الدليل العقلي

الخلفية التاريخية للدليل العقلي .. الدكتور علي رضا فيض

الاجتهاد: قال الفقية النحرير والعالم الجرئ محمد بن إدريس في كتاب “السرائر” حول الدليل العقلي: یری المحقّقون أنّه في حال غياب الأدلّة الثلاثة: الكتاب والسنّة والإجماع (لاستنباط الحكم منها)، يتمّ اللجوء إلى الدليل العقلي والاستناد إلى حكمه. وبهذا كان أوّل فقيه إمامي یعطي الدليل العقلي هذه الأهمية، ويضعه في موازاة الأدلة الثلاثة الأخرى، معتبراً منابع الفقه الشيعي، ولأول مرّة، أربعة هي: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

لقد حظي الدليل العقلي عند أسلاف الأصوليين والمتكلمين بأهمية بالغة، لكنّه بفعل تأثير المدرسة الأخبارية في العصور المتاخرة ، فقد تلك المكانة، فقلّصت من قدرته، وحدّت من أهمّيته.

قيل في الدليل العقلي إنه:

حكم العقل في إطار حسن الأفعال والأشياء وقبحها، ليصل من خلاله إلى الحكم الشرعي للمسألة، وأنه عن طريق العلم بالحكم العقلي وفي ضوء قاعدة الملازمة بين العقل والشرع، نتوصل إلى الحكم الشرعي.(0)

وأما الخلفية التاريخية للدليل العقلي

لم يكن عصر الأئمة “عليهم السلام” وما تلاه من عصر المحدّثین قد تعرّفوا بعد إلى الدليل العقلي، والسبب كما قلنا سابقا كفاية النصوص الشرعية المعتمدة من الكتاب والسنّة للمسائل المبتلاة في ذلك الوقت.

ولكن مع نهايات القرن الرابع ودخول القرن الخامس، ظهرت أولى المحاولات عند المتقدّمين للاستفادة من دور العقل في المسائل الفقهية، وأقدم نصّ موجود في هذا المجال رأي للشيخ المفيد (المتوفّي عام 413هـ) يقول فيه:لا يمكن أن يتجاوز دور العقل دائرة فهم النصوص الشرعية، أن استيعاب النصوص الشرعية یكون من خلال العقل، ومن ثمّ توظيفه في استنباط الحكم الشرعي (۱).

ثم جاء بعده الشيخ الطوسي (المتوفّی عام 460هـ) الذي وإن نظر إلى العقل كدلیل مستقل إلى جانب الكتاب والسنّة، إلا أنّه مع ذلك طرح بشكل أو بآخر فكرة استيعاب الأحكام عن طريق العمل في مصنّفاته، مشيراً في هذا المجال إلى قاعدة اللطف، حيث يقول في أحد كتبه عن موضوع تشريع الأحكام بالاستناد إلى المصالح إنّ الأحكام الشرعية الطاف ناظرة إلى الأحكام العقلية (۲)، وفي کتاب “العدّة”، يقول حول الحكم العقلي:

العلم علمان:

أ- علم اکتسابي.
ب- علم ضروري، والمقصود بالعلم الاكتسابي الذي يحصل بطرق مختلفة عقلية ونقلیة.

والمقصود بالعلم الضروري هو الذي يحصل بصور بديهية من دون إعمال الفكر أو النظر، ویتناهى إلى عقل الإنسان من دون استدلال، مثل حسن العدل وقبح الظلم.

وجاء في كتاب أدوار الفقه، تعقيباً على رأي الشيخ الطوسي حول حكم العقل(۳): تدور الأحكام الشرعية حول مدار المصالح والمفاسد الحقيقية.

وبحسب عبارة الشيخ الطوسي وأقوال بقية العلماء، فإن الأحكام الشرعية ألطاف في مجال الأحكام العقلية(۴)، وهي بلا شكّ تستقيم مع موازين العقل السليم وتتطابق معها.

يبدو أنّ كلام الشيخ وبقية العلماء فيما يتعلق بقاعدة اللطف، قد وُظّف في الأدوار اللاحقة لإعداد قانون الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي، كما تمّ في ضوء ذلك بيان القاعدتين الفقهيتين ” كلّ ما حَکَم…” اللتين سیأتي الحديث عنهما لاحقاً في هذا الكتاب .

لقد أشار الغزالي (المتوفّى عام 505هـ) إلى الدليل العقلي، معتبراً إياه مفيداً لبعض الأحكام الظاهرية والأصول العملية (۵).

قال الفقية النحرير والعالم الجرئ محمد بن إدريس (المتوفّى عام 598هـ) في كتاب “السرائر” حول الدليل العقلي:

یری المحقّقون أنّه في حال غياب الأدلّة الثلاثة: الكتاب والسنّة والإجماع (لاستنباط الحكم منها)، يتمّ اللجوء إلى الدليل العقلي والاستناد إلى حكمه(۶).

وبهذا كان أوّل فقيه إمامي یعطي الدليل العقلي هذه الأهمية، ويضعه في موازاة الأدلة الثلاثة الأخرى، معتبراً منابع الفقه الشيعي، ولأول مرّة، أربعة هي: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

المحقّق الحلّي (المتوفّی عام 676هـ) في كتابه الأصولي المعتبر، يقسّم الدليل العقلي إلى قسمين: يذكر في القسم الأول المفاهيم، وهي عبارة عن لحن الخطاب، وفحوى الخطاب ودليل الخطاب،

أما القسم الثاني فيقول عنه: كل حكم يستدلّ العقل عليه مستقلاً وينحصر في وجوه الحسن والعقل.

ومعنى ذلك أنّه عن طريق درك العقل لحسن وقبح الأشياء يمكنه بصورة مستقلة دون الاستعانة بالأدلة النقلية، إصدار الأحكام الإيجابية والسلبية.

یتطابق الجزء الثاني من رأي المحقق الحلّي بحجية الدليل العقلي مع آراء الأصوليين المتأخّرين، لكنّ المحقّق لم يبيّن رأيه مفصّلاً، لیأتي العلّامة الحلّي (المتوفّى عام 726هـ) ويقول في فوائد. (۷): أدلة الأحكام في فقهنا أربعة، ثم يذكرها تباعاً، ويقول:

بالدليل العقلي تثبت حجّية الاستصحاب وبراءة الأصلي والاحتیاط.

كما نرى لا يجمع هذه الآراء نسق واحد، وهي تفتقر إلى الدقّة.

بسط الشهيد الأول (المتوفّی عام 786هـ) في مقدّمة كتاب «الذكرى» البحث حول التقسيم السريع والمختصر للمحقّق، وزاد عليها أقساماً أخرى،

على سبيل المثال، تحدّث في القسم الأول، بالإضافة إلى المفاهيم، عن مقدمة الواجب ومسألة الضدّ وإباحة الأشياء المفيدة وحرمة الأشياء المضرّة،

وفي القسم الثاني، مضافاً إلى وجوه الحسن والقبح، تحدّث عن البراءة العقلية والاستصحاب.

أما الشهيد الثاني (استشهد عام 966هـ) فیستهل كتاب «القضاء في شرح اللمعة» بالبحث حول شروط الإفتاء حيث فسّر الدليل العقلي بالاستصحاب والبراءة الأصلية وغيرها وكذلك القياس، وجعلها منصوص العلّة.

لقد تصاعدت وتيرة الدفاع عن الدليل العقلي من قبل علماء الشيعة، وخصوصاً بعض فحول الأصوليين مع إطلالة القرن الثاني عشر، فأخذوا يبسطون البحث فيه حتى اثبتوا حجّيته بالدليل والبرهان.

المحقّق القمّي (المتوفّى عام1231هـ) أحد فطاحل هذا العلم، يتحدّث بالتفصيل، في بداية المجلّد الثاني من كتاب القوانين، عن هذا الدليل، مدافعاً بصلابة عن حجّيته، وجاء من بعده أساتذة قديرون من امثال المحقق الكاظمي وتلميذه النجيب الشيخ محمد تقي (المتوفّی عام 1248هـ) اللذين توسّعا في بحث الموضوع في كتبهما الأصولية مثل «المحصول» و«هداية المسترشدين»، ونحن سنختم بحثنا بأراء المحقّق القمي.

الهوامش

(0) التعريف المذكور مستفاد من مصنفات “القوانين” و “جواهر المراد ” و مطارح الأنظار”.
(1) مبادئ الفقه والأصول. الطبعة الحادية عشرة، ص ۴۳ .
(2) عدة الأصول، طبعة بومباي، ج ۱، ص۳.
(3) ادوار الفقه، میرزا محمود الشهابي، الطبعة الثانية، ۱۹۸۷، ج ۱، ص ۴۳.
(4) تقول قاعدة اللطف: إن لطف الله تعالى واجب، وقالوا في تفسير ذلك اللطف هو کل ما يقربنا إلى طاعة الله، ويبعدنا عن معصيته، وهنا لا يخرج معنی اللطف عن أن الله تعالى منح العقل المقدرة على الاستنباط في المواضع التي لم ينزل بشأنها حکم معین، وذلك استنادا إلى قاعدة المصالح والمفاسد.

هذا ويمكن لقاعدة اللطف أن تكون تأيیداً لدليل العقل، لجهة أن اللطف يعني أن الله وهب الإنسان نعمة العقل لیتمكن بواسطته من استيعاب الأحكام، وتحديد الواجبات والمحرمات، وعلى ذلك فإن بعثة الأنبياء هي لطف من الله تعالى بعباده ليبینوا لهم الأحكام وإن كان ذلك ممكناً بالعقل، فتكون الأحكام الشرعية إمضاءً وتأيیداً للأحكام، العقلية، ومن هذا الباب يقول المتكلمون بوجوب بعثة الأنبياء لجهة اشتمالها على اللطف، بالنسبة للتكاليف العقلية، یتوصّل الإنسان إلى أحكام العقل عن طريق الشرع، وبهذه الوسيلة یقوم بفعل الواجبات العقلية وترك المحرّمات العقلية أكثر فأكثر ، ذلك لأن العقل مسدد من قبل الشرع. بالاقتباس عن شرح التجريد لفاضل قوشجي، الطبعة الحجرية ، ص ۳۵۸.
(5) المستصفي، الطبعة الأولى، المطبعة الأميرية، مصر، ج ۱، ص ۲۱۷، ۲۱۸.
(6) السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، الطبعة الثانية ، المطبعة الحجرية ، ص۴.
(7) «روضات الجنات» ، المطبعة الحجرية، ص۵۴۴.

المصدر: كتاب الفقه والاجتهاد .. عناصر التجديد والتأصيل والمعاصرة، ج 1 ، الدكتور علي رضا فيض.

 

تحميل الكتاب

الفقه والاجتهاد .. عناصر التجديد والتأصيل والمعاصرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky