الاجتهاد: تتوقف آلية تدوين الأحكام الشرعية بقوانين على معرفة منصب القضاء شرعاً؛ لأن المنصب إذا انحصر بالقاضي المجتهد المطلق؛ فلا داعي للتدوين ولا مبرر له، وإن كان منصب القضاء يجوز لمن دون المجتهد المطلق؛ فتحتاج إلى تدوين الأحكام الشرعية وهذه الفقرة تتناولها نصوص الدستور
ولكن في هذا البحث أتناول آراء المذاهب الفقهية وتولي الفاسق القضاء لا كنص دستوري، وإنما بمقدار ارتباطها بالبحث والنتائج التي تتوقف عليها وعلى النحو التالي:
الأمر الأول: آراء المذاهب الفقهية الإسلامية فيمن يجوز له تولي منصب القضاء:
أولا: الفقه الجعفري فيمن يجوز له تولي منصب القضاء: القدر المتيقن منه «المجتهد المطلق» وأما بالنسبة إلى غيره فنقول:
تارة يقال بأن حكم الحاكم موضوع للنفوذ ووجوب الامتثال، واخرى يقال بأنه بيان لحكم الإمام “عليه السلام”؛ فيكون كناقل الحكم، فبناء على الثاني ينفذ حكمه سواء كان مجتهداً مطلقاً أو متجزياً أو مقلداً؛
وعلى الأول يكون الحكمه موضوعية؛ فيتوقف جواز الرجوع إلى المقلد والمتجزئ ونفوذ حكمهما على حجة شرعية، ومع الشك فالأصل عدم النفوذ،
وآراء فقهاء الأمامية يمكن حصرها في ثلاثة آراء وأقوال:
القول الأول: مشهور الفقهاء بل ادعى بعضهم الإجماع عليه أن منصب القضاء للمجتهد المطلق الجامع للشرائط، ولايحل لفاقدها أو بعضها تولي القضاء حتى ولو كان مجتهداً متجزئا فضلا عن دونه، وذهب إليه: الشيخ المفيد، وظاهر بن أدريس(1)، والمحقق الحلي(2)، والمحقق الأردبيلي (3) (4) والعلامة في تذكرة الفقهاء(5)، والشهيد الثاني(6)، و السيد الخوئي(7) والصدر (8) والسبزواري(9)، واستدلوا بالروايات والإجماع القطعي، بل الضرورة.، و إجماعاً مستفادا من السيرة مفيدا للقطع بالحكم؛ بل إجماع فقهاء الإسلام(10).
القول الثاني: الشيخ الأنصاري(11): لا فرق بين المجتهدين المطلق والمتجزئ على الأقوى وفاقا للمصنف والشهيدين وغيرهم،
أقول: المصنف (العلامة الحلي)(12) والشهيدان الأول في الدروس (۱۳) وأما الشهيد الثاني لم يثبت لي قوله بالجواز للمتجزئ حيث إنه قال في الروضة(14) والاجتهاد.. (15)؛ فكلامه وإن كان مطلقاً، فلا نستطيع أن نستظهر شموله للمتجزئ خصوصاً بعد تصريحه في المسالك(16)
وأما غيرهم- في كفاية الأحكام (17) وكيف ما كان فمع تیسّر المجتهد المطلق لا يكفي المتجرئ؛ لما دل على تقديم قول الأعلم، والعصفور في اللوامع(18) اعتبر مقام العلماء في عصره من قبيل الاجتهاد المتجزئ؛ ولذا جوزه،
وملخص القول: إن الاختلاف في جواز القضاء للمتجزئ يرجع إلى أمرين:
أحدهما: المقصود بالمتجزئ،
وثانيها: الأدلة الدالة على جواز تولي المتجزئ للقضاء:
ويستدل الشيخ الأنصاري “قدس سره” بالأدلة التالية:
الظاهر بل المقطوع أن المنصبين في زمن النبي والأمير “صلوات الله عليهما وآلهما” لم يكن لبعضهم ملكة استنباط جميع المسائل واطلاق بعض أدلة النصب في حال الغيبة کما سيجيء، والرد على الإجماع المنسوب للشهيد الثاني، ورواية أبي خديجة وهي عمدة الأدلة على تولي المتجزئ للقضاء؛ لعدم ضعف السند: لأنها منجبرة بالشهرة العظيمة لروايتها، وإن المحکی عن المسالك الاتفاق على العمل بمضمونها(19) فالرواية صحيحة، وأما دلالتها فهي دالة على القاضي المنصوب ابتداء لا قاضي التحكيم والرواية دالة على الاجتهاد خلافا للسيد الخوئي…(20)
أقول: ولكن ذكر الأنصاري (خالفت الشهرة نفس الخبر)(21) والحال يا شيخنا الأنصاري أن الشهرة مخالفة لإطلاق الخبر، فليتأمل.
القول الثالث: صاحب الجواهر: جواز تولي القضاء لكل مؤمن بشرط الحكم بالحق.
الأدلة التي ساقها صاحب الجواهر:
إن المستفاد من الكتاب والسنة صحة الحكم بالحق والعدل والقسط من كل مؤمن(22)، كقوله تعالى: (وَإِذا حَكَمتُم بَينَ النّاسِ أَن تَحكُموا بِالعَدلِ (23) والنصوص البالغة بالتعاضد أعلى مراتب القطع الدالة على أن المدار الحكم بالحق الذي هو عند محمد وأهل بيته (صلى الله عليه وآله) كقول الصادق “ع” « القضاة أربعة…»، و خبر أبي خديجة عنه: «… يعلم شيئا من قضايانا» بناء على إرادة الأعم من المجتهد منه،
الرد على أدلته: اطلاق الآيات التي ذكرها “قدس سره”، يمنع التمسك باطلاقها؛ لاهمالهما و ورودهما في مقام بيان حكم آخر(24)،
وأما الروايات الدالة على أن المدار الحكم بالحق:
فالأولى سندها إنها: مرفوعة ودلالة الرواية قاصرة عن المدعى،
والثانية بعد القول بحجيتها وتمام سندها ودلالتها ولكن أثبتنا دلالتها على الاجتهاد لا الأعم من الاجتهاد لتشمل أي مؤمن،
والثالثة ضعيفة سندا؛ لمجهولية عبد الله بن طلحة، ولو تنزلنا عن ضعف السند؛ فالدلالة غير تامة
وأما قوله: قد يقال باندراج من كان عنده أحكامهم بالاجتهاد الصحيح أو التقليد الصحيح، أقول:
إن المدار على الحكم بالحق صحيح، ولكن من يستطيع أن يحقق الحكم بالحق خصوصا بين المتنازعين بالأمور المالية؛ وهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «أحكم بینکم بالبينات». .
مسألة: القضاء من وظائف المجتهد؛ فهل له تفويض أمره إلى المقلد أم لا؟ وعلى فرض العدم، فهل له توکيله في أصل القضاء بجميع مقدماته أم لا؟
وجوه و احتمالات: نحتاج مقدمتين: قابلية المقلد للتصدي له، وولاية المجتهد وسلطنته على إعطائه له،
وأما السيد الخوئي: فيما إذا لم يتمكن من ذلك، يجري عليه حكم قاضي التحكيم فيحكم طبق رأي نظر مجتهد آخر(25).
ثانيا : آراء المذاهب الفقهية الإسلامية الأخرى فيمن يجوز له تولي منصب القضاء
المذهب الشافعي: يشترط في القاضي الاجتهاد المطلق وهو القادر على الاستنباط المباشر من الكتاب والسنة، ولا يجيز تولي غيره للقضاء ممن دونه، نعم قد يفهم من النووي جواز تولي ممن دون المجتهد المطلق(26) الماوردي، فإن قلد القضاء فحكم بالصواب أو الخطأ كان تقليده باطلا، وحكمه وإن وافق الصواب مردود(27) والرملي(28)، وكذا المذهب المالكي لما ذكره الخطاب الرعيني (29) (30)، وكذا الحنفي؛ لما ذكره أبو يوسف(31)، وابن عابدين(32)،
وكذا الفقه الحنبلي: إجماعا عندهم لما ذكره ابن قدامة(33).
الأمر الثاني: وكيف يمكن تجويز إطلاق القاضي على الفاسق من القضاة في زماننا؟
أما من لم يكن مؤمنا ولا مقلدا أو كان فاسقا كما عليه القضاء في الدول الإسلامية في زماننا؛ فلا خلاف ولا اشکال في عدم توليه منصب القضاء بنوعيه القاضي المنصوب وقاضي التحكيم؛ لأنه غير قابل للإمامة ولا تقبل شهادته؛ فلا يسمح له التصدي للقضاء بطريق أولى، فهذا كله خلاف الشريعة المقدسة وتسميته بالقاضي تحكم ظاهر وتجرؤ على الله عصمنا الله وإياكم من منابر أهل الضلال والجور والنار.
النتيجة النهائية في منصب القضاء: المجمع عليه أنه منصب المجتهد المطلق، وجوز بعض الإمامية والمذاهب الأربعة للمجتهد المتجزی و مجتهد المذهب؛ وكذا المقلد الأمثل الذي هو محتاط عند الإمامية ومجتهد فتوى عند المذاهب خلافا للمشهور،
وجوز صاحب الجواهر لكل مؤمن وبعض الحنفية للعامي والجاهل إن نصبه السلطان ذو الشوكة، والذي أفهمه: إن المقلد والعامي لايعد قاضيا، وإنما قاضي تحكيم أو قاضي ضرورة وهو الصحيح.
الهوامش
1- السرائر/ج۲/ ص 54۲.
2- الشرائع / ج4/ص 80.
3- المجمع / ج ۷ ص 55۲.
4- المجمع/ج۱۲/ص5.
5- ج ۱/ص 459.
6- المسالك/ ج۱۳/ص ۳۲۱.
7- شرح العروة الوثقی/ تقرير بحث السيد الخوئي التقليد/ ص۲۹6.
8- الفتاوي الواضحة / ص۳۰.
9- مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام/ ج ۲۷/ ص47.
10- النور الساطع في الفقه النافع / الشيخ علي كاشف الغطاء / ج۱/ ص ۵۷۷.
11- القضاء والشهادات / الأنصاري/ص6۲.
12- قواعد الأحكام / ج ۳ ص 4۲۳، و تحرير الأحكام /ج5/ص۱۱۱.
13- الدروس/ج۲/ ص 66.
14- ج۱/ص4۸۵.
15- الروضة /ج۱/ص 49۱.
16- ج۱۳/ ص۳۲6.
17- ج۲/ص 662،
18- ج14 /ص۱۱.
19- لم أجده في المسالك بل وجدت الشهيد الثاني يقول فيها ضعف.
20- مباني تكملة المنهاج / السيد الخوئي /ج۱/ص۸.
21- فرائد الأصول الشيخ الأنصاري/ ج ۱/ص۱۷۰.
22- جواهر الكلام /ج 40 / ص 15.
23- سورة النساء: ۵۸ – ۱۳5.
24- القضاء/ حبیب الله الرشتي /ج۱/ ص۲۹.
25- صراط النجاة / تقریر جواد التبريزي /ج؟ / ص۳5۸.
26- المجموع / ج۲۰/ ص۱۲۷.
27- أبحاث هيئة كبار العلماء / م3/ ص۱۳۲.
28- أبحاث هيئة كبار العلماء / م3/ ص۱۲4.
29- مواهب الجليل / الخطاب الرعيني / ج۸ / ص 69.
30- أبحاث هيئة كبار العلماء / م3/ إصدار 1421هـ – 2001م / ص131.
31- المبسوط/ السرخسي ج ۱۰/ ص 184.
32- حاشية رد المحتار / ج /۵ ص5۰5.
33- المغني / عبد الله بن قدامه / ج۱۱/ص۳۸۰-۳۸۳.
المصدر: مقالة بعنوان: الشيخ محمد رضا المظفر وتعديل قانون الأحوال الشخصية العراقي ثبوتاً وإثباتاً. بقلم المحقق الشيخ يحيى السعداوي.
تحميل المقالة