إن القرآن خال – والسنة النبوية الصحيحة كذلك – من أي إشارة لتحريم زواج المسلمة بالكتابي الذي يدين بدين سماوي غير الإسلام . في حين نجده يصرّح بإباحة الكتابية للرجل المسلم . وسكوت المشرّع عن اقتران المسلمة برجل من أهل الكتاب ليس عبثيا، فالقرآن لا يسكت عن المحرّمات والمنكرات . فسكوته تصريح ضمني بأن هذا النوع من الزواج موكول للمجتمع المسلم، إن شاء قبله أو رفضه لأسباب دنيوية وليس دينية تشريعية
الاجتهاد: يعيد موقع “اسلام مغربي” نشر الحوار الذي أجرته الصحفية “سميرة فرزاز” مع الأستاذ “محمد ابن الأزرق الانجري”، أستاذ الدراسات الإسلامية والباحث في الفكر والفقه وخريج دار الحديث الحسنية. وهذا نص الحوار الذي نشر أخيرا بجريدة الأحداث المغربية حول موضوع زواج المسلمة من غير المسلم:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بداية ، أشكرك أستاذة سميرة فرزاز ومعك جريدة الأحداث المغربية على سعيكم لإجراء هذا الحوار تنويرا للمجتمع وانفتاحا على الآراء المختلفة المتنوعة .
تونس أباحت الزواج بين مسلمة وكتابي أو أجنبي كما جاء في القانون عندهم ، ما رأيكم في هذا أولا ؟
لقد تابعت القرار التونسي وتفاعلت معه في حينه عبر منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي . ورأيي أن ما أقدمت عليه تونس من خطوة جرّيئة لا حرج فيه ولا مشكلة من الناحية الدينية وإن رأى في ذلك الوعي الجمعي للفقهاء منكرا وزورا . إن القرآن خال – والسنة النبوية الصحيحة كذلك – من أي إشارة لتحريم زواج المسلمة بالكتابي الذي يدين بدين سماوي غير الإسلام . في حين نجده يصرّح بإباحة الكتابية للرجل المسلم . وسكوت المشرّع عن اقتران المسلمة برجل من أهل الكتاب ليس عبثيا، فالقرآن لا يسكت عن المحرّمات والمنكرات . فسكوته تصريح ضمني بأن هذا النوع من الزواج موكول للمجتمع المسلم، إن شاء قبله أو رفضه لأسباب دنيوية وليس دينية تشريعية .
لقد تحدّث القرآن عن تحريم زواج المسلمة بالمسلم الزاني المعروف عندها وفي المجتمع بالسفاح والفجور والعهر، فقال في سورة النور – الآية 3 : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ، وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) .
ونهى عن زواج المسلمة بالمشرك الداعي إلى النار، فقال في سورة البقرة – الآية 221 : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ، أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ) . فلماذا يسكت إذن عن زواج المسلمة بالكتابي على الرغم من وجود أهل الكتاب اليهود والنصارى بكثرة في الحجاز ، بل وفي المدينة المنورة وجوارها ؟
إن الأمر الذي يسكت عنه الشارع الحكيم موكول لتقديراتنا واجتهادنا بعبارة واضحة. وقد كانت بعض المناطق النصرانية تعلن إسلامها وخضوعها لدولة النبي صلى الله عليه وسلم، ويحافظ بعض الرجال على دينهم، فما ثبت أن النبي أصدر أمرا بتطليق المسلمات من أزواجهنّ النصارى، ولا فعل ذلك واحد من الخلفاء الراشدين بعده. ولا حجّة في النهي عن الزواج بالمشرك، لأنه غير الكتابي.
ومن جهة ثانية، فالقبائل المشركة المجاورة للمدينة والمحيطة بها – أيّام النبوة – كانت في حالة عداوة وحرب مع المسلمين. فالزواج بالمشرك يعني الالتحاق به في قبيلته المحاربة المعادية للمسلمين لعامل الدين وليس السياسة أو الاقتصاد. ومن المنطقي أن يفرض المشرك في تلك الحال على زوجته المسلمة أن تتخلّى عن دينها وإلا فتنها بالتعذيب النفسي أو الحسي . فجاء النهي عن تزويج المسلمة للمشرك مفسّرا بعلّته تلك في قوله تعالى عن الأزواج المشركين : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ) .
فعداوتهم وحربهم للمسلمين وتجسّسهم عليهم ودعوتهم للنار عبر الفتنة، كل ذلك علّة معقولة لنهي القرآن عن مصاهرة المسلمين زمن التنزيل للمشركين، وهو الداعي لآية سورة الممتحَنة:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) فإنها تنهى عن إعادة المؤمنات المهاجرات من مكة إلى أزواجهن المشركين الكفّار المعادين المحاربين. وهذه العلّة مرتفعة اليوم في غالب الدول نظرا لوجود قوانين تحمي الحقوق الفردية المتعلقة بالدين والدنيا. فلا خوف على المسلمة من الزوج الكتابي أو الأجنبي.
هل يمكن تطبيق هذا الأمر في المغرب أو طرحه للنقاش ؟
إن المغرب بوابة إفريقيا إلى أوروبا ، وقبلة سياحية عالمية ، وله جالية بالملايين في الغرب ، وقد بدأ زواج المغربيات بالأجانب يظهر ويكثر شيئا فشيئا ، في داخل المغرب عبر الاحتيال بخصوص الديانة ، وخارجه أيضا . فطرح مسألة زواج المسلمة بغير المسلم للنقاش أمر حتمي يفرض نفسه بقوة ، والمشرّع المغربي ملزم بالتعامل مع هذه المستجدات بروح الانفتاح والعقلانية الواقعية ، فالمنع لا يفيد في مثلها لوجود ثغرات كثيرة في جدار أي قانون . وعلى الفقهاء المغاربة أن يعيدوا النظر في الموضوع بعيدا عن التقليد للقدامى في اجتهاداتهم وأفهامهم المرتبطة بظروفها العقدية والسياسية والحربية .
ما رأيكم في بعض الأحكام التي تستدعي الاجتهاد والتي لا يتجرأ عليها أحد ؟
إن الاجتهاد انطلاقا من مقاصد التشريع وقيّمه القائمة على الواقعية والعدل والمساواة والسلم والتعايش … مطلب حتمي في كل عصر . وفقهاؤنا كما تقدم متحتّم في حقهم شرعا ومصلحة أن يتحرروا من الارتهان لاجتهادات الماضين فيما يتعلق بالشئون الدنيوية كافة من سياسة واقتصاد ومجتمع …
وهناك قضايا تطرح نفسها بقوة لايزال فقهاؤنا يرددون بخصوصها أحكاما عتيقة نابعة من الثقافة والعرف والمستوى المعرفي القديم ناهيك عن العوامل السياسية والاجتماعية.
والفقهاء للأسف متوقفون عند اجتهادات السلف والخلف إما تقديسا لها وظنا أنها نهائية مطلقة لا تقبل النقض، أو خوفا من فتح باب الاجتهاد والاصطدام بالإرهاب الفقهي الذي يمارسه بعض ” الفقهاء ” و”الدعاة” وأصحاب “الإسلام السياسي”. ويحدونا الأمل في أصوات متباعدة بدأت تفكّر باستقلالية من داخل الحقل الديني والفقهي . ألا وإن الواقع أقوى من أي فكر، وسيفرض نفسه على الفقيه مهما تحصّن ، والغلبة للأقوى ، وهو الواقع لا محالة .