیة و الحقوقیة استنادا إلى غیبة الإمام صلواته تعالى علیه.»[۵]
إنّ هذا البيان يبرهنُ بوضوح على أنّ آية الله الميلاني لم يختزل “حجية الفقيه” في بيان الأحكام أو الأمور الحسبية الضيقة، بل جعلها شاملةً لإدارة الشؤون العامة للمجتمع، ورعاية الحقوق المتروكة، وحفظ النظام الإسلامي، وكافة الصلاحيات التي كانت منوطةً بالإمام حال حضوره. وبناءً عليه، فلا يُعطَّل أيُّ جانبٍ من الشؤون الدينية والاجتماعية بوجود الفقهاء، إذ إنّ الفقيه هو “النائب العام” للإمام في كافة الأبعاد الولائية.
ويُعتبر هذا الاستدلال تبييناً دقيقاً ومناسباً لمبناه في مسألة ولاية الفقيه، وهو ما يتناغمُ تماماً مع مواقفه العملية في دعم النهضة الإسلامية.
بقلم: حجة الإسلام حميد رضا كامل نواب، عضو هيئة التدريس بجامعة الشهيد المطهري.
الهوامش:
[۱] الميلاني، محاضرات في فقه الإمامية (كتاب الزكاة)، ج ۲، ص ۱۵۴؛ وأيضاً: محاضرات في فقه الإمامية (كتاب الخمس)، ص ۷۸، ۲۶۱، ۲۶۲.
[۲] الميلاني، محاضرات في فقه الإمامية (كتاب الزكاة)، ج ۲، ص ۱۷۴، ۱۹۵.
[۳] الميلاني، محاضرات في فقه الإمامية (كتاب الخمس)، ص ۲۷۰.
[۴] الميلاني، محاضرات في فقه الإمامية (كتاب الخمس)، ص ۲۷۴.
[۵] الميلاني، محاضرات في فقه الإمامية (كتاب الخمس)، ص ۲۷۷.
الاجتهاد موقع فقهي