الاجتهاد: أقدمت السلطة علىٰ إلغاء امتياز البيت الهاشمي بالموروث النبوي، وذلك لتقوية مركزها السياسي، والاستعانة به في دعم الكيان السياسي للسلطة، ولذا قال عمر لأبي بكر لمّا كتب بفدك لفاطمة (عليها السلام): ممّاذا تنفق علىٰ المسلمين وقد حاربتك العرب (١) ؟
ولسلب القدرة الاقتصادية من أهل البيت (عليهم السلام) التي قد تمكّنهم من استعادة سلطانهم المسلوب، وذلك بقطع الشريان الاقتصادي الذي يغذّي الخلافة الشرعية للرسول (صلىاللهعليهوآلهوسلم) والمعارضة المتوقعة من بيت الزهراء (عليها السلام) ، والاطمئنان من أي حركة تستهدف الحكم.
ولو أغضينا عن تركة النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) في خيبر وبني النضير والمدينة وسهم ذي القربىٰ ، فإنّ فدك وحدها كان دخلها أربعة وعشرين ألف دينار في كلِّ سنة ، في رواية الشيخ عبدالله بن حماد الأنصاري ، وفي رواية غيره: سبعين ألف دينار (٢) ، وإنّها كانت تغلّ في أيام عمر بن عبدالعزيز عشرة آلاف دينار (3). وقيل: أربعون ألف دينار (4).
ونقل ابن أبي الحديد عن علي بن تقي من بلدة النيل (5) أنه قال: كانت فدك جليلة جداً، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل ، وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة (عليها السلام) عنها إلّا ألّا يتقوىٰ علي بحاصلها وغلّتها علىٰ المنازعة في الخلافة ، ولهذا أتبَعَا ذلك بمنع فاطمة (عليها السلام) وسائر بني هاشم وبني المطلب حقّهم في الخمس، فانّ الفقير الذي لا مال له تضعف همّته ويتصاغر عند نفسه، ويكون مشغولاً بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرياسة (6).
وكانت السلطة تدرك البعد السياسي لمطالبة الزهراء (عليها السلام) بالحقوق المالية لأهل البيت (عليهم السلام) وعامة بني هاشم ، وأنّها (عليها السلام) اتخذت من تلك المطالبة عنواناً لثورتها علىٰ السلطة التي لا تستمد بقاءها بغير منطق القوة والسطوة ، والزهراء (عليها السلام) إنّما طالبت كي تبيّن الحق وتعرّي السلطة، وتلقي الحجة علىٰ الاُمّة التي انقلبت علىٰ تعاليم السماء ، وتنكرت لنهج النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) ووصاياه.
ولهذا اجتمع رأي رجال السلطة علىٰ منع الزهراء (عليها السلام) من جميع حقوقها المترتبة لها بعد موت النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم)، حتىٰ ولو كان إحساناً أو تكرماً ، وبقي أبو بكر لا يحير جواباً أمام منطق الزهراء (عليها السلام) القائم علىٰ الكتاب المبين وسُنّة النبي الأمين (صلىاللهعليهوآلهوسلم) غير أن يقول لفاطمة (عليها السلام) : ما كان لك أن تسأليني ، وما كان لي أن أعطيك (7).
فلو تنازلت السلطة أمام مطالب الزهراء (عليها السلام) وأذعنت لحجّتها البالغة ودليلها الساطع ، كان ذلك بمثابة اعتراف لما بعد فدك من الموروث النبوي الذي منه الخلافة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وعترة النبي المعصومين (عليهم السلام) ، وهذا ما صرّحت به الزهراء (عليها السلام) في خطبتها المشهورة ، وإزاء هذا كان علىٰ السلطة أن تبيّن لعامة المسلمين أنّ فاطمة (عليها السلام) تدّعي ماليس لها بنحلة ، وتطالب ماليس لها بميراث ، وتريد لعلي (عليهم السلام) الملك وليس له بحقّ !
قال ابن أبي الحديد : سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد ، فقلت له : أكانت فاطمة صادقة ؟ قال : نعم. قلت : فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة ؟ فتبسّم ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته : لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها ، لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيءٍ ، لأنّه يكون قد سجّل علىٰ نفسه أنّها صادقة فيما تدّعي كائناً ما كان من غير حاجة إلىٰ بينة ولا شهود ، وهذا كلام صحيح ، وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل (8).
ولهذا استباح أبو بكر ردّ دعوىٰ الزهراء (عليها السلام) في النحلة ، ورفض شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) لها، وادّعىٰ حديث منع الإرث ، ومنع سهم ذي القربىٰ عن مستحقيه.
ومن هنا فقد اكتسبت نحلة الزهراء (عليها السلام) بعداً سياسياً ومعنىً رمزياً ، وهو الخلافة المغتصبة ، وتجاوزت كونها أرضاً وادعة في أطراف الحجاز قدّمها رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) هدية لابنته الزهراء (عليها السلام) بأمرٍ إلهي ، لتصبح غاية سياسية تستهدف استرداد حق مسلوبٍ ، وفضح سلطان متجبر غاشم ، وتنبيه أُمّة رجعت علىٰ أعقابها القهقهرىٰ ، فوردت غير مشربها ، وسقطت في الفتنة تاركة الكتاب والعترة النبوية وأضواء السُنّة المحمدية.
ويتضح المعنىٰ الرمزي لنحلة الزهراء (عليها السلام) في حديث الإمام الكاظم (عليه السلام) مع هارون الرشيد الذي نقله الزمخشري في (ربيع الأبرار) قال: كان الرشيد يقول لموسىٰ الكاظم بن جعفر (عليه السلام): يا أبا الحسن، حدُّ فَدَكَ حتىٰ أردّها عليك، فيأبىٰ حتىٰ ألحّ عليه، فقال: « لا آخذها إلّا بحدودها، قال: وما حدودها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن حددتها لم تردّها. قال: بحقّ جدّك إلّا فعلت. قال: أما الحدّ الأول: فعدن، فتغير وجه الرشيد، وقال: هيه ! قال: والحدّ الثاني: سمرقند، فاربدّ وجهه، قال: والحدّ الثالث: أفريقية، فاسودّ وجهه ، وقال : هيه ! قال : والرابع سِيف البحر ممّا يلي الخزر وأرمينية.
قال الرشيد : فلم يبقَ لنا شيء ، فتحوّل في مجلسي. قال موسىٰ (عليه السلام) : قد أعلمتك أنّي إن حددتها لم تردّها » (9). فهي إذن رمز لحقّ مغتصب وخلافة مسلوبة.
ويتضح الهدف السياسي جليّاً في اختلاف وجهة النظر السياسية فيها علىٰ مسار التاريخ : « فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين » فتاريخها لا يستقيم علىٰ نحو واحد ، وإنّما كان يجري علىٰ وفق أهواء السلطات السياسية ، ومطامع الحكام الشخصية ، ومواقفهم من أهل البيت (عليهم السلام).
فقد أقطعها عثمان بن عفان لمروان بن الحكم (10) ، ولا ندري ما وجه تخصيص مروان بفدك ، فان كانت ميراثاً ففاطمة (عليها السلام) وأولادها أحقّ بها ، وإن كانت فيئاً ، فما وجه تخصيص مروان بها وهو طريد رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم)وابن طريده ؟! هذا مع ما عرف عنه من مكرٍ وخداعٍ وانحرافٍ وعداءٍ لآل محمد (صلىاللهعليهوآلهوسلم)!!
وروىٰ الجوهري بالاسناد عن ابن عائشة، قال: حدثني أبي، عن عمّه، قال: لما ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلث فدك، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها، وأقطع يزيد بن معاوية، ثلثها، وذلك بعد موت الحسن بن علي (عليه السلام)، فلم يزالوا يتداولونها حتىٰ خلصت كلّها لمروان بن الحكم أيام خلافته، فوهبها لعبد العزيز ابنه، فوهبها عبدالعزيز لابنه عمر بن عبدالعزيز، فلمّا ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة، كانت أول ظلامة ردّها، دعا الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، وقيل : بل دعا علي بن الحسين (عليه السلام) فردّها عليه.
وكانت بيد أولاد فاطمة (عليها السلام) مدّة ولاية عمر بن عبدالعزيز ، فلمّا ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم. فصارت في أيدي بني مروان، كما كانت يتداولونها، حتىٰ انتقلت الخلافة عنهم، فلما ولي أبو العباس السفاح ردّها علىٰ عبدالله بن الحسن بن الحسن، ثمّ قبضها أبو جعفر لما حدث من بني حسن ما حدث، ثمّ ردها المهدي ابنه علىٰ ولد فاطمة (عليها السلام) ، ثمّ قبضها موسىٰ ابن المهدي وهارون أخوه ، فلم تزل في أيديهم حتىٰ ولي المأمون، فردّها علىٰ الفاطميين ، وأنشد دعبل الأبيات التي أولها :
أصبح وجه الزمان قد ضحكا بردّ مأمونِ هاشمٍ فَدَكا
فلم تزل في أيديهم حتىٰ كان في أيام المتوكل ، فأقطعها عبدالله بن عمر البازيار ، وكان فيها إحدىٰ عشرة نخلة غرسها رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) بيده، فكان بنو فاطمة (عليها السلام) يأخذون تمرها، فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم ، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل، فصرم عبدالله بن عمر البازيار ذلك التمر ، ووجّه رجلاً يقال له بشران بن أبي أُميّة الثقفي إلىٰ المدينة فصرمه ، ثمّ عاد إلىٰ البصرة ففلج (11).
وجميع هذه التقلّبات التي مرّ بها تاريخ فدك ، تحكي لنا البعد السياسي لمسألة فدك في التاريخ ، وتلقي الأضواء الكاشفة علىٰ قيمة الحديث الذي جاء به أبو بكر مضاداً لكتاب الله تعالىٰ وسُنّة رسوله الكريم (صلىاللهعليهوآلهوسلم). هذا فضلاً عمّا اثبتته الزهراء (عليها السلام) من استحواذ السلطة علىٰ ميراثها ولو بالكذب علىٰ رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم).
الهوامش
١) السيرة الحلبية ٣ : ٣٦٢.
٢) كشف المحجة / ابن طاووس : ١٨٢.
3) صبح الأعشىٰ ٤ : ٢٩١.
4) سنن أبي داود ٣ : ١٤٤ / ٢٩٧٢ ـ باب في صفايا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
5) بلدة تقع في سواد الكوفة قرب الحلة.
6) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.
7) فتوح البلدان / البلاذري : ٤٥. ومعجم البلدان / ياقوت ـ فدك ـ ٤ : ٢٧٣. والعقد الفريد / ابن عبد ربه ٦ : ١٧١.
8) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٨٤.
9) ربيع الأبرار / الزمخشري ١ : ٣١٦. والمناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٢٠. وبحار الأنوار ٤٨ : ١٤٤ / ٢٠.
10) السيرة الحلبية ٣ : ٥٠، شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٦. العقد الفريد ٥ : ٣٣. وتاريخ أبي الفداء ٢ : ٧٩. والسنن الكبرىٰ / البيهقي ٦ : ٣٠١.
11) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٦ ـ ٢١٧. والسقيفة وفدك / الجواهري : ١٠٣. وراجع : فتوح البلدان / البلاذري : ٤٥ ـ ٤٦. ومعجم البلدان / ياقوت ٤ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣. والطرائف / ابن طاووس : ٢٥٢ ـ ٢٥٣. والكامل في التاريخ ٣ : ٣٤٨ و ٤٥٧ و ٤٩٧ ، و ٥ : ٦٣ ، و ٧ : ١١٦.
المصدر: كتاب سيّدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، للمحقق علي موسى الكعبي