الأمة والمرجعية

الأمة وحركة المرجعية في ضوء رؤية الإمام السيد محسن الحكيم “ره”

الاجتهاد: تمثل الأمة في اطار حركة المرجعية ونظريتها عنصرا مهما يعبر عن مجال عملها ونشاطها من ناحية، وعن الهدف الأساسي لها في التحرك من ناحية أخرى، حيث ان المرجعية ليست دولة أو حكومة، وانما هي نظام للعمل في الأمة في ظل حكومة قائمة.

ولكنها أيضا تمارس بعض الأدوار والنشاطات التي تشبه دور النظام السياسي، وذلك لملأ الفراغ الديني والشرعي، عند ما تتخلى الدولة عن واجباتها أو تعجز عن القيام بها أو تنحرف وتتعدى حدودها المرسومة لها في نظر الشرع المبين. فالأمة اذن هي ساحة وميدان عمل المرجعية.

كما ان الأمة في نفس الوقت هي هدف المرجعية، لأنها تستهدف بالأصل هداية الناس إلى اللّه تعالى وإيجاد الوعي في صفوفهم للحقائق الإلهية والحياتية و دعوتهم للالتزام بها و تربيتهم و الدفاع عن حقوقهم و كرامتهم و حريتهم.

و من خلال هذين البعدين تنظر المرجعية إلى الأمة و تتحرك باتجاهها.

وكما رأينا فان المرجعية تعتمد بالأصل في وجودها وقدرتها على الأمة بعد اللّه تعالى، وكلما كانت علاقة المرجعية بالأمة قوية و حميمة، كلما كانت المرجعية مقتدرة ومؤثرة والعكس بالعكس أيضا.

ومن هنا نجد الإمام الحكيم يهتم اهتماما بالغا بهذا الجانب والبعد في حركة المرجعية، وتحقيق انجازات كبيرة سواء على مستوى فهم دور الأمة ومسؤولية المرجعية تجاهها، أو على مستوى سعة النشاطات وشموليتها، أو على مستوى الأهداف المنشودة في أوساط الأمة.

و يمكن أن نلاحظ ذلك في النقاط التالية:

الاولى: الاهتمام البالغ بأبناء الأمة من خلال بناء العلاقات ومد الجسور معهم، سواء على المستوي الشخصي، حيث كان يجلس لاستقبال الناس في اليوم ثلاث مرات، بالإضافة إلى أيام الأعياد والمناسبات العامة، وبعد ازدياد حجم الأعمال والمسؤوليات أصبح مرتين.

وكذلك كان يجيب على الرسائل و على بطاقات ورسائل التهاني و التعازي، ويؤم صلاة الجماعة التي يلتقي فيها بالناس عادة بعد انقضائها، ويحضر المجالس العامة، والزيارات المخصوصة في كربلاء، حيث يكون اللقاء شاملا ويزدحم الناس لزيارته وعرض قضاياهم ومشاكلهم و حوائجهم. إلى غير ذلك من الأساليب.

بالإضافة إلى الزيارات التي كان يقوم بها إلى بعض البلاد المهمة كبغداد والكاظميين والحلة، أو زيارته إلى لبنان وغيرها مما يفسح المجال للقائه من ناحية، و التعرف على أوضاع الناس من ناحية أخرى.

و بالرغم من ان هذه الزيارات كانت محدودة نسبيا، و لكن هذا الأسلوب على مستوى المرجعية العامة كان أول من مارسه هو الإمام الحكيم خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار قلة الوسائل و الامكانات و صعوبة الاتصالات و عدم تعبيد الطرق أو وجود وسائط النقل المناسبة، حيث لم يكن يملك الإمام الحكيم، وسيلة نقل خاصة إلا في أواخر أيامه.

و كذلك عمل الإمام الحكيم على مد الجسور و الاتصالات مع الأمة من خلال شبكة الوكلاء و الممثلين و المبلغين و المكتبات العامة و الفعاليات الجماهيرية الواسعة كالاحتفالات الضخمة السنوية و الموسمية أو الندوات الفكرية و الثقافية، التي كانت تقيمها هذه المؤسسات أو القيام بتقديم الخدمات الدينية في موسم الحج من خلال تأسيس بعثة دينية على شكل هيئة لأول مرة في تاريخ المرجعية، حتى أصبحت سنة متبعة بعد ذلك للمراجع الدينيين.

و كذلك القيام بتقديم الخدمات العامة على مستوى الإصلاح بين العشائر العراقية في النزاعات و الخلافات التي كانت تحدث بينها، أو القيام بإرسال وفود لافتتاح الحسينيات والمساجد والمؤسسات، أو إرسال المساعدات في الحوادث الطبيعية كالزلازل أو الفيضانات [1] و غير ذلك من المساهمات التي كانت تشعر الأمة من خلالها بالاهتمام و الارتباط و الحضور للمرجعية كمؤسسة تهتم بشؤون الأمة و قضاياها.

كما ان الإمام الحكيم اهتم في هذا المجال بالأوساط المحرومة دينيا و اجتماعيا، أو التي تعرضت إلى العزلة و الانقطاع عن المرجعية الدينية- لأسباب سياسية و اجتماعية- مثل الموظفين و طلاب الجامعات و المهاجرين و كذلك أوساط العشائر العراقية و الأرياف.

كما ان الإمام الحكيم قام بإنجاز عظيم في هذا المجال من خلال إيجاد العلاقات الدينية القوية مع أوساط كانت معزولة تماما عن المرجعية، بحيث تعرضت لأخطار الانحراف أو الضياع، مثل بعض مناطق الشمال الغربي في العراق، و العلويين في سوريا، و الشيعة في تركيا و إفريقيا.

لقد كانت هذه النقطة من المزايا الواضحة التي كانت تلفت النظر في مرجعية الإمام الحكيم (قدّس سرّه)، و قد أدركتها الأمة بوجدانها و عقلها، و لا زالت تشعر بآثارها النفسية و الروحية.

الثانية: الاهتمام البالغ بالشعائر الإسلامية والعمل على تطويرها والاستفادة من الفرصة التي كانت تهيؤها لتحقيق أغراض المرجعية المقدسة.

و هذه الشعائر:

مثل: صلاة الجماعة التي كان يمارسها شخصيا بشكل عام في اليوم مرتين أو ثلاث مرات، و حتى في الاسفار، و الحث على إقامتها من قبل العلماء، و الوكلاء، و المبلغين.

ومثل: موسم شهر رمضان في الوعظ والإرشاد، وتعليم الأحكام الشرعية والأخلاق الإسلامية، وتربية الناس على الصلاح والتقوى.

ومثل: المجالس الحسينية في شهري محرم وصفر، والمناسبات الأخرى للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الأطهار (عليهم السّلام) من وفياتهم، و مواليدهم، أو الأعياد الإسلامية و المذهبية، و اقامة الاحتفالات، و الحرص على أن تكون هذه المجالس و الاحتفالات ذات مضمون ثقافي، و فكري، و أخلاقي، و سياسي، يرتبط بشؤون الأمة.

ومثل المواكب الحسينية، التي كانت تمثل عملا جماهيريا مهما في الأمة، سواء المحلية منها، أم الموسمية التي ترد لزيارة الأربعين، و عاشوراء، و وفاة النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و وفاة أخيه و وصيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، حيث تحولت هذه المواكب إلى عمل اجتماعي و سياسي ضخم سواء من حيث الإخراج أم المضمون أم الانسجام أم الكثافة العددية و الاهتمام. و أصبحت مدرسة جماهيرية واعية للأمة، و مؤسسة تعبوية روحية، و ثقافية، و سياسية.

ومثل مواسم الحج والزيارات المخصوصة للأئمة الأطهار (عليهم السّلام) والتي كانت توفر فرصة لاجتماع الناس والحديث إليهم و توجيههم حتى انه استفاد من هذه المواسم لعقد لقاءات سياسية أو اجتماعية أو دينية.

الثالثة: تشجيع إيجاد المؤسسات، و اقامة المشاريع الخيرية، و الجمعيات الدينية و الاجتماعية التي يقيمها الإفراد أو الجماعات، و تأسيس قنوات التخاطب مع الأمة كالمجلات الإسلامية، أو المنشورات، أو المراكز الثقافية كالمكتبات و المدارس، و تشجيع حركة التأليف و النشر، و غيرها.

وتوسعة دائرة بناء العتبات المقدسة للأئمة الأطهار (عليهم السّلام) وأولادهم، أو زعماء وعلماء اتباع أهل البيت (عليهم السّلام) و كذلك بناء المساجد، و الحسينيات و المساكن التي تؤمن للعالم الديني نوعا من الاستقرار و الثبات.

وإذا أردنا أن نلقي نظرة عامة على فترة الخمسة عشر سنة التي أصبحت فيها مرجعية الإمام الحكيم (قدّس سرّه) مرجعية عامة من سنة (1375- 1390 هق) لوجدنا تطورا نوعيّا، وكميا ملحوظا وهاما في جميع هذه المجالات المشار إليها، والذي يشكل ظاهرة و خطا عمليا في الرؤية العملية لهذه المرجعية [2].

الرابعة: تنظيم العلاقات و الموارد المالية التي تعتمد على الأمة بشكل رئيسي.

إذ من الواضح كما أشرنا سابقا ان المرجعية تعتمد في نفقاتها على الحقوق الشرعية كالأخماس، والزكوات و غيرها التي تشكل في واقعها مصدرا ماليا كبيرا و مهما.

إلا أن المشكلة في هذا المصدر المالي هو انه مصدر قد أوجبه الشارع المقدس على الإنسان المسلم، ولكن في ظروف المرجعية لا يوجد عامل اجرائي يلزم المكلّف بالدفع ومن هنا تحول الدفع إلى حالة تطوعية ترتبط بمقدار تدين الإنسان والتزامه من ناحية، ووعيه للأمور والحاجات الإسلامية والدينية من ناحية أخرى. وأخذ هذا المصدر يتأثر بقضية الوعي في حجمه وفاعليته.

و قد عمل الإمام الحكيم (قدّس سرّه) على تحقيق الأمور التالية في هذا المجال:

1- تعليم الناس و توعيتهم على هذا الواجب الشرعي و تنبيههم إلى أهميته من خلال المبلغين أو غير ذلك من أساليب التوعية.

2- العمل على تنظيم الدفع و الالتزام به، حيث كان أغلب الأفراد في العراق، و بعض البلدان الأخرى، من دافعي الحقوق الشرعية يدفعونها بدون برنامج معين للدفع، بل عند المناسبات و الحوادث كالذهاب لحج بيت اللّه الحرام، أو مناسبة تصفية تركة الميت، أو عند ورود عالم أو مبلّغ إلى البلد أو المنطقة، أو وجود مشروع خيري و ديني واضح، أو ضرورة من ضرورات المؤمنين،

ولكن الإمام الحكيم (قدّس سرّه) اهتم في تنظيم هذه الحقوق، مستغلا هذه المناسبات المذكورة، فعندما يأتيه شخص يريد أن يذهب للحج لا يكتفي منه بخمس نفقة الحج بل ينظم وضعه المالي من خلال حساب رأس السنة، وتعيين مقدار الخمس في جميع أمواله، ويترك له الفرصة في تقسيط الدفع، أو تأخيره من دون احراج و مضايقة ولو عادية، مع توضيح الحكم الشرعي له.

كما كان يوصي وكلاءه و مبعوثيه، أن يهتموا بهذا الأمر، و لا يقبضوا الأموال إلا بعد توضيح هذا الحكم و تعيين هذا المنهج.

وكان يثقف أبناء الأمة على هذا الحكم الشرعي من خلال الإلزام باستلام وصولات الدفع، حتى عند ما يكون الدفع له مباشرة، ويبين لهم ان هذا الوصل له أثر معنوي لديهم ولدي ذويهم ومتعلقيهم، بالإضافة إلى أثره في تنظيم الدفع، وتمركز الأموال وعدم ضياعها.

3- تشجيع المؤمنين من أصحاب الحقوق أن يقيموا مشاريع دينية في بلادهم، و أحيانا مساعدتهم ماليا من أجل تخليص ذممهم من الحقوق الشرعية.

والديون الإلهية من ناحية، وتشجيع الآخرين واثارة روح التنافس والتسابق للخيرات في نفوسهم.

كما كان يشجع أن تصرف الأموال على الوكلاء و المبلغين و الأعمال الدينية في المناطق، خصوصا الفقيرة منها، ليكون ذلك سببا لتشجيع الطلبة و العلماء للاهتمام بتلك البلدان والتردد عليها، أو الإقامة فيها بعد أن تحقق أسباب الاستقرار النفسي.

لقد كان لهذه السياسة أثر كبير في الأمة، ليس في الحصول على المزيد من الموارد المالية فحسب، بل في تحقيق الوعي و المشاركة الفعلية للأمة في الأعمال الدينية، و الشعور بالمسؤولية تجاهها و الالتزام بها و الدفاع عنها.

الخامسة: تنمية الخط الجهادي والسياسي في الأمة، حيث كانت الأمة في العراق- كما أشرنا سابقا- قد أصيبت بمرض الاستكانة والاستسلام للأوضاع القائمة، خصوصا وان الأكثرية الساحقة لأبناء الأمة كانت معزولة عن القرار السياسي، وهم الشيعة الذين يشكلون الأكثرية في العراق، خصوصا المنتمين إلى الشعب العربي، وكذلك الأكراد الذين يمثلون أكثرية أهل السنة في العراق.

وكانت الأوضاع في العراق تدار من قبل طبقة من السياسيين النفعيين والموظفين الاداريين، الذين ورثوا السلطة من العهد العثماني حيث بادروا إلى التعاون و الاتفاق مع الغزاة الانكليز، للقيام بدور النيابة عنهم في هذا المجال.

وقد حاولت الأمة في بعض الأدوار الانتفاضة على هذه الأوضاع، الا انها سرعان ما كانت تتعرض للقمع أو الخداع، الأمر الذي ادى إلى أن تصاب بهذا المرض النفسي السياسي.

كما ان الأحزاب السياسية الدخيلة حاولت أن تعبئ الأمة في العراق على مفاهيمها و مبادئها المستوردة و أهدافها السياسية، و لكنها فشلت أيضا في نهاية المطاف.

و لذا كان الدور الذي قام به الإمام الحكيم (قدّس سرّه) في تعبئة الأمة على الجهاد و التضحية، و المواجهة، و توعيتها سياسيا على حقوقها المشروعة عملا عظيما في هذه الفترة الزمنية الحساسة [3].

وقد حقق الإمام الحكيم (قدّس سرّه) ذلك من خلال الخطوط السياسية والعملية التالية:

الأول: تربية الأمة على الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، و تحسيسها بضرورة تحملها لهذه المسؤولية، و المساهمة في تكوين الأوضاع العامة، و المشاركة في القرار السياسي، و الرقابة على نشاطات الحكم.

الثاني: إخراج الأمة عن عزلتها السياسية، من خلال الممارسة للنشاطات السياسية، وتعبئتها عمليا في هذا المجال، وتصدي المرجعية بنفسها للعمل السياسي، و منحه الصفة الشرعية بعد محاولات الاستعمار لفصل الدين عن السياسة.

الثالث: إعطاء المرجعية دورها، وقيمتها الحقيقية، وموقعها الطبيعي القيادي من خلال التصدي لتحمل مسؤولية هموم الأمة و قضاياها المصيرية، والعمل على تحقيق المصالح العامة الأساسية للناس، والمطالبة بحقوقهم، وتحمل الآلام، و المعاناة، والصبر من أجل التصدي لهذه النشاطات، والوقوف بوجه الظالمين و الطغاة.

و عدم التخلي في نفس الوقت عن ممارسة الأعمال الدينية كالفتوى، و القضاء، و الولاية للأمور، أو ممارسة النشاطات الإسلامية كالتعليم، و التربية، و التبليغ للمفاهيم و الأحكام و الوعظ و الإرشاد و النصيحة.

الرابع: دعم النشاطات السياسية النظيفة، والحركات الإسلامية في الأوساط (الشيعية)و(السنية)، وكذلك دعم أعمال التصدي للظالمين من قبل المظلومين، و الدفاع عنهم و تبني قضاياهم.

الخامس: الانفتاح على الجماعات و الأوساط المختلفة، سواء الأوساط الشعبية أو السياسية أو الدينية.

وبهذا الصدد نشير إلى الانفتاح الذي حققه الإمام الحكيم (قدّس سرّه) على الجماعات الكردية، و العلماء من أهل السنة، و بعض أوساطهم الاجتماعية، بل و الانفتاح حتى على الطوائف الدينية الأخرى، مثل المسيحيين.

هذا الانفتاح الذي أكد الوحدة الإسلامية بين المسلمين، و وحدة أبناء الوطن الواحد، وضرورة أن يعيشوا فيما بينهم بطمأنينة و استقرار، و يعملوا على تحقيق العدل و الرفاه و حكم اللّه في الأرض، و يتحملوا مسؤولية المصير الواحد المشترك.

 

الهوامش

[1] لكل واحد من هذه العناوين توجد شواهد و أمثلة تشكل بمجموعها سبقا لمرجعية الإمام الحكيم و قد أعرضنا عن ذكرها اختصارا للوقت.
[2] هناك أرقام و أمثلة كثيرة تشهد بذلك أعرضنا عن ذكرها خوفا من الإطالة.

[3] الحديث عن موضوع الجهاد السياسي للإمام الحكيم و الأعمال التي قام بها في هذا المجال و كذلك معالم جهوده و تضحياته تحتاج إلى حديث مستقل واسع لم نتناوله في هذه المقدمة و لذا اكتفينا بالإشارة إلى جانب منه يرتبط بالمرجعية و نظرتها إلى مفردة الأمة.

 

 

المصدر: تقديم آية الله السيد محمد باقر الحكيم “ره” لكتاب دليل الناسك تألیف آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم وهي وجيزة على مناسك الحج، الذي ألّفه استاذه المعظّم المرحوم الميرزا حسين الغروي النائيني، قدّس اللّه روحهم. 

تحميل الكتاب

دلیل الناسک

 

almojam

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky