الاجتهاد: ينظر الأكاديميون والمثقفون عندنا بارتياب لأعمال المستشرقين. هذا الارتياب ينبع من ارتباط هذه الأعمال التاريخية بمحاولات الغزو والاستعمار وتطويع الشعوب.
في العصر الحديث سوف تتطور الأعمال والدراسات الاستشراقية، لتصبح أقساماً في الجامعات الغربية تحت مسمى الدراسات الشرقية التي تشمل في العادة اللغة العربية، وغيرها من لغات المنطقة، إضافة إلى التاريخ والأنثربولوجيا والسياسة والأديان، وعلى رأسها الإسلام.
يمكننا أن نشارك المتشككين رؤيتهم وشكهم، وأن نتفق معهم حول نقطة أن أغلب الدراسات التي تمت عن المنطقة كانت تهدف لتقديم قراءة عنها للغزاة، الذين كانوا يتأهبون لدخولها، أو أولئك الذين دخلوها بالفعل وأرادوا أن يعرفوا عنها مزيداً من التفاصيل، إلا أننا نقول إنه كانت لهذه المدارس الاستشراقية فوائد لا تخفى، بل إنها، في كثير من الأحيان سدت ثغرات مهمة ونبهت إلى أماكن مظلمة لم يكن العقل العربي أو المسلم قد تطرق إليها، سواء بسبب الانقطاع عن البحث العلمي الجاد، كما كان حادثاً في أواخر العهد العثماني، أو بسبب الكسل وضيق الأفق وانخفاض سقف حرية البحث العلمي، وهي جميعها أعراض نعاني منها، أو من أكثرها اليوم، وتتسبب في جعل أغلب دراساتنا وبحوثنا الأكاديمية تدور في حلقات مفرغة خالية من الإبداع، ومعتمدة على اجترار القديم من المنجزات.
من الإنصاف هنا الإقرار بذلك الصبر الذي تمتع به المستشرقون، والذي جعلهم يغرقون في متون المجلدات القديمة ويقتلونها شرحاً وتحليلاً ونقداً، وهي المكتوبة بلغة غير لغتهم، بل لغة توصف بالصعوبة حتى من قبل أبنائها، في الوقت الذي كانت فيه كليات ومعاهد الدراسات الشرعية، في غالبها، منفصلة عن الواقع، وغارقة في تحفيظ أمهات الكتب القديمة في مجال الفقه والعبادات وأصول الدين.
باستثناء نماذج نادرة لم يكن لدينا باحثون بالمعنى، بل مشايخ تلقين، يحاربون أي مساعٍ للتطوير والتجديد، بحجة أن هذه العلوم لا تقبل التجديد، وهو أمر صحيح بالنسبة لأمور العقيدة، ولكنه ليس صحيحاً البتة بالنسبة للمناهج العلمية التي تدرس هذه العقيدة، والتي يجب أن تتجدد وأن تتطور وأن تساير روح العصر ومتغيرات الحياة.
من أمثلة الأعمال الأكاديمية الاجتهادية الصادرة عن جامعة غربية، الموسوعة التي أنجزتها جامعة برينستون حول الفكر السياسي الإسلامي (2013) التي نوه بأهميتها خليل العناني، الأستاذ الذي درس هو نفسه ودرّس في الجامعات الغربية، حيث لفت في مقال له إلى كون هذا العمل فريداً من نوعه، وأنه قد تشاركه نخبة من الأساتذة من مختلف أنحاء العالم.
لا يمكنني أن أحكم على هذه الموسوعة، فأنا لم أطلع عليها، وإن كنت أتوقع أن تثير الكثير من عواصف النقد إذا تمت ترجمتها إلى اللغة العربية، خاصة أنها اعتمدت على باحثين هم في معظمهم من غير المسلمين، أو يعيشون خارج البلدان الإسلامية، وهو في حد ذاته مثار نقد، إلا أن الغريب هو أن تأتي هذه الفكرة المهمة، التي تهدف لجمع معلومات عن كل المنظرين السياسيين في العالم الإسلامي، وكل الحركات والجماعات، بل حتى المدن، أن تأتي من جامعة غربية وليس من جامعة من جامعات المشرق.
أقول إنه، وبغض النظر عن الشكل النهائي الذي خرجت به هذه الموسوعة، فإن مما لا شك فيه أنها ستكون قد قدمت إطاراً يمكن البناء عليه أو حتى الاختلاف معه، وهنا يأتي دور الباحثين والمتخصصين من العرب والمسلمين للإدلاء برأيهم ودلوهم في ما يتعلق بتقييماتهم الأكاديمية.
إلا أن هذه الموسوعة ليست المثال الوحيد، بل إن الأمثلة هنا لا تكاد تحصى، ابتداءً من الأعمال التي لا يمكن تجاوزها ككتاب «وصف مصر» الفريد من نوعه، رغم ارتباطه بحملة نابليون، ونهاية بالموسوعات الكبيرة المتخصصة التي تزخر بها اليوم الجامعات والمعاهد الغربية.
أما الأعمال التي أنجزها أفراد فلم تخل من تنوع هي الأخرى. يكفي أن أمثّل هنا 4بما أنجزه الألماني ماكس فون أوبنهايم (1860-1946) من موسوعة شاملة للقبائل العربية ومساراتها، أو ما وضعه البريطاني ريتشارد هيل (1901-1996) من معجم للسير الذاتية لأشخاص وشخصيات عاشت أو مرت بأرض السودان منذ أقدم العصور وحتى عام 1948، أو إن شئنا مثلاً قريباً فيمكننا التمثيل بالألماني ستيفان ويبر، الذي كتب بتفصيل في موضوع دمشق العثمانية، أو بأعمال وبحوث أليكساندر كنيش من جامعة ميتشغان وعلى رأسها كتابه الذي صدر الشهر الماضي تحت عنوان «الصوفية».
التمثيل بهذه الأعمال أو غيرها لا يعني أنها كاملة وشاملة وتخلو تماماً من أي غرض أو خطأ، فقد كان لكثير من الباحثين غرض في أنفسهم من وراء كل هذا البحث والتنقيب، وهي حقيقة ذكرناها ولا مجال لإنكارها، خاصة حين يتعلق الأمر بالدين الإسلامي،
الذي أراد كثير من الغربيين انتقاده أو الانتقاص من قدره، عبر التبحر فيه، ساعين لاكتشاف نقاط الهشاشة فيه. هذا ما ظلوا يحاولونه وهم يستخدمون ويوظفون المدارس النقدية والفلسفية، ساعين تارة إلى تفكيك نصوصه وتارة أخرى إلى التعامل معها كنصوص تاريخية أنتجها عصرها، إلا أنني لم أحب أن أقف كثيراً عند هذه النقطة، خاصة أن مئات من الباحثين عندنا تفرغوا لنقد ما يضعه المستشرقون.
ما أردت التنبيه إليه هو أننا لا نستطيع أن ننكر ما تم بذله من جهود، خاصة أنها قدمت، وتقدم اليوم، ما تعجز مؤسسات كبرى عن إنجازه، فعلى صعيد الموسوعات ما تزال تجاربنا ضعيفة وفقيرة، بل إنك تجد أحياناً اختلافاً بين جهات رسمية مختلفة داخل البلد الواحد حول مسائل ابتدائية كعدد السكان مثلاً، أو نسبة أصحاب الديانات المختلفة، أو إحصائيات الموارد، وكذلك الأمر في التاريخ الذي نعيش معضلة تجاهه، فلا نحن قادرون على الاتفاق على تفاصيله، بما فيه تفاصيله القريبة، ولا نحن راضون عن المنجز الغربي الذي لا مفر من الاعتماد عليه لعدم وجود بديل.
قد يطل سؤال آخر برأسه هنا وهو التالي: هل يمكن أن تعد كل هذه العلوم التي ذكرناها جزءاً من الدراسات الإسلامية، حتى نتحدث عن إسهام المستشرقين والغربيين فيها؟ في الواقع فإن الأمر هنا يعتمد على منظور المتلقي وتعريفه للمقصود بالدراسات الإسلامية، فإن كان يحصرها في علوم الفقه والشريعة فهو بالتأكيد لن يعنيه ما ذكرناه من إسهام في حقول التاريخ والأنثربولوجيا والفكر السياسي،
وللأسف فإن هذه هي حالة الغالب من الشخصيات والمؤسسات الأكاديمية عندنا التي تخلق فصلاً حاداً بين علوم الدين والدنيا، وذلك بعكس المدرسة الغربية التي تجمع علوم اللغة والدين والسياسة والثقافة الشرقية والإسلامية تحت سقف واحد، سامحة للطلاب بالتنقل والتزود من المعارف التي يكمّل بعضها بعضاً.
أما إسهام المستشرقين والأكاديميين الغربيين الأهم، الذي يجب أن يستفاد منه، فيكمن في ردم هذه الهوة المتوارثة بين العلوم المختلفة، التي تخيّرك زبشكل قاسٍ بين التفرغ والانقطاع التام للعلم الشرعي البحت أو التخصص في ما سواه من علوم. صحيح أن هناك الآن، وفي أكثر من بلد، خطوات أكاديمية وبحثية لا يمكن التقليل من شأنها تهدف لخلق ذلك المزيج وتسعى لردم الهوة، إلا أنها ما تزال حتى الآن محل تجريب وتشكك.
د. مدى الفاتح: كاتب سوداني