الاجتهاد: انطلق “شاخت” في كتابه “ أصول الفقه المحمدي ”من البحث الحديثي لتمهيد الطريق لمناقشة أصول الفقه وقواعده العلمية مع الشافعي.
إن أغلب الأفكار المتداولة عن“الشافعي”مصدرها“شاخت” وأستاذه “غولدزيهر”، وما وقع لقارئ بحوث تلامذة المستشرقين وتوابعهم من أهل الشرق وغيرهم، كالقارئ المبتدئ الذي تلاشى إعجابه بأفكار كاتبه بمجرد اطلاعه على أصول ما قرأ ومنابعه الأولى، فوجد كل شيء منقولًا منها، ليكتشف متأخرًا حقيقة الانتحال المزيف الذي استغفل القارئ، إما بضعف اطلاعه وقلة باعه في الألسنة الأجنبية، أو لتأخر ترجمة تلك الكتب، مثل ما حدث له مع كتاب “أصول الفقه المحمدي” هذا.
تمهيد بأسئلة أولية:
1- في سؤال الاختيار: ويتصل بعلة اختيار كتاب “أصول الفقه المحمدي”، لـــ“جوزيف شاخت” للمراجعة؛ التي نعتبرها الأولى لهذا الكتاب في نسخته العربية المترجمة فيما نعلم، فالسؤال مشروعٌ؛ خاصة إذا علمنا تعددَ الدراسات الأصولية الاستشراقية قبل “شاخت”، ككتاب “العقيدة والشريعة” لغولدزيهر، وبعده كتاب “التطورات المبكرة في الإسلام”، لــ“د. س. مرغوليوث: D. S. Margoliouth”، وكتاب “الإسلام” لــ“هنريلامنس: H. Lammens”.وغيرها. ويمكن تعليل ذلك بأسباب ثلاثة:
أ- أن هذا كتاب اختصَّ بالنظر في أصول الفقه الإسلامي خلال مراحله الأولى، وخاصة لدى الشافعي.
ب-أن كاتبه هو أنجبُ تلامذة شيخ المستشرقين “غولدزيهر”، ومطور بعض نظرياته في البحث الفقهي، والأصولي.
ج- لأنه مستندُ باحثين عرب ومسلمين وغيرهم، في جملة نظريات مأثورة ورائجة عن التراث الفقهي الأصولي.
2- في سؤال الإشكال: ويتعلق بطبيعة الكتاب، هل هو مصنف في الدراسة الأصولية؛ أم هي جزء منه؟
الذي يظهر من خلال قراءة الكتاب أن غالبه في النقد الحديثي، وخاصة نقد الإسناد، أما البحث الأصولي، بمعناه الذي تمَّ التواضعُ عليه علمًا وتصنيفًا، فلا يشكل إلا نسبة ضئيلة، لذلك سوف أركز على الجانب الأكثر صلة بالأصول؛ ثم لأن مراجعة إشكالات السُّنة والحديث قد اضطلع بها غيري [2] بصورة كافية وشافية.
3- في سؤال المنهج: ويرتبط بالمسلك المعتمد في قراءتنا لكتاب “أصول الفقه المحمدي”؟ سوف لن أعتمد المسلكَ الانتقائي للنصوص لكشف التناقض فيه، كما فعل “شاخت” مع “الشافعي”؛ لأنه ظاهر لمن له مسكة دراية بتاريخ علم أصول الفقه، بل سأكشف زيفَ ادعاءاته، وخاصة المعتبرة في عداد الأسس التي بني عليها الكتاب برمته.
المطلبُ الأولُ: الشّافعي بين التميُّز المنهجي، والقصور المعرفي:
بقدر احتفاء “شاخت” بأعمال “الشافعي”، لا يُخفي انزعاجَه منه في كثير من آرائه ونتائجه، وحتى لا أستبق القول -جزمًا- بدوران أحكامه القيمية تلك مع هواه وانطباعه المنهجي؛ سيتم الإفصاحُ عن ذلك في حينه، وقد تحقَّق “شاخت” في دراساته من أن الفقهَ قد أدرك على يدي الشافعي درجةً غير مسبوقة من الكفاية والتفاني، لم يتمكن أحدٌ بعده من بلوغها أو تجاوزها[3]،
بل إن مسارَ النظر الفقهي الذي رسمه بقدراته العلمية، والحجاجية أضحى أنموذجًا في التفكير الفقهي المنهجي، بعدما كان يفتقر إلى التأسيس؛ لأنه “قد سار هذا الاجتهاد قدما ليتحول شيئًا فشيئًا إلى علمٍ قائمٍ، حتى جاء الشافعيُّ واستبعد كلَّ اجتهاد فردي اعتباطي باعتماد أسس ثابتة ومبدئية، وبتأكيد التفكير المنهجي الدقيق”[4].
ويعود التميز المنهجي الذي انفرد به “الشافعيُّ” حسب «شاخت»، إلى عاملين أساسهما لغوي ولساني، يوضحهما بقوله: “ويتميز تفكيرُ الشافعي بخاصيتين نموذجيتين، تتمثلان في استعماله السليم لتمييزات مأتاها فقه اللغة من ناحية، ولحججٍ لسانية من ناحية أخرى”[5].
لكن؛ كل هذه الإشادة الحذرة، لم تصمد أمامَ رغبته الفكرية في توجيه سهام نقده اللاذع، بل اتهاماته المرسلة نحو “الشافعي”، فيصفه تارة بالتحامل، وبالضعف في استثمار الحجج، وبالفشل في الفهم، واحتجاجه بالوعظ والخطابة دون العقل أحيانًا أخرى.
فيقول -مثلًا- ناعتًا “الشافعي” بالتحامل ضد أهل المدينة: “ويصل الأمر بالشافعي في هذا المجال إلى استعمال حجج فيها ضربٌ من التحامل ضد أهل المدينة”[6].
كما يبدي تعالمه على “الشافعي” في أحايين كثيرة، ويقيم رأيه وجهده بالفشل في فهم حجج الخصم، كأن يقول – مثلًا ـــ: “يقدم الشافعي في الكتاب، تعليلًا منهجيًّا متماسكًا على نحوٍ كافٍ، لكنه يفشل في فهم مغزى الحجة التي يتبناها أهلُ العراق”[7].
أما فيما يتعلق بالتنقيصِ من حُجَجِه، لكونها وعظيةً خاليةً من العقل، والتماسك المنهجي، فيقول: “ويُدرك إعمال العقل لدى الشافعي دائمًا هذا المستوى، لكنه لا يتخلى عن الأصل عندما يحتجُّ بما يُشبه الوعظ، فينطلق في تفكيره، من آثار مروية عن صحابةٍ هم على خلاف مع أئمة المذاهب القديمة”[8].
ورغم كل ما ذكره “شاخت” من مُنقصات في حقِّ “الشافعي”، يبقى الرجلُ في نظرِه مـمَيزًا في تفكيره، ومنهجيته الأصولية الدقيقة، ومبدعًا لما أسماه بـ”أصول الفقه المحمدي”؛ لأنه: “لا يمكن العوامل التي تحد من تعليل الشافعي، ولا الأخطاء التي تتخلَّله، أن تقلِّل من شأن المستوى الرفيع، الذي يميز تفكيرَه الفقهي الدقيق، والذي لم يسبق أن أدركه أحدٌ من الفقهاء؛ إذ يُعدُّ هذا التفكير دون أدنى شك، أرقى إنجازٍ فرديٍّ عرفه الفقه المحمدي”[9].
المطلب الثاني: الشافعي، والسنة:
لست مبالغًا إذا قُلت: إن مسألةَ السنة احتلَّت أغلبَ مطالب بحث أصول الفقه المحمدي، بل لست مجانبًا للصواب إذا جزمت بأنه بحثٌ في أسانيد السنة، وأثرها في التأسيسِ لأصول الفقه عند “الشافعي”؛ إِذْ لَمَّا تنتهِ من قراءة الكتاب لا تلمس ذلك الزخم الأصولي المفارق للنقد الحديثي.
ولست معنيًّا – هنا – بهذا الأمر كثيرًا إلا بما يمسُّ جوهرَ دراستي العلمية لسببين:
الأول: هو مراجعتي للقول الاستشراقي في النظر الأصولي كليةً عند “الشافعي”، وكيف تمَّ تقويمُه من قبل المستشرق “شاخت”؟
الثاني: أن نقدًا علميًّا وافيًا للمسألة؛ سبقني إليه الشيخان “مصطفى السباعي” في فريدته “السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي”، والشيخ “محمد مصطفى الأعظمي” في رائعته “دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه”، فقد أحسنَا الصنيعَ، ووفَّيا بالمراد بدقةٍ فائقة حتى قبل ترجمة الكتاب.
لقد عُدّ تبويءُ الشافعيِّ الحديثَ النبويَّ مكانتَه، إلى جنب القرآن، أعظمَ تنظير أصولي في نظر “شاخت”، الذي أبدى اندهاشَه من هذا المسلك في مظان عديدة؛ ولعل أبلغ تعبيراته قوله: “ويمثل تفضيله للأحاديث النبوية من حيث المبدأ، أعظم تجديد منهجي”[10].
بل: “إن الحجيةَ العليا لأحاديث النبي تمثل تجديدًا لم يتبنَّه أهلُ العراق بالوجه الأكمل في ذلك الوقت، كما لم يتولَّ الالتزام به بانتظام فقيهٌ آخرُ سوى الشافعي”[11]. ويبدو أن “شاخت” يستعمل كلَّ أساليبه، وحِيَلِه المنهجية، لتثبيت فكرته وتسويغها.
ومن دعاويه في ذلك:
1-دعوى التشكيك في الأحاديث:
أما التشكيك في قَبول الأحاديث، فما أعتقد أن “شاخت” ولا أستاذه “غولدزيهر” مؤهّلان لهذا المركب الصعب، والأمر الجلل، ولو صحت دعاويهم لانتبه إلى ذلك من هم أقدر منهم، على الفحص والتدقيق، بل على الجَرح والتعديل، الذين خلفوا تراثًا منهجيًّا قويمًا في التحقيق، والتدقيق بما يسدُّ كل الثغرات المفتوحة.
فهذه المسألة أرَّقت “شاخت” – ومن قبله – لأنها تُسيّج النظرَ الأصوليَّ، وتدعم قوته المنهجية في الفهم والنظر؛ الأمر الذي يجعلنا نفهم حقيقة مواصلة ادعاء “غولدزيهر”، ومتابعة تشكيكه في السنة.
بل إن “شاخت” يعتبر ما توصل إليه من نتائج تتجاوز النظر التشكيكي لأستاذه في الأحاديث، الذي أرجع غالبيتَها إلى مراحل متأخرة من تطور الفقه؛ إذ “لم يعبر غولدزيهر في أحد أعماله المهمة الأخرى عن تحفظه التشكيكي وحسب، حتى من الأحاديث المدونة في المجاميع التقليدية (الصحاح)، بل بيَّن – فضلًا عن ذلك – أن الغالبية العظمى من أحاديث النبي هي وثائق لا تعود إلى زمن النبي، التي تدعي أنها تنتمي إليه، وإنما تعود إلى المراحل المتعاقبة من تطور الشريعة في القرون الأولى للإسلام.
وقد أصبح هذا الاكتشاف البارز حجَرَ الأساس من كل بحثٍ جِدِّي، يتناول بدايات الشريعة والفقه المحمدي”[12]. ويضيف “شاخت” مصرحًا: “وهكذا تتضح أهميةُ الدراسة النقدية للأحاديث النبوية في بحثنا في أصول الفقه المحمدي، فهذا الكتابُ سيقوم على تأكيدِ النتائج التي يتوصل إليها “غولدزيهر”، وسيذهب إلى أبعد من هذه النتائج”[13].
ومبلغ علم “شاخت” في منهج دراسته هاته، أن يتوصل إلى خلاصات ناتجة، منها أن: “عددًا كبيرًا من أحاديث الأحكام التي تَرِدُ في المجاميع الحديثية، تعود في الأصل إلى ما بعد زمن مالك والشافعي”[14]. وهذا ما جعل الأعظميَّ أن يخلص قائلًا: “وخلاصة ما وصل إليه من نتائج أنه ليس هناك حديث واحد صحيح، وخاصة الأحاديث الفقهية، وصار هذا الكتاب منذ ذلك الحين إنجيلًا ثانيًا لعالم الاستشراق، وفاق “شاخت” سلفه “غولدزيهر”؛ حيث غير من نظرته التشكيكية في صحة الأحاديث إلى نظرةٍ متيقنةٍ في عدم صحتها”[15].
ولعل هذا الحكم الثقيل الصادر من باحث في التراث الإسلامي، ينمُّ عن تسرُّع كبير متبوع برغبة في التشكيك، هو ما امتلك خاطر “شاخت”؛ لأن تراثًا متماسكًا كالتراث الحديث بمنهجيته وطرقه ورجاله، يتطلب درايةً ثقيلةً من نفس المستوى لإصدار مثل ذلك الحُكم، مما يسوغ القولَ بأن مركب الجزم، بله التشكيك، عبارة عن مهاد نظري، وأساس نظرية اعتبار “الشافعي” المثبِّت الحقيقي والأساس لحجية السنة، أصلًا من أصول النظر الفقهي.
2- دعوى إنكار حجية السنة قبل الشافعي:
ولا شكَّ أن أوليةَ الاعتبار هذه التي صرَّح بها “شاخت” مبالغٌ فيها، ومآبها بالضرورة في نظري إلى ما ينبني عليها من نظرات، وأفكار يؤرخ بها لأصول الفقه الإسلامي. وتسويغًا لنتائجها، فإذا عُدَّ: “الشافعي أولَ فقيه ضبَط معنى السنة، بوصفها السلوكَ النموذجيَّ للنبي، على خلاف سابقيه الذين لم تكن السنة عندهم مرتبطةً به بالضرورة، بل مثلت سلوكَ الأمة النموذجي في الماضي..”[16]، فأين نضع جهودَ علماء قبل “الشافعي”، وهل انتظرت السنة كل هذه المدة حتى بدايات القرن الثالث.
كما يعتبر “شاخت” “الشافعيَّ” متمحلًا ومتناقضًا أحيانًا، بتصريحاتِه حول اتفاق ضمني مشترك بينه وبين العلماء في قَبول الحجية العظمى للسنة، وفي الوقت نفسه لم يقوَ على إقناعهم بدعواه؛ لأنه طفق يفرض عليهم رأيَه، بل: “ويدعي الشافعيُّ كما كان الشأنُ في آرائه حول الأحاديث النبوية، أن هذه الإضافةَ لآرائه إنما هي محلُّ اهتمامٍ مشترك بينه وبين خصومه، ويخص منهم أهلَ العراق، لكن يبدو من خلال مناظرات الشافعي المؤيدة بالأدلة، وكذلك من خلال بعض النصوص التي ترد مثلًا في الكتاب، أنه يفرض رأيَه عليهم، ويدحض نظريتهم، ويضعهم في وضعٍ يعجزون فيه عن إيجادِ مسوغ لموقفهم المختلف”[17].
والحقيقة، أن نواة هذه الفكرة ليست من بنات أفكارِ “شاخت” إطلاقًا، بل تعود – فيما نعلم – إلى أستاذه “غولدزيهر” في كتابه: “دراسات محمدية”، ونجزم أنه – هو الآخر- قد نقلها عن غيره، إما من دارسي التراث الإسلامي من أهل الشرق أو الغرب، وإن عبر عنها “غولدزيهر” بمسألة تطور “سلطان السنة”،
حيث أكد على: “أن سلطانَ السنة باعتبارها مبدأً فعالًا في حياة المسلم قديمٌ قِدَمَ الإسلام، وفي نهاية القرن الأول وضعت القاعدة التي تقول بأن “السنة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاضٍ على السنة“. وفضلًا عن ذلك، فإن مقارنة الشواهد المأخوذة من فترات زمنية مختلفة، تقود إلى استنتاج أن السلطة الممنوحة للسنة مع الأخذ في الاعتبار الآراء النظرية للدوائر الدينية قد تزايدت باستمرار مع الزمن”[18]. وهي الفكرة التي سوف تتلقفها الأقلامُ والألسن العربية والإسلامية فيما بعد.
وقد تتبع “شاخت” استدلالات “الشافعي” على “وحيانية” السنة، وقَبول حجيتها، فتوصل إلى النصوص القرآنية الداعمة، إما تفسيرًا كطاعةِ النبي من طاعة الله، أو تأويلًا كبيان مفهوم الحكمة بالسنة، ليخلص بقوله: “ويعتمد الشافعي في قبوله المطلق للأحاديث النبوية على نصوص قرآنية تأمر بطاعة النبي، ويؤول مصطلح الحكمة الوارد في القرآن مع مصطلح كتاب الذي يمثل الوحي السماوي، بأنه يحيل على السنة النبوية، التي عبرت عنها الأحاديث، ويسكت صاحب الأم عن مدى عد السنة النبوية وحيًا من الله شأنها شأن القرآن،
لكنه يقول مع ذلك: (وما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قطُّ إلا بوحي)… وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] مع ما فرض من طاعة رسوله”[19]. وقوله: (فما أحل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فيه حكم إلا بما أحله الله به، وكذلك ما حرم شيئًا قط فيه حكم إلا بما حرم بذلك أمر )[20]“[21].
3- دعوى تقديم القياس على السنة:
بين هذه الدعوى وسابقتها صلة؛ لأن تصديقَ دعوى إنكار حجية السنة، يلزم عنه تقديم إلحاق حكم الأصل النصي القرآني بالفرع عن إعمال الحديث، وإذا صحَّ ذلك مسلكًا عند الأئمة فلا يفهم منه إلا تقليلهم من شأن إعمال السنة، وهذا ما تكذبه الوقائع العلمية والمرويات الحديثية والحقائق التاريخية.
وينتج عن ذلك – أيضا – أن الدفاع عن السنة وتثبيت حجيتها من قبل “الشافعي” – كما زعم “شاخت” – فيها اعتبار أولية تلك الدعوى، والتأسيس المنهجي لديه. إنما هذا الزعم ستنقض عُراه بهدم لبناته التي تأسست عليه؛ ومنها:
أ- إثبات أن الأئمة لم يقدموا القياس على الحديث:
لم ينقل عن أئمة الفقه المؤسسين تقديمَهم القياس على الحديث في اجتهاداتهم، والذي زُعم أنه سلك ذلك المسلك هو الإمام “أبو حنيفة” وأصحابه، وقد تبيّن أن ذلك محض افتراء، أو أقل منه خلطًا وتوهمًا؛ لأنه لم يقدم القياس حال ورود حديث، ووصوله إليه، بل أعمل القياسَ في حالات غياب الحديث عنه، أو عدم معرفته به؛ لأن: “الأمر الذي فات “شاخت” هو: هل هذا الترك كان لعدم وقوفهم على السنة؟ أو لعدم احتجاجهم بالسنة؟ فإذا عجز “شاخت” عن فهم هذه الأصول، فلماذا أقدمَ على أمرٍ هو بعيد عن إدراكه؟”[22].
ب-إثبات أن الأئمة احتفوا بالحديث النبوي:
ومما يفند ادعاءات “شاخت” وأستاذه، احتفاءُ الأئمة بالحديث النبوي؛ إسنادًا وروايةً ودرايةً، فالإمام “أبو عبد الله مالك بن أنس” قد اشتهر بإمام دار الهجرة، وهو إمام من أئمة أهل السنة، وقد كان مما تُشدُّ إليه الرحال وتضرب له أكباد الإبل لأخذ الحديث وتعلم الرواية؛ “فهو أكبر من أن يتّهم بذلك؛ بل هو واحد من أساتذة مدرسة الأثر والحديث، وهو صاحب القول المأثور عنه: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر.
مشيرًا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كتاب “الموطأ” الذي يحتوي على ألف وسبعمائة وعشرين حديثًا، برواية أبي بكر الأبهري. قال السيوطي عنه: “إن الأحاديث الموصلة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحاح كلها، بل هي في الصحة كأحاديث الصحيحين”. وقال الإمام الشافعي: “لا أعلم كتابًا أكثر صوابًا من كتاب مالك”. حتى إن الإمام البخاري الذي يُعد كتابه أصحَّ كتب الحديث وأقواها، يعتبر سند مالك في بعض مروياته التي رواها أصحَّ الأسانيد، وهو مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة”[23].
ج-إثبات شروط تقديم القياس على الحديث:
وأما المسألة القاضية على ادعاء “شاخت” فهي ما أُثر عن الأئمة الأعلام من تقديمِ القياس على الخبر؛ إنما ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه في حالات مشروطة، والأصل في القياس أنه مشروعٌ ومأصول عند أغلبهم، إلا من شذ منهم كطائفة من الظاهرية وجماعة من الشيعة.
كما أن: “القياس على قسمين: قياس يخالف الكتاب والسنة، وهو مردود ومذموم، لم يأخذ به أحد، وقياس لا يخالف الكتاب والسنة، وهو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لعلة جامعة بينهما. وهو أمر ضروري لا بد منه، لوقوع كثرة الحوادث وعدم انتهاء المسائل. وإلى هذا أشار معاذ بن جبل وأقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم”[24].
والذي عليه أغلب العلماء، هو ذم تقديم القياس، والرأي ما أخر منه العمل بالحديث الصحيح، وهو ما لم يحصل عندهم، وأما الذي قُدم لأجل ضعف الخبر أو غيابه، أو التشكيك فيه، فلم يكن مظنة تشنيع، بل أغلبهم سلك هذا المسلك، ومنهم “أبو حنيفة”، الذي طال التهجم عليه.
وقد أشار ابن عبد البر إلى هذا ببيانه قائلًا: “أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة رحمه الله، وتجاوزوا الحد في ذلك، والسبب الموجب لذلك عندهم إدخاله الرأي والقياس على الآثار واعتبارهما، وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صحَّ الأثر من جهة الإسناد بطل القياس والنظر، وكان رده لما رد من الأحاديث بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي،… وما أعلم أحدًا من أهل العلم، إلا وله تأويل في آية أو مذهب في سنة، رد من أجل ذلك المذهب بسنة أخرى، بتأويل سائغ أو ادعاء نسخ، إلا إن لأبي حنيفة من ذلك كثيرًا، وهو يوجد لغيره قليلًا”[25].
المطلبُ الثالثُ: الشّافعي، وعملُ أهل المدينة:
لم تكن غاية “شاخت” من بحث أصل عمل أهل المدينة؛ أو ما أسماه: “السنة الحية” إلا تقوية لنظريته القائلة بتأسيس تثبيت الحديث عند “الشافعي”؛ وتعضيدًا لبنائها، وقد صرّح بذلك في أكثر من مناسبة؛
حيث قال: “ولا يتجه اهتمامنا في الوقت الحالي، إلا إلى تأكيد أن أهل المدينة كانوا في زمن مالك يعتقدون أنهم أحرار في رفض آثار الصحابة، وهم يقومون بذلك حسب قول الشافعي لأسباب غير مقنعة”[26]. ويضيف قائلًا: “ويجدر أن نُشير إلى أن الإجماع بالمدينة يحلُّ بطبيعة الحال محلَّ أخبار الآحاد المنقولة عن النبي والصحابة”[27].
والحقيقة؛ أن اعتماد الإمام “مالك” على ضرورة الأخذ بما جرى به العمل في المدينة المنورة. واستناده إلى عمل أهل المدينة لم يكن مبدؤه؛ وإنما كانت بدايته مع شيخه ربيعة الرأي الذي ذكر هذا المنهج في قوله: “ألف عن ألف خير من واحد عن واحد”. وهذا يفهم منه أنه كان يعتبر عمل جمهور أهل المدينة[28].
ولم يكن في ذلك آلية مواجهة وسلاح ضد “أبي حنيفة” بدعوى تلاعبه بالسنة- كما اعتقد “لامينس”– قبل “شاخت”، الذي ادعى: “أن شرف وضع الصيغة الأولى للإجماع يعود إلى مالك، مؤسس المدرسة المدنية. لأنه وجد فيه سلاحًا ضد أبي حنيفة، الذي اتهمه بالتلاعب بالسنة. وهي النظرية التي طورها الإمام الشافعي”([29]).
ولا شكَّ أن أهم أساس بُنِيت عليه المدونة بعد الأصول النقلية من قرآن وحديث هو عمل أهل المدينة، فالأصل هو الحديث، وما دعمه العمل كان أولى في الاعتبار عند مالك، وهذا عكس ما يدعيه “شاخت” ورفاقه، لأنه ولو: “لم يكن بالإمكان الاتفاق بين الشافعي وأهل المدينة، أو في الحقيقة بين الشافعي وأي مذهب فقهي قديم، فيما يخص نقطة الخلاف الجوهرية في النظرية الفقهية، التي تتعلق بتفوق سلطة الأحاديث النبوية بالقياس إلى السنة الحية للمذهب”[30]؛ فإن الخلاف لم يطل اعتبار الحديث ابتداء وقبوله، بل وقع بعض الخلاف في علاقة العلم بالعلم، أي: في شأن صلة الحديث بالعمل.
والمعروف على الإمام “مالك” أنه يقدم عمل أهل المدينة على خبر الآحاد؛ لأن العمل عنده أثبت وأقوى من القول، والعمل يؤكد صحته ومصداقيته على القول، ثم لأن التواتر الفعلي لجماعة عن جماعة أشد حجة من غيره، و”مالك لا يقول بالاستدلال بالعمل إذا كان مخالفًا للنص القطعي الوارد عن الشارع، وقد أثر عنه قولته المشهورة: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”.
ولكن يرى أن عمل أهل المدينة في عهده إذا تحقَّق في مسألة اختلف فيها أو تضاربت الأدلة في شأنها، يرفع الخلاف فيها عنده هذا العمل، وبه يختار القول على غيره”[31]. وهو القائل: “العمل أثبت عندي من الأحاديث”[32]. وقد اعتبر ابن خلدون عمل أهل المدينة من استدراكات مالك الأصولية على غيره دون المدارك المعتبرة على غيره من الأئمة[33].
وما يؤكد اعتماد الإمام “مالك” على الاستدلال بعمل أهل المدينة في استخلاص الأحكام، رسالته المشهورة إلى “الليث بن سعد” التي حملت إشارات مهمة على حجية هذا الدليل[34]، وتظهر أصالة هذا الدليل أيضًا عند “مالك” من خلال أنواع التطبيقات في كتاب الموطأ[35].
المطلبُ الرابعُ: الشافعي والإجماع:
لم تسلم آراء “شاخت” في الإجماع من اضطراب بيّن، كباقي القضايا، والأصول الأخرى التي بحثها، ومنشأ هذا الاضطراب هو اندفاع رغبته في رصد تناقضات عند “الشافعي”؛ فتارة يجعل الإجماع كابحًا لحرية الرأي، وأخرى يجعله نسخةً من فهوم الفقه الروماني، وحينًا يزعم تخلص الشافعي من القول بالإجماع، ويدرجه ضمن نظرية السلطان الحديثي حينًا آخر.
وأما مسألةُ عدم انطباق القول بالإجماع مع حرية الفكر؛ فإنه يحسب الاحتجاجَ على القول الشرعي بحصره فيما أجمع عليه الفقهاء، تضييقًا على الاجتهاد وإبداء الرأي المخالف، وهذا المسلك اتخذه أصول الفقه لهذا الغرض، مما يعني: “أننا سنجد للإجماع دورًا أكثر تواضعًا لدى الشافعي، بل من السهل أن نلاحظ أن عنصر الإحالة إلى الماضي الذي يمثله علم أصول الفقه المحمدي التقليدي للإجماع، لا يكاد يتطابق مع حرية الفكر، وصراع المواقف العنيف، شأن ما نلاحظه في المرحلة التأسيسية للشريعة المحمدية، التي ينتمي إليها الشافعي”([36]).
فأوّلًا؛ هذه دعوى لا تتصل بما هو علمي، ثم مفاد أغراضه لا تحصر في التضييق على الرأي، بل للتقليل من الخلاف، وتوحيد الرأي في الشؤون العامة للأمة، ولو ترك الأمر للآراء على اختلافها ما استقام لها أمر.
وثانيًا: إن الحكمة التي يقوم عليها النظر الأصولي، لا تجيز الحكمَ على بعض مسالكه، وأدلته بالانطباعية الفكرية، والذوقية القيمية؛ كأن نحكم على مسلك الإجماع بآلية كبح الرأي وحريته، وهذا الأمر كما ينطبق على طبيعة الحكم ينطبق على اختصاص الحاكم.
وثالثا: إذا صح حسبان افتراض، بل دعوى التأثر بالفقه الروماني في مسألة الإجماع على تهافتها، فهل تنطبق تلك المعايب على الفقه الروماني أيضًا؟
وأما مسألة اعتبار الإجماع مجرد أثر لفهوم الفقه الروماني، فمستنده فيها أستاذه “غولدزيهر”[37]، الذي توهم أن إجماع الفقهاء يتوافق مع الرأي الحر المعبر عنه في القانون الروماني حسب قوله: “وتعد فكرة الإجماع العام فكرة طبيعية، بحيث إن مسألة التأثير الخارجي غير واردة إلا إن الحالة تختلف عند تناول مفهوم “إجماع الفقهاء”، فهذا المفهوم على غاية من الدقة، ويتضمن ما يؤخذ من مواقف الأكثر من الفقهاء، ويعبر عن السنة الحية للمذهب، ويوافق هذا المفهوم للإجماع ما يعرف في القانون الروماني بالرأي الحر (opinioprudentium)،
وقد وردت حجة هذا المفهوم على لسان الإمبراطور سفاروس(…) ويشير غولدزيهر في هذه المسألة إلى تأثير القانون الروماني في الفقه الإسلامي، ويحتمل كذلك أن يكون هذا المفهوم قد نقلته إلى العرب المدارس البلاغية”([38]).
فتلك دعوى أقل ما توصف؛ أنها قائمة على جهل بالتاريخ، والأصول؛ لأنها عارية عن السياق الفقهي، والواقع الاجتماعي؛ فالإجماع إنما تمَّ تأصيله شرعيًّا من النص القرآني والحديثي قبل “الشافعي”، واستند إليه الفقهاء بداية من الصحابة والتابعين، ومن تلاهم من تابع التابعين، وتلك البداية لا تنسجم مع الانفتاح على الفقه الروماني، الذي بدا متأخرًا عن الاعتبار الممكن، والجائز في التأثر.
وأما دعواه تمسك الشافعي بالإجماع لخدمة نظرية السلطان الحديثي، والتي انتهت به إلى القول: “إذا ما تسنى لنا استباقُ بعض نتائج الفصل الثامن، فإننا نرى أن آراء الشافعي تعبر عن ردة فعل محدّث ضد أصل الإجماع بوصفه مجسمًا للسنة الحية”[39] فهي دعوى خاوية من داخلها؛ لسببين:
الأول: اعتباره استثمار الإجماع حيلة جدلية.
وهذا فيه بعض التحامل المغرض، والاتهام المجانب للصواب، حيث اعتبر: “اعتماد الشافعي على عنصر الإجماع في الجدل إلى جانب اعتماده على الآراء الموجودة فعلًا للمذاهب الفقهية القديمة، التي تهيئ له على الرغم من كل شيء، الموضوع الأساسي لنقده اللاذع، يظهر أن ادعاءه الإجماع ليس إلا حيلة من حيله في الجدل”[40] وهنا لا بد لـ”شاخت” إن أراد أن يفهم الأمر على حقيقته، أن يقلب صلة الغاية بالوسيلة؛ كأن يقول على الأصح إنما اعتماده الجدل والحجاج في النقد والبناء الأصولي،كان لغاية حفظ قدر من الإجماع الفقهي بين علماء الأمة، لما لزمه من أمر جاد، ومسؤول في مرحلته العلمية.
ثم إن استوى لديه الأمر-كما أبدينا- لم يلزمه ما لزمه من قول مجانب للصواب أيضًا؛ لمّا توهم: “أن عادة الإحالة على هذا المفهوم كانت راسخةً جدًّا، حتى لم يتخل عنه تخليًا تامًّا، بل واصل استعماله بوصفه حجة ثانوية في أغلب الأحيان وبصفه حجةً ذاتية سجالية”[41].
الثاني: لاضطراب الدعوى، وتناقضها:
من أبرز الأفكار المدخولة بالاضطراب، تلك التي يتعسّف فيها “شاخت” للربط بين قضايا أصولية بتمحل واضح، حينما أصبح ما أسماه بـ“السنة الحية”، التي راجعها “الشافعي” منهجًا يسلكه، والقول بالإجماع تأصيلًا للقبول الفعلي لسلطان الحديث، أما نظريته الجديدة؛ أي: سلطان الحديث عند “الشافعي”، فلم تقو على الاستمرار على حد قوله: “وهكذا كانت النتيجةُ الأساسية لمقاطعة الشافعي أصلَ السنة الحية، أن أصبح فعله هذا يمثل هو أيضًا جزءًا من السنة الحية في مرحلة لاحقة، وبالإقرار بهذا التحول أمست درجة القبول الفعلي لأحاديث النبي، بوصفها أصلًا من أصول الفقه، تحدد مستقبلًا بناء على الإجماع، أما سعي الشافعي إلى منح الأحاديث النبوية الحجية العليا في الفقه بدلًا من السنة الحية والإجماع، فإنه لم يعمر طويلا”[42].
فقرة في منتهى التناقض والاضطراب، حاولت أن أفهمها بمنتهى التأويل فلم يسعفني فهمي. وهذا كفيل بردها لأنها حبلى بالتناقض.
الثالث: غياب حجية أصولية للإجماع:
يعتبر “شاخت” أن مسلك الإجماع افتقر من حيث المبدأ إلى الدليل الشرعي عند “الشافعي”؛ سواء قرآنيًّا أو حديثيًّا، كما يعتقد غياب النص الحديثي المؤسس له عنه، يقول: “وهو لم ينجح في توضيح مفهومه لإجماع الأمة عمومًا، علمًا بأن هذا المفهوم يبقى في علاقة قلقة مع العنصر المهيمن الجديد، ألا وهو الأحاديث النبوية، ولم يكن الشافعي حينئذٍ على علم بالنص المأثور المؤيد للإجماع الذي يقول: (لا تجتمع أمتي على ضلالة). ولم يظهر هذا النص بوصفه حديثًا نبويًّا إلا في زمن المجاميع الحديثية، علمًا بأن صياغتها مستقاة مباشرة من أقوال أخرى، كتلك التي ترد على لسان الشافعي”[43].
فهنا مسألتان غير محررتين عند “شاخت”:
الأولى: علاقة الإجماع بالأحاديث: وهي العلاقة التي وصفها بالقلقة، وغرضه من ذلك تسويغ نظرية أستاذه “سلطان الحديث” والبحث لها عما يؤكدها، ولو دعا الأمر افتراء على “الشافعي”؛ أي: إن توظيف الإجماع – هنا – مجرد مسلك من مسالك تثبيت سلطان الحديث ليس إلا، وإلا كيف نفهم اضطراب “الشافعي” في القول بالإجماع من حين لآخر؛ حيث: “..أدرك في النهاية مرحلة لم يعد فيها الإجماع حجةً بأي حال من الأحوال، بل أضحى ينكر قيامه أصلًا”[44].
والثانية: مدى صحة غياب النص الحديثي المؤسس عن “الشافعي”.
وعلى افتراض صحة دعوى غياب النص الحديثي عند الشافعي؛ فإن ذلك لا يقدح في حجية الإجماع المستنبطة من الآية الكريمة {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115]، وهي الآية التي اجتهد الشافعي في الاستدلال بها، لقوة النص القرآني أولًا، ولحكاية الإجماع ما قبل الشافعي[45].
المطلبُ الخامسُ: الشافعي، وإعمالُ العقلِ:
1-الشافعي، والمنطق:
تلكأ كبار المستشرقين قَبول قوة الاستدلال الفقهي، ودقة النظر الأصولي، وقدرته على اجتراح آليات علمية، وعقلية سديدة مكنته من بناء عمرانه العلمي؛ لذلك تجدهم يعلّلون كل تميز فيه بتأثرهم بما قعده أسلافهم اليونان من المنطق، أو الرومان من القانون، واسمع قول “شاخت” – هنا -: “كما يستعمل صاحب الأم ….حجة القياس المنطقي لرد إجماع أكثر أهل العلم، وقد بدا ذلك في مناسبتين؛ إذ إنه لا يرى ما يزعم من إجماع أكثر أهل العلم إلا ذريعة لقبول قول ما، أو غيره من الأقوال كما اتفق، فإجماع أهل العلم لا يمكن أن يتحقق إذ يستحيل اجتماعهم جميعًا..”[46].
وانظر كيف يوظف آراءه غير العلمية في تأكيد ما أسماه نظرية “سلطان الحديث”؛ إذ اعتبر أن استدعاء النظر المنهج المنطقي إنما لنصرة مذهبه في مسألة رد الإجماع، واستحالة اجتماع كل العلماء. فأما أن يحشد “الشافعي” آلياته المنهجية للدفاع عن رأيه فذلك حقٌّ مكفول للمجتهد، وهو لا عتب عليه، وأما استدعاء منطق اليونان للنهوض بذلك فهذا محض افتراء وتكلف؛ لأن كتاب الرسالة المنهجي، والتقعيدي لأصول الفقه لا تجد فيه ما ادعاه “شاخت”.
ولم يتوقف صاحبنا عند هذا الحد، بل بالغ حد الغرابة، لما أعزى طريقة الجدل إلى علم البلاغة الإغريقي والقانون الروماني؛ يقول: “وكانت طريقة الجدل التي يعتمدها تيودور تماثل طريقة الشافعي”[47].
وإنها لثالثة الأثافي حقًّا؛ هي تلك الدعوى التي أرسلها دون بينات،أو حتى قرائن لما توهم أنه: “قد يكون تأثير علم البلاغة الإغريقي الروماني، سببًا في وجود آثار أخرى من المنطق اليوناني، والقانون الروماني في المرحلة المبكرة لنشأة علم الفقه المحمدي، الذي يتضمن ذلك الصنف الخاص من الاجتهاد، القائم على القياس والمعروف بالاستصحاب، الذي نجده لدى الشافعي لأول مرة، وربما حتى الاجتهاد المعروف باسم الاستصلاح”[48].
إنه التمثل المركزي المفارق للعقل الغربي، الذي أراد الهيمنة على كل منجز ثقافي، أو حضاري؛ إما ردًّا إليه أو استيعابًا له، فلست -هنا- مضطرًّا إلى تزييف هذه الدعوى، بإعادة الاستدلال على تلك الأدلة والمسالك الأصولية من النصوص الشرعية، التي نبه إليها العلماء، وعلى رأسهم “الشافعي” في تأصيل أدواتهم، وآلياتهم المنهجية؛ كالقياس، والاستصحاب، والاستصلاح؛ وغيرها…
2-الشافعي، والرأي، والعقل:
جرت عادة “شاخت” أن ينسب كل استدلال أصولي للشافعي إلى نظرية “سلطان الحديث” حتى ليعتاد القارئ إدراكها عند مطلع الفقرة، والأمر نفسه فعله لما رصد علاقة نظر “الشافعي” بالرأي؛ ومما قاله: “وقد كان الشافعي أول من ميز – من حيث المبدأ – بين الرأي عمومًا والقياس الصارم، وقد فرض على خصومه هذا التمييز بالاعتماد على وسيلة مفضلة لديه في الجدل”[49].
كما عمل جاهدا على تخصيم “الشافعي” مع الرأي في الفقهيات، ويتهمه بالاضطراب في موقفه منه، فتارة يصفه بإعماله عند الضرورة، وتارة بإهماله كلما دعت مصلحته الحجاجية؛ يقول- مثلًا -: “كما أنه يستعمل (أي الشافعي) لفظتي “أرأيت” و“ألا ترى” لإيراد حجج منهجية تقوم على إعمال العقل”[50].
وفي موقع آخر؛ يقول: “يستوي الرأي والاستحسان عند الشافعي؛ ذلك أنه يستعمل المصطلحين دون تمييز بينهما”[51]، بل لم يتحفظ عن اتهام الشافعي باستغلاله توصيفَ مواقف خصومه بالرأي لدرئها وتوهينها، رغم صوابها أحيانًا؛ يقول: “وكلما اختلف الشافعي مع موقف من المواقف، جنح إلى تسميته بالرأي، حتى في الحالات التي يحيل فيها خصومه من أهل المدينة على الإجماع والعمل، وعلى الرغم من ذلك يتخذ نبذه الرأي في أغلب الحالات صيغة نبذه الاستحسان، على نحو أكثر تخصيصًا”[52].
3-الشافعي، والقياس:
ولعله من أغرب التخريجات اللغوية أن يؤصل “شاخت” لمفردة القياس من القاموس الآرامي، بحجة انعدامه في القاموس العربي، رغم إقراره بوجود جذره اللغوي (ق، ي، سÖ): “ويتأكد اشتقاق المصطلح من مصدر أجنبي من خلال وجود معنى أصلي ملموس له في اللغة الآرامية، وعدم توافر ذلك في اللغة العربية؛ إذ يشتق مصطلح قياس من جذر (ق، ي، س) وإن أقر مارغوليوث بهذا الجذر لمصطلح قياس، فإنه حاول بذلك تدعيم الربط بينه وبين “حكيش” (hiqqish) في معانيه التقنية من المقاربة والتناظر”[53].
أما عدم ورود قياس في العربية، فإن لغة الضاد تكذبه؛ فالقياس كما قال زميله من جذر (ق، ي، س)، وهي على وزن قام قيامًا، قلبت الواو ياء فالأصل فيها قواسًا. قال ابن منظور – رحمه الله -: “قاس الشيء يقيسه، قيسًا، وقياسًا، واقتاسه، وقيَّسه: إذا قدر على مثاله”. وقال: “ويقال: قايست بين شيئين. إذا قادرت بينهم”. وهذا كفيل بأن يدحض ما يليه.
ومن الطَّبَعِيِّ ألاَّ يكونَ القياسُ هو أصلَ الأصول؛ وإذا كان: “يمثل القول بالقياس الضرب الوحيد من ضروب الاجتهاد الذي يقره الشافعي، فهو يسلم بالقول بالقياس في جدله ضد المذاهب القديمة؛ إذ القياس لازم ويأخذ به فيما ليس فيه نصٌّ من قرآن أو سنة أو إجماع، ونحن مجمعون على ذلك، إلا إن القياس يبقى أقلَّ شأنًا من أصول الفقه المذكورة وأضعف منها، ولا يعد الشافعي القياس أصلًا من الأصول، وإنما فرع من فروعها”[54]. فلأن طبيعة الفقه الشرعي تقتضي منحَ الأولوية للنص قبل القياس، وهذا لا يمانع فيه إلا غير مدرك لحقيقة الفقه الإسلامي، وأصوله.
ولقد أورد رحمه الله في “الرسالة” ما يزيد المسألة بيانًا لما قال: “قال: فما القياس؟ أهو الاجتهاد؟ أم هما مفترقان؟ قلت: هما اسمان لمعنًى واحد. قال: فما جِماعهما؟ قلت: كل ما نزل بمسلم فقيه حكم لازم، أو على سبيل الحقِّ فيه دلالةٌ موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكمٌ: اتباعُه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد.
والاجتهادُ القياسُ”[55]، لذلك، فإن العلاقة بين القياس والاجتهاد فيها من العموم والخصوص ما تتضح به المسألة؛ فالاجتهاد أنواعٌ حسب الشافعي:
فهناك اجتهاد حكمي: وهو اجتهاد طلب العلم لغة وفقهًا وحديثًا، ومناطه حكم شرعي ظاهر واضح بالنص، لا يحتاج إلى مزيد اجتهاد لاستخلاص دلالته المعنوية.
ثم هناك اجتهاد دلالي: وهو اجتهاد يتطلب استفراغًا للوسع بما تحصل لدى المكلف من علوم لغة وفقه” على سبيل الحقِّ فيه دلالةٌ موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكمٌ: اتباعُه..”[56].
واجتهاد قياسي: وهو اجتهاد باستعمال قياس الفروع غير المنصوص عليها على الأصول المنصوص عليها، ويتضح ذلك من خلال قوله المتابع: “وإذا لم يكن فيه بعينه طُلِب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد. والاجتهادُ القياسُ”[57].
وما ذكر من تفريعات لمعنى القياس في معناه الاجتهادي، يجيب – أيضًا – عن المعنى المعكوس عنده؛ إذ صرح بأنه: “لا يعني القياس في كثير من الحالات المفهوم الدقيق له، وإنما الاجتهاد في معناه الأشمل على نحو ما يرد”[58]. فإن ما لاحظه من تعميم النظر القياسي هو العكس تمامًا؛ لأن “الشافعي” حصر مفهوم القياس في جزء من الاجتهاد، رغم أنه رادف بينهما، من باب إطلاق الكل لإرادة الجزء.
إن كل تلك البيانات الأصولية للقياس لم تشفِ غليل “شاخت”؛ واصفًا “الشافعي” بالتقصير في فصل المقال، بحجة أنه: “على الرغم من أن الشافعي وضع أسس علم أصول الفقه المحمدي التقليدي، لم يدل بالقول الفصل فيما يتعلق بالإجماع أو القياس[59]، فالقياس كان آخر الأصول الأربعة التي حظيت بالقبول الصريح، وحتى بعد مضي زمن الشافعي، فقد كان على القياس أن يتغلب على مقاومة سَلبية من جهة، وعلى نفي تام من جهة أخرى”[60]. بل “إن الشافعي – يقول «شاخت» – يستعمل القياس في الدفاع عن الأحاديث”[61].
وهذا كلام مرسل غير محرر، ينمُّ إما عن جهل بالمدونة الأصولية للشافعي، أو بغرض فيه من التحامل ما لا يليق، بل إن الشافعي فصّل وبيّن إما بإفراد فصل للقياس، أو بتضمين باقي الفصول بيانات شافية عن الاستعمال القياسي. وأما قوله بإعمال القياس دفاعًا عن الأحاديث فهو خلط وخبط؛ لأنه تارة يمجد نظريته وأستاذه غولدزيهر “سلطان الحديث”، وتارة أخرى يصف الشافعي بتحجيم دور الرأي والقياس.
المطلبُ السّادسُ: الشافعي، ونظريةُ التّعليل:
ورغم أن “الشافعي” حجم من مدرسة العقل والرأي -كما زعم “شاخت” – في أكثر من مناسبة، لما منحه من سلطة للحديث على حساب العقل، على الرغم من ذلك: “يحتل التعليل الفقهي في مذهبه مكانة مرموقة هي أرقى بكثير من مكانته في مذهب من سبقه من الفقهاء، حتى وإن اقتصرنا على جوانب الأسلوب والشكل دون غيرهما”[62]. وهذا لعمري من الآراء المدخولة في الكتاب، والتناقضات التي طفحت به.
والذي يبدو، أن “شاخت” لم يضع فوارقَ بين التعليل الشرعي، والتعليل المنطقي؛ لأنه محكوم بتأسيس النظر القياسي على المنطق اليوناني؛ زاعما أنه: “لا يخلو التعليل الفقهي عند الشافعي من مآخذ تحدُّ من تطوره، فقد رأينا أن تعليله لا يبلغ غايته بسبب الأحاديث التي تخضع للعقلنة، ولا يمكن إدراجها داخل نظرية يجد الشافعي نفسه ملزمًا على الرغم من ذلك باتباعها. ونلاحظ في حالات أخرى، أن التطورات التي يتناولها بالنقاش لا تقبل العقلنة”[63].
لذلك؛ فإن فلسفة العلة – على طريق المناطقة – لها خصائص عقلية بالضرورة، لا تنفك تربط العلة بالمعلول، والسبب بالمسببات على نحو ما يرتضيه العقل المجرد؛ لكن ذلك ما نجد له تطبيقًا كليًّا لدى الأصوليين – وعلى رأسهم الشافعي – بحكم المجال والحقل التداولي المعمول فيه[64].
فهذا السمعاني يعتبر أن العلةَ صفةٌ جالبة للحكم أو المقتضية للحكم؛ إنما على نحو يقبل الاحتمال والتغيير؛ يقول: “قد بينا أن العلةَ هي الصفة الجالبة للحكم، ويجوز أن يقال: إن العلة هي المقتضية للحكم، فأما إذا لم نعتبر وجودَ ما يقتضى الحكم أو وجود ما يجلب الحكم في الصفة؛ التي جعلت علة لم تكن هذه الصفة بأن يجعله علة بأولى من غيرها من الصفات”([65]).
ومما يكفل لي نقض فكرة استدعاء القياس المنطقي في النظر الأصولي عند الشافعي – كما زعم “شاخت” – جملة جرت على لسانه نقضت غَزْلَهُ سريعًا؛ وهي قوله: “لا يستعمل الشافعي مصطلحَ العلة إنما يستعمل المعنى والأصل”[66]؛ لأن العقيدة العقلية المؤسسة على الحسيات، وتلازم الأسباب والنتائج والعلل بالمعلولات، تستلهم قواعدها من الطبيعة المجردة، دون أي فاعل آخر أو مدبر مغاير. ثم لأن العلةَ العقلية هي الحد الأوسط في القياس المنطقي، وهي الدافع الأساس إلى تحقيق النتيجة. وهذا مناف ومخالف تمامًا للعلة الشرعية في القياس الشرعي المحكومة بالنص.
إن هذا التداخل العلمي الذي حصل لـ“شاخت” في مسألة العلة في القياس بين الشرعي والمنطقي، هو سبب الارتباك وسوء الفهم الذي أبان عنه في نتائج كثيرة، كأن يعد – مثلًا -: “الأخطاء الموجودة في تعليل الشافعي والناجمة عن موقفه السجالي من المذاهب الفقهية القديمة أكثر أهمية مما سبق ذكره، ويصبح هذا الموقف أقل حدة عندما يتعلق الأمر بأهل المدينة، وذلك بسبب صلته الحميمة بهم، غير أن الموقف نفسه يبلغ عنده أقصى درجات الجدة عندما يخص أهل العراق”[67].
أو يعتبر -أيضا-: “أن الشافعي تحت ضغط رغبته الجامحة في البرهنة على نظريته الفقهية الجديدة، وما ينبني عليها من أحكام فقهية، بوصفها التفسير المشروع الوحيد للفقه الإسلامي، ينساق إلى وضع فرضيات لا مسوغ لها، وإلى الجدل بطريقة اعتباطية وغير منطقية، وإلى إساءة صياغة مواقف خصومه، والمبالغة عند تقديمها”[68].
وللعلة نفسها، لا يستغرب أن تجد “شاخت” حائرًا، بل غير فاهم لمنهجية “الشافعي” في استثمار الأقيسة، كأن يخطّئ “الشافعي” حينًا، بإمكانية: “تسويغ أغلب الأخطاء الموجودة في تعليل الشافعي بالعودة إلى السبب المخصوص، وإلى الأطروحة الأساسية التي تتضمنها نظريته الفقهية الجديدة، أي بالعودة إلى اعتماده على أحاديث النبي”[69].
وكأن يصفه بالخلط المنهجي حينًا آخر، خالصًا بأنه: “قلما يقع الشافعي في الخلط المنهجي أو التعليل غير الدقيق، إذا تجاوزنا تلك القيود الطبيعية التي حدَّت من جهوده. وقد رأينا أنه لم يأخذ في المرحلة النهائية من حياته إلا باستعمال القياس والاجتهاد في معناهما الدقيق، مستثنيًا بذلك الرأي والاستحسان،..”[70].
المطلبُ السّابعُ: الشافعي، والمعتزلة:
لم يذكر “شاخت” فرقة المعتزلة إلا لمامًا، وغالب موردهم جاء في سياق دفع منهج الشافعي، وخصوصًا فيما اتصل بـ“سلطان الحديث” حتى استنتج أن: “المعتزلة الذين يُسمَّون بأهل الكلام في آثار الشافعي، وغيرها من المصادر القديمة، ألد أعداء أهل الحديث، غير أنهم لم يمثلوا مذهبًا فقهيًّا صرفًا، وإنما مثلوا حركة سياسية وعقائدية، إلا إن طريقتهم الظنية وإصرارهم على أن القرآن هو الأساس الوحيد لاستخراج الأحكام الدينية، أدى بهم إلى رد أغلب الأحاديث ورد الأحكام الفقهية القائمة تبعًا لذلك..”[71].
في هذا الكلام مسألتان لا بد من التوقف عندهما:
الأولى: حصر تسمية أهل الكلام لدى الشافعي في المعتزلة[72]، وهذا مخالف لما عهد من نصوص للشافعي، والراجح أن المقصود بأهل الكلام في مسألة رد الأحاديث، والانتصار الحصري للقرآن هو مسلك فرقة الخوارج، ومما يؤكد هذا أن “البيهقي” يحكي في “المناقب”، عن “الشافعي” قوله: “قبول الخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم – واحدٌ لا يختلف فيه أنه الفَرْض، وواجبٌ قبول الخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا فرقة سأصف قولها، إن شاء الله. فذكر تفرق أهل الكلام في تثبيت خبر الواحد، ثم ذكر الحجة في تثبيته في «كتاب جماع العلم».[73].
وقد كرر نفس المغالطة “شاخت” لما أجاز القول بـــ:”أن أهل الكلام يزعمون أنهم يتخذون من القرآن الأساس الوحيد لمذهبهم بتفسيره تفسيرًا عقلانيًّا، إلا إن هذا التصور الواعي الذي سيظهر تحاملًا على الأحاديث إنما هو النتيجة التي آل إليها التطور النظري المعقد للفقه، وليس نقطة انطلاقه”[74].
ومثل ذلك مثل معنى التأويل المغالي الخارج عن النص، وغير المناسب الذي طفق على سلوكه متأولًا زمانه في فهم النص القرآني، الذين يقصد بهم على الراجح الخوارج؛ يقول “الشافعي”: “فلا يجوز عندي عن عالم أن يُثبت خبر واحد كثيرًا، ويُحِل به، ويحرم، ويردَّ مثله: إلا من جهة أن يكون عنده حديث يخالفه، أو يكونَ ما سمع ومَن سمع منه أوثقَ عنده ممن حدَّثه خلافه، أو يكونَ من حدثه ليس بحافظ، أو يكونَ متهمًا عنده، أو يَتَّهِمَ من فوقه ممن حدثه، أو يكونَ الحديث محتملًا معنيين، فيتأوّلَ فيذهبَ إلى أحدهما دون الآخر.
فأما أن يتوهَّم متوهِّم أن فقيهًا عاقلًا يُثبت سنة بخبر واحد مرةً ومرارًا، ثم يدعُها بخبرِ مثلِهِ وأوثق بلا واحدٍ من هذه الوجوه التي تُشَبَّه بالتأويل كما شُبِّه على المتأولين في القُرآن، وتُهَمَةِ المخبِر، أو علمٍ بخبر خلافه، فلا يجوز إن شاء الله..”[75].
والثاني: أن محلَّ النزاع في المسألة – هنا – هو قَبول الحديث من طرُقِه لا من جانب قبوله ابتداءً، وهذه مسألة لم يحررها “شاخت” كما ينبغي؛ يقول الشيخ “مصطفى السباعي” بعد أن حقَّق المسألة علميًّا وتاريخيًّا: “لَا يُخَالِجَنَّكَ ذَرَّةٌ من الشك في أن المراد بإنكار حُجِيَّةِ السُنَّةِ إنكار ذلك من حيث الشك في طريقها، وما يلحق رُوَاتَهَا من خطأ أو وهم، وما يندس بينهم من وَضَّاعِينَ وكذّابين، ومن هنا قال من قال بوجوب الاقتصار على القرآن، وعدم الاعتماد عَلَى السُنَّةِ، لا أنهم أنكروها من حيث أقوالُ النَّبِيِّ وأفعالُه وتقريراتُه، فإن مسلمًا لا يقول بذلك، ولم ينقل عن طائفة من طوائف الـمُسْلِمِينَ أنها قالت بأن اتباع أمر رسول الله ليس بواجب، وأن أقواله وأفعاله ليست من مصادر التشريع، ولا شك أن في القول بذلك رَدًّا لأحكام القرآن، وما أجمع عليه الصحابةُ وَالـمُسْلِمُونَ”[76].
وهي الخلاصة نفسها التي انتهى إليها “الأعظمي”؛ قائلا: “والذي نميل إليه..أن المعتزلة كانوا مع جمهور الأمة في الأخذ بالأحاديث النبوية، وربما طعنوا في صحة بعض الأحاديث منها عندما وجدوها تقف في سبيل نظرياتهم، لكنه لم يكن من مذهبهم ردُّ الأحاديث جملة”[77].
ملاحظ ختامية:
– الملحظ الأول: انطلق “شاخت” في كتابه “أصول الفقه المحمدي”من البحث الحديثي لتمهيد الطريق لمناقشة أصول الفقه وقواعده العلمية مع الشافعي، بقصد البحثِ عن المتناقضات في الأصول والقواعد إعمالًا وإهمالًا، لعلَّه يظفر بطرائد عِلمية يجعلها أمثلةً ونماذجَ لهدم نظرية “الشافعي” الأصولية، ومن ثمَّ انهيار النظام الأصولي ككل؛ لكنه لم يوفق في ذلك لعلتين على الأقل:
الأولى: أن التقعيد الأصولي بقدر تأسيسه وتدوينه من قبل العلماء قبل “الشافعي” وبعده، لم يكن للحديث النبوي فيه قوة مؤثرة بالشكل الذي اعتقده “شاخت”؛ بل عُدَّ مقويًّا في التأصيل ومدعمًا في التفصيل. قد يكون ذلك صحيحًا من حيث النظر الفقهي، وفي هذا الحال مناط الخلاف في إعمال القواعد لا في القواعد.
الثانية: أن النظر الأصولي ثابتٌ من الناحية النظرية؛ ولعل المتغيرات التي تحصل في إعماله يعود إلى متغيرات الواقع، وتكييف العمل بتحقيق المناطات تكليفًا وواقعًا.
الملحظ الثاني: لقد أبدى “شاخت” سعة اطلاعه، وحفره في التراث الإسلامي حديثًا وفقهًا وأصولًا؛ ولكن ذلك لم يعصمه من أخطاء بالغة وأوهام كثيرة، لا يمكن تفسيرها إلا بالتسرع في الأحكام وقلة التثبت، أو باندفاع مسبوق بقُصُودٍ غير طيبة في تقويم التراث الإسلامي، وهذا معهود في المدرسة الاستشراقية، وقد أشّرت هذه المراجعة على كثيرٍ منها. كما كشف عن ذلك الشيخ “مصطفى السباعي” بقرائن بينة، لما التقى بــــ“شاخت” وحدثّه[78] في هذا الشأن.
الملحظ الثالث: تبين بالدراسة أن أغلب الأفكار المتداولة عن “الشافعي” مصدرها “شاخت” وأستاذه “غولدزيهر”، وما وقع لقارئ بحوث تلامذة المستشرقين وتوابعهم من أهل الشرق وغيرهم، كالقارئ المبتدئ الذي تلاشى إعجابه بأفكار كاتبه بمجرد اطلاعه على أصول ما قرأ ومنابعه الأولى، فوجد كل شيء منقولًا منها، ليكتشف متأخرًا حقيقة الانتحال المزيف الذي استغفل القارئ، إما بضعف اطلاعه وقلة باعه في الألسنة الأجنبية، أو لتأخر ترجمة تلك الكتب، مثل ما حدث له مع كتاب “أصول الفقه المحمدي” هذا.
الهوامش:
[1] شاخت، جوزيف “أصول الفقه المحمدي”، ترجمة رياض الميلادي وسيم كمون، دار المدار الإسلامي، بيروت – لبنان، سنة 1439/ 2018م.
[2] راجع: السباعي، مصطفى، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط4، 1405/1985. –الأعظمي، محمد مصطفى، دراسات في الحديث النبوي، وتاريخ تدوينه، المكتب الإسلامي، 1400/1980.
[3] شاخت، جوزيف، أصول الفقه المحمدي، ترجمة رياض الميلادي ووسيم كمون، دار المدار الإسلامي، بيروت لبنان. 1439/ 2018، ص13.
[4] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق، ص123.
[5] المرجع السابق، ص419، وانظر أيضًا قوله في الشافعي والتجديد المنهجي، ص405، ص409.
[6] المرجع نفسه، ص22.
[7] المرجع نفسه، ص414.
[8] نفسه، ص32.
[9] نفسه، ص419
[10] م.ن، ص34.
[11] م.ن، ص44، وانظر أيضًا ص50 وص55، ص99، ص103، ص122، ص274.
[12] م.ن، ص17.
[13]م.ن ، ص17.
[14] م.ن، ص178، ص180.
[15] الأعظمي، محمد مصطفى، دراسات في الحديث النبوي، وتاريخ تدوينه، المكتب الإسلامي، 1400/1980، صفحة (ي).
[16] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق، ص15.
[17] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق، ص30.
[18] غولدزيهر، دراسات محمدية، ج2، مجلة كلية الدعوة الإسلامية، ترجمة الصديق بشير نصر، ص412، 413.
وانظر أيضًا: سنوك الذي اعتقد أن “السنة كانت لا غنى عنها لاكتمال القرآن، وأن الاثنين معًا شكّلَا مصدر الفقه الإسلامي (المحمدي) والعقيدة” في:Snouck. C. Hurgronje ,Mohammedanism: Lectures on ItsOrigin, ItsReligious and PoliticalGrowth and ItsPresent State G.P.PUTNAM S SONS. NEW YORK. 1916 . P68
[19] الأم، 7/314.
[20] الأم، 7/359.
[21] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق، ص30.
[22] الأعظمي، محمد ضياء الرحمن، دراسات في السنة النبوية، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ع21، ص90.
[23] دراسات في السنة النبوية، المرجع السابق، ص90.
[24] المرجع نفسه، ص90.
[25] القرطبي، ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، 1434/2013.، ص380.
[26] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق، ص40.
[27] المرجع السابق، ص107.
[28] انظر: الجيدي، عمر، الاستدلال بعمل أهل المدينة، ندوة الإمام مالك، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، ط1، 1400/1980، 2/289.
[29] Lammens, H, Islam, Beliefs and Instituions, tranlated by sir E. Denision Ross,1929. P94.
[30] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق ص22.
[31] الجيدي، عمر، الاستدلال بعمل أهل المدينة، مرجع سابق، 2/268.
[32] القيرواني، أبو محمد عبد الله بن أبي زيد 386 ه، كتاب الجامع في السنن والآداب والمغازي والسير، تحقيق محمد أبو الأجفاني، وعثمان بطيخ، مؤسسة الرسالة، المكتبة العتيقة ،تونس 1402/1982، 117.
[33] انظر: ابن خلدون، عبد الرحمن. المقدمة. بيروت، لبنان : دار الجيل،ص 495.
[34] راجعها في: عياض، أبو الفضل القاضي (544هـ)، ترتيب المدارك وتقريب المسالك، تحقيق ابن تاويت الطنجي، عبد القادر الصحراوي، محمد بن شريفة، سعيد أحمد أعراب،1981-1983م، المحمدية، المغرب، ط1، 1/41.
[35] انظر:رياض، محمد، أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي، تقديم محمد المنوني، بمطبعة النجاح الجديدة، ط1، 1996، ص390.
[36] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق، ص14.
[37] يقول غولدزيهر “أما أن هذا المبدأ ظهر في الإسلام فقط في مجرى تطوره، فيدلُّ على ذلك أن الإنسان لم يستطع بسهولة أن يستدل عليه ويثبته بالقرآن”،ويورد قصة اعتكاف الشافعي في بيته لمدة ثلاثة أيام بحثًا عن دليل الإجماع. “العقيدة والشريعة”، مرجع سابق، ص 62.
[38] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق، ص105.
[39] المرجع السابق، ص58، وانظر أيضًا ص76.
[40] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق، ص24.
[41] المرجع السابق، ص112، وما قبلها.
[42] المرجع السابق، ص119.
[43] المرجع نفسه، ص114.
[44] المرجع نفسه، ص112.
[45] راجع نص القصة في مناقب الإمام الشافعي، السجستاني (363هـ) أبو الحسن الآبري، تحقيق جمال عزون، الدار الأثرية، ط1، 1430/2009، ص83.. وقد نقلها غولدزيهر، وعلق عقبها بقوله: “… وهذا عدا الأحاديث الكثيرة التي يعتمد عليها هذا المبدأ، وحينئدٍ يكون كل ما أجمع عليه جماعة المسلمين صوابًا، ويستحقُّ الاعتراف الواجب، ويكون صحيحًا فقط في الشكل الذي أعطاه له الإجماع، ولا يكون صحيحًا من تفسير القرآن سوى ما اعتبره الإجماع صحيحًا، من إقرار لنسخ القرآن بالسنة، وبهذا المعنى يملك الإجماع حقَّ الإذن بالتفسير “غولدزيهر، إيجناس، العقيدة والشريعة، ترجمة محمد يوسف موسى، علي حسن عبد القادر، عبد العزيز عبد الحق، المركز القوي للترجمة، ع1963، القاهرة ، مصر، 2013، ص62.
[46] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق، ص115.
[47] المرجع السابق، ص126.
[48] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق ص126.
[49] المرجع نفسه، ص138.
[50] المرجع نفسه، ص154.
[51] المرجع نفسه، ص155.
[52] المرجع نفسه، ص155.
[53] المرجع نفسه، ص125.
[54] المرجع نفسه، ص156 وهذا بخلاف “لامينس” الذي اعتبر القياس أحد الأصول الأربعة، انظر:
Lammens, H, Islam, Beliefs and Instituions, translated by sir E. Denision Ross,1929.p83
[55] الشافعي، محمد ابن إدريس، الرسالة، ضمن كتاب الأم، دار ابن حزم، بيروت لبنان، دار الوفاء، المنصورة، مصر، تحقيق رفعت فوزي عبد المطلب، ط4، 1432/2011، ص23.
[56] الشافعي، الرسالة، مصدر سابق ص235.
[57] الشافعي، الرسالة، مصدر سابق، ص235.
[58] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق، ص159.
[59]) وهذا بخلاف ما ذكره “مارغوليوث”؛ إذ اعتبر القياس أحد الأدلة والحجج المبتكرة من الشافعي، انظر:
Margoliouth , David S.TheEarlyDevelopment of Mohammedanism,London, Covent Garden, W.C. 1914, p97.
[60] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق، ص14.
[61] المرجع السابق، ص157.
[62] المرجع السابق، ص405.
[63] المرجع السابق، ص412.
[64] انظر كتابي: شهيد، الحسان، الدرس الأصولي والمنطق، مقاربة تاريخية منهجية، مؤسسة الإدريسي الفكرية للأبحاث والدراسات، الدر البيضاء، المغرب،2016، ص81.
[65] السمعاني، أبو المظفر منصور، قواطع الأدلة في أصول الفقه، تحقيق مركز البحوث والدراسات، مكة المكرمة: مكتبة نزار مصطفى البار، ط1، 1418/ 1998، 2/143.
[66] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق، ص159.
[67] المرجع السابق، ص414.
[68] أصول الفقه المحمدي، ص414.
[69] المرجع السابق، ص417.
[70] المرجع السابق، ص313، 314.
[71] المرجع السابق، ص329، 330..، انظر أيضًا المعتزلة، ورأي الشافعي فيهم، ص164 و165.
[72] وقد سلك هذا المسلك الحصري هاري أ. ولفسون في فلسفة المتكلمين، ترجمة مصطفى لبيب عبد الغني، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، 2005، ص76.
[73] البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين (458 هـ) مناقب الشافعي، تحقيق: السيد أحمد صقر، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1390 هـ – 1970م، ص 467.
[74] أصول الفقه المحمدي، مرجع سابق، ص288.
[75] الشافعي، الرسالة، مصدر سابق، ص213.
[76] السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، مرجع سابق، ص134.
[77] دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، مرجع سابق، ص25.
[78] يقول الشيخ مصطفى السباعي: “… وفي جامعة “ليدن” بهولندا اجتمعت بالمستشرق الألماني اليهودي “شاخت” وهو الذي يحمل في عصرنا هذا رسالة غولدزيهر في الدَسِّ على الإسلام والكيد له وتشويه حقائقه، وَبَاحَثْتُهُ طويلًا في أخطاء غولدزيهر وَتَعَمُّدِهِ تحريفَ النصوص التي ينقلها عن كتبنا، فأنكر ذلك أولَ الأمر، فضربت له مثلًا واحدًا مِمَّا كتبه غولدزيهر في تاريخ «السُنَّة»، فاستغرب ذلك، ثم راجع كتاب غولدزيهر – وكنا نجلس في مكتبته الخاصة – فقال: «معك الحق، إِنَّ غولدزيهر أخطأ هنا»، قلت له: «هل هو مجرد خطأ؟» فاحتدّ وقال: «لماذا تسيئون به الظن؟» فانتقلت إلى بحث تحليله لموقف الزُّهْرِيِّ من عبد الملك بن مروان، وذكرت له من الحقائق التاريخية ما ينفي ما يزعمه غولدزيهر. وبعد مناقشة في هذا الموضوع قال: «وهذا خطأ أيضًا لغولدزيهر، ألا يخطئ العلماء؟» قلت له: «إنَّ غولدزيهر هو مؤسس المدرسة الاستشراقية التي تَبْنِي حُكْمَهَا في التشريع الإسلامي على وقائع التاريخ نفسه، فلماذا لم يستعمل مبدأهُ هنا حين تكلم عن الزهري؟ وكيف جاز له أنْ يحكم على الزُّهْرِيِّ بأنه وضع حديثَ فضل المسجد الأقصى إرضاءً لعبد الملك ضد ابن الزبير؟ مع أَنَّ الزُّهْرِيَّ لم يلق عبد الملك إِلّا بعد سنوات من مقتل ابن الزبير؟» وهنا اصفر وجهُ “شاخت” وأخذ يفرك يدًا بيد، وَبَدَا عليه الغيظ والاضطراب، فأنهيت الحديث معه بِأَنْ قلت له: «لقد كان مثل هذه “الأخطاء” كما تُسَمِّيهَا أنت، تشتهر في القرن الماضي، ويتناقلها مستشرق منكم عن آخر على أنها حقائق علمية، قبل أنْ نقرأ- نحن المسلمين – تلك المؤلفات إلَّا بعد موت مؤلفيها، أما الآن فأرجو أنْ تسمعوا منا ملاحظاتنا على أخطائكم لِتُصَحِّحُوهَا في حياتكم قبل أنْ تتقرر كحقائق علمية».
ومن الملاحظ أنَّ هذا المستشرق كان يدرس في جامعة القاهرة- فؤاد الأول سابقًا- وله مؤلف في تاريخ التشريع الإسلامي؛ كلُّه دَسٌّ وتحريف على أسلوب شيخه غولدزيهر!”. السنة النبوية ومكانتها في التشريع الإسلامي، مرجع سابق، ص17
*- د. حسان شهيد
باحث مغربي، يعمل حاليًّا أستاذًا للتعليم العالي، كلية أصول الدين وحوار الحضارات، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان، المغرب، المدير المسؤول عن سلسلة كتاب “قضايا مقاصدية” التي تصدرها جمعية البحث في الفكر المقاصدي بالمغرب. من مؤلفاته: (منهج النظر المعرفي بين أصولي الفقه والتاريخ)، سلسلة كتاب الأمة، ع 142، سنة 1432/2011. (منهج الاستدلال الشرعي في مدونة الإمام مالك، رواية سحنون)، المغرب، 2011م. (نظرية النقد الأصولي، دراسة في منهج النقد عند الإمام الشاطبي)، عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2012م.