الاجتهاد: إنّ آيات القرآن الكريم تشير إلى أرباب العرب وآلهتهم ورموزها من أصنامهم وأوثانهم، والقرآن «أحسن القصص» وفيه الكفاية: قال عزّ وجلّ: «وعجبوا أنْ جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هـذا ساحر كذّاب أجعَل الآلهة إلها واحداً إنّ هذا لشيء عُجاب وانطلق الملأ منهم أنْ امشوا واصـبروا على آلهتكم إنّ هذا لشيء يُراد ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إن هذا إلاّ اختلاق »(1) .
وإذا كانت إيران قد اتّخذت الزرادشتية (المجوسية) ديناً رسميّاً لها طلباً للإستقلال العقائدي عن الروم المسيحيّة(2) ، وهما في حرب دؤوب، فطبيعي أنْ تحاول إيران نشر عقيدتها الثنوية بالإلهين: إله الخير وإله الشرّ بين الشعوب المغلوبة المستعمرة لها من حولها ، فتتفشّى المجوسية في بعض القبائل العربية من تميم والبحرين وعمان واليمن(3) ونحن نعلم أنّ المجوس ثنويّون يؤمنون بإلهين يدبّران العالم فللخير يزدان وللشرّ اهريمن ولهما رمزان فليزدان الخير النور ، ولاهريمن الشرّ الظلمة .
أمّا أكثر العرب في الجاهليّة فكانوا وثنيّين يؤمنون بقوىً الهية كثيرة منبثّة في مظاهر الطبيعة، وبقوىً خفيّة كثيرة في بعض الحيوانات والنباتات وحتّى الجمادات ، فكانوا يتعبدون لأصنام وحتّى أوثان كثيرة اتّخذوها رمزاً لتلك الآلهة ومنها الكواكب والنجوم .
فكـان عرب الجنوب في اليمن يرجعون بآلهتهم إلى ثالوث مقدس هو: القمر، واسـمه عند المعينيين (أوائل الألف الأوّل قبل الميلاد)(4) ودّ ، وكان إلههم الاكبر، وهو الزوج الذكر ، ولذلك لفظه مذكر .
وتليه الشمس، وهي اللات، وفيها تاء الإناث، ولذا اعتبروها زوجة القمر ولذلك لفظها مؤنث! ومنها ولدت العزّى أي الزهرة أو عشتر، أو فينوس بالرومية، أو ناهيد بالفارسية.
ولهم الهات اُخرى رمز عن بعض النجوم أو بعض مظاهر الطبيعة أو بعض الطيور ، وكانوا قد بنوا عليها الهياكل ويقدمون لها القرابين ويقوم عليها كهنة ذوو نفوذ كبير. وقوافل التجارة والهجرة كانت متبادلة بينهم وبين عرب الشمال العدنانيين أو النزاريين الحجازيين فحملوا دينهم معهم إليهم(5) .
وأشار القرآن الكريم إلى عبادتهم للشمس في قوله سبحانه حكاية عـن الهدهد من طيور سليمان بن داود، إذ تفقّدها وكان الهدهد غائباً فلم يره «فمكث غير بعيد» إذ جـاء، «فقال أحطت بمـا لم تحط بـه وجئتك من سبأ بنبأ يقين إنّي وجدت امرأةً تملكهم . . . وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون اللّه »(6). ويضيف القمر في آية اُخرى تخاطب العرب المشركين: « لا تسجدوا للشمس ولا للقمر »(7) .
ومن قبل أضاف إليهما الكوكب فيما حكاه عن خليله إبراهيم عليهالسلام قال: « فلمّا جنّ عليه الليل رأى كوكباً قـال هذا ربّي فلما أفل قال لا اُحبّ الآفلين » ولعلّه كان عشتر ( الزهرة )، ولعلّ الليلة كانت من أواخر الشهر القمري إذ يظهر القمر متأخّراً فبدأ بالكوكب ثمّ قال: « فلمّا رأى القمر بازغاً قـال هذا ربّي فلمّا أفل قال لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضالّين » فالليلة كانت من أوائل العشر الأخيرة من الشهر القمري إذ يظهر القمر متأخّراً ثمّ يأفل ولا يبقى حتّى الصباح، ولمّا بزغت الشمس صباحاً « فلمّا رأى الشمس بازغةً قـال هذا ربّي هذا أكبر » ولعلّه بهـذا يعترض على تقديمهم للقمر (الأصغر) على الشمس (الأكبر) « فلمّا أفلت قـال يا قوم إنّي بريءٌ ممّا تشركون »(8) .
ولعلّ شرك هؤلاء الصابئة البابليّين هو منشأ شرك أهل اليمن ثمّ الحجاز(9). أمّا الهدهد فطبيعي أ نّه إنّما اهتدى إليهم نهاراً فوجدهم يسجدون للشمس ، ولم يذكر القمر والزهرة ولم ينفهما.
وقد أشار القرآن الكريم إليها بأسمائها المعينيّة اليمنيّة لدى النزاريّين الحجازيّين مع خمسة آلهة اُخرى لهم، في آيتين من سورتين هما قوله سبحانه: « أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثالثة الاُخرى» ثمّ أشـار إلى انوثتهما لديهم فقال: « ألكم الذكر وله الاُنثى »(10) .
والآيـة الاُخرى من سورة نوح وعن لسانه عليهالسلام « قـال نوح ربّ إنّهم عصوني واتّبعوا من لَم يزده ماله وولده إلاّ خَساراً ومكروا مكرا كُبّاراً وقـالوا لا تذرنّ آلهتكـم ولا تذرنّ ودّاً ولا سواعاً ولا يغـوث ويعـوق ونسرا » ثمّ لم يجعلها إناثاً بل ذكّرها في الضمير إليها فقال : « وقد أضلّوا كثيراً » ثمّ حكى دعاء نوح عليهم قال: « ولا تزِدِ الظالمين إلاّ ضلالاً »(11) .
إذن فلغة ( ودّ ) رجعت إلى أقدم من المعينيّين باليمن (أوائل الألف الأوّل ـ ق م) وإلى أقدم من قوم إبراهيم ببابل العراق (أوائل الالف الثالث ق م) إلى ما قبل الطوفان (أوائل الألف الرابع ق م) ومن حيث المكان قرب مكان إبراهيم ببابل العراق في الكوفة(12) ولذلك نقل الطوسي في «التبيان» عن الضحاك وابن زيد وقتادة عن ابن عباس قال: هذه الاصنام المذكورة كان يعبدها قوم نوح ثمّ عبدتها العرب فيما بعد(13) .
ونقله الطبرسي في «مجـمع البيان» وفي تفصيله نقل عن ابن عباس أيضا قال: نحت إبليس خمسة أصنام وحمل الكفّار فيما بين آدم ونوح على عبادتها، وهي: ودّ وسواع ويعوق ويغوث ونسر. فلمّا كان الطوفان دفن تلك الأصنام وطمّها بالتراب فلم تزل مدفونة، حتّى أخرجها الشيطان لمشركي العرب: فاتّخذت قضاعة ودّاً فعبدوه بدومة الجندل ، توارثوه حتّى صار إلى كلب .
وأخذ بطنان من طيّ يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زماناً ، ثمّ إنّ بني ناجية أرادوا أنْ ينزعوه منهم ففرّوا به إلى بني الحرث بن كعب ، فجاء الإسلام وهو عندهم .
وأمّا يعوق فكان لكهلان (اليمن) ثمّ توارثوه حتّى صار إلى همدان (اليمن) فجاء الإسلام وهو فيهم .
وأمّا نسر فكان لخثعم (اليمن) يعبدونه .
وسواع كان لآل ذي الكلاع (الحميري اليمني) يعبدونه .
وفي كيفيّة حمل إبليس لاولئك الأوائل على عبادتها نقل عن محمّد بن كعب القرظي قال: هذه أسماء قوم ممّن كان بين آدم ونوح صالحين، فلمّا ماتوا ونشأ نسلهم بعـدهم قال لهم إبليس: لو صوّرتم صورهم، ففعلوا وكانوا يقدسّونها ، فلمّا ماتوا ونشأ نسلهم بعدهم قال لهم إبليس : إنّ الذين كانوا قبلكم كانوا يعبدونها ، فعبدوها فكان ذلك مبدأ عبادة الأوثان(14) .
أمّا الآيات فقد أشارت إلى أنّ عبادتها كانت مكراً مكره أصحاب الأموال والأولاد، ولعلّه لاستثمار الضعفاء منهم. ولعلّ في الفصل بين الآلهة وهذه الأصنام في قوله: «وقالوا لا تـذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودّاً ولا . . . » إشارة إلى أ نّهم جعلوا هذه الأصنام رموزاً للآلهة لا نفسها .
ثمّ نقل الطبرسي عن قتادة قائمة بنسبة أكثر من هذه الأصنام الخمسة إلى قبائل العرب قال :
إنّ أوثان قوم نوح صارت إلى العرب ، فكان ودّ بدومة الجندل. وسواع برهاط لهذيل. وكان يغوث لمراد (اليمن) وكان يعوق لهمدان (اليمن) وكان نسر لآل ذي الكلاع من حمير (اليمن) وكان اللات لثقيف، وأمّا العزّى فلسليم وغطفان وجُسم ونضر وسعد، وأمّا مناة فكانت لفديد، وأمّا أساف ونائلة وهُبَل فلأهل مكّة: كان اساف حيال الحجر الأسود، وكانت نائلة حيال الركن اليماني وكان هبل في جوف الكعبة.
ونقل عن الواقدي قال: كان ودّ على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير .
ويقال إنّ اللات كانت صخرة مربعة بيضاء بنت عليه ثقيف بيتاً، وكانت قريش وجميـع العرب يعظّمونه وكعبتها هي كعبة الطائف(15) ولذلك نرى في أسمائهم: وهب اللات وعبد شمس .
وكـانت مناة ـ الهة الموت والآجـال والأعمار والأقدار ـ صخرة منصوبة على ساحل البحر بين مكّة والمدينة في هذيل وخزاعة، وكان الأوس والخزرج يحجّون إلى مكّة ويقفون مع الناس المواقف الثلاثة ولكنّهم لا يحلقون رؤوسهم، ولا يرون تمام حجّتهم إلاّ أنْ ينصرفوا إلى مناة فيحلقوا رؤوسهم عندها(16) .
وكانت العزّى شجرة بوادي نخلة شرقي مكّة إلى الطائف لغطفان، حتّى قطعها الإسلام(17) .
ومن ثنويّتهم في وثنيّتهم ما تدلّ عليه معاني: يعوق ويغوث وسواع، ففي الأخير ما يدلّ على أ نّه كان إله الهلاك والشرّ، وبإزائه يعوق أي يكون عائقاً عنه، ويغوث أي يغيث منه(18) .
ولعلّها في أصلها مقتبسة من ثنويّة المجوسيّة، ولا سيّما أ نّهم كانوا يقدّمون قرابين النيران، ويوقدونها لاستمطار السماء والاستسقاء، وعند عقد أيمانهم وأحلافهم(19) .
وكان هبل من عقيق أحمر على صورة إنسان، يده اليمنى من ذهب. والقداح أمامه، فإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفراً أو عملاً أتوه فاستقسموا بالقداح عنده فما خرج انتهوا إليه وعملوا به، ومنه، فعل عبد المطّلب لذبح ابنه عبد اللّه. ومنها للزواج، ومنها للمواليد، فإذا شكّوا في مولود أهدوا إليه هديّة ثمّ ضربوا بسهام الأزلام (القداح) فإن خرج (الصريح) كان الوليد صريحاً في نسبه وأمّا إذا خرج (ملصق) دفعوه(20) .
ومن الأصنام المشهورة: ذو الخلصة، وهو صنم خثعم وبجيلة وأزد السراة، وكان صخرة بيضاء عند منقوطة (مروة) منقوش عليها كهيئة التّاج، وكان في تبالة وله بيت يحجّون إليه(21) ولا يخفى أنّ تركيب اسم الصنم (ذو الخلصة) يمنيّ وكعبتها هي الكعبة اليمانيّة .
وكان في حاضرة إمارة النبط (ق 3 م ـ ق 2 م) في «سلع» كما جاء في التوراة : أو «بطرا» كما هو اسمها لدى اليونان ولعلّه ترجمة يونانيّة لسلع العبريّة أو السريانيّة معبد كبير لصنمهم ذي الشري(22) إله الخصب والخمر !
وقال الكلبي في كتابه «الأصنام» : واستهترت العرب في عبادة الأصنام ، فمنهم من اتّخذ بيتاً ، ومنهم من اتّخذ صنماً ، ومن لم يقدر على بناء البيت ولا اتّخاذ الصنم اتّخذ حجراً من الحرم أو ممّا استحسن ثمّ طاف به كطوافه بالبيت ، فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجارٍ فنظر إلى أحسنها فاتّخذه ربّاً وجعل الثلاثة الاُخرى أثافي لقدره فإذا ارتحل تركها . وكانوا يذبحون وينحرون عندها ويتقرّبون بذلك إليها(23) .
الهوامش
(1) ص : 4 ـ 7 .
(2) الإسلام وإيران 2 : 32 .
(3) تأريخ العرب قبل الإسلام 6 : 284 فما بعد .
(4) العصر الجاهلي : 25 لشوقي ضيف .
(5) انظر العصر الجاهلي : 29 لشوقي ضيف .
(6) النمل : 22 ـ 24 .
(7) فصّلت : 37 .
(8) الأنعام : 76 ـ 78 .
(9) العصر الجاهلي : 89 لشوقي ضيف.
(10) النجم : 19 ـ 21 .
(11) نوح : 21 ـ 24 .
(12) ففي روضة الكافي عن الصادق عليه السلام قال: عمل نوح سفينته في مسجد الكوفة. . . ثمّ التفت وأشار بيده إلى موضع وقال: وهنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث ويعوق ونسر ـ الميزان 20 ـ 35 . وعليه فلعلّ هذه الأسماء سريانية دخلت في المعينية .
(13) التبيان 10 : 141 .
(14) مجمع البيان 10: 547 . ونقله السيوطي عن ابن عبّاس أيضا في الدر المنثور. وقد رواه الصدوق عن الصادق عليه السلام في علل الشرائع .
(15) الأصنام للكلبي : 16 والمحبر لابن حبيب : 315 ومعجم البلدان في اللات .
(16) الأصنام للكلبي : 14 ، والمحبر لابن حبيب : 316 ، ومعجم البلدان في مناة .
(17) الأصنام للكلبي : 17 ونقل الطبرسي عن مجاهد 9 : 266 ومعجم البلدان في العزّى .
(18) العصر الجاهلي : 90 لشوقي ضيف .
(19) الحيوان للجاحظ 4 : 461 فما بعد .
المصدر: موسوعة التاريخ الاسلامي، الجزء 1: العصر النبوي – العهد المكي / تحقيق و تأليف: محمد هادي اليوسفي الغروي