خاص الاجتهاد: ضمن سلسلة ندوات”تبيين مدرسة الإمام الخميني “قدس سره” التي تقيمها مؤسسة نشر تراث الإمام الخميني “قدس سره” في قم المقدسة أقيم الأسبوع الماضي الندوة الثامنة من هذه الندوات بعنوان “تأثير مدرسة الإمام الخميني (ره) على الفقه السياسي الشيعي”
تحدث فضيلة الشيخ الدكتور أحمد واعظي في هذه الندوة، وقال: في تاريخ علماء الإسلام والتشيع هناك مجموعة من خواص العلماء جمعت بين المعقول والمنقول وبين الحكمة العملية والحكمة النظرية، والإمام الخميني “قدس سره” واحد من هذه المجموعة بل هو من جهة فريد ووحيد وأخص الخواص، فهو العالم الوحيد في تاريخ الشيعة الذي قدم نظرية سياسية متكاملة شاملة، ثم نقل هذه النظرية إلى ساحة التطبيق والعمل وينفذها في المجتمع وعلى أرض الواقع، وذلك بناء على الفكر الذي نَمى وتطور في المجتمع وفي المحافل العلمية على مدار سنوات.
وأوضح رئيس مكتب الإعلام الإسلامي أنّ الفكر السياسي الشيعي يُقسم إلى ثلاث مراحل أساسية؛ أولها مرحلة حياة الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، والثانية من الغيبة الكبرى وحتى بداية الثورة الدستورية، والمرحلة الثالثة منذ الثورة الدستورية وحتى يومنا الحالي، وتركيزنا في بحثنا اليوم هو المرحلة الثالثة لأنّ الإمام الخميني عاش في هذه المرحلة.
وأضاف الدكتور واعظي: في المرحلة الأولى هناك موضوع هام جدا من الناحية السياسية وهو “تحليل الاستراتيجيات السياسية للأئمة الأطهار(عليهم السلام)”، وأنا أعتقد شخصياً أنه يمكننا التمييز بين أربع استراتيجيات أساسية في زمان الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وبعض الكتابات والتأليفات بحثت في تفاصيلها.
الاستراتيجية الرابعة هي استراتيجية الأئمة “ع” المتأخرين، وتمثلت في تهيئة المجتمع الشيعي؛ بعد تنظيمه وتقويته؛ لعصر الغيبة، وذلك عبر نظام الوكالة والنيابة، ولا سيما تلك النيابة التي كانت في زمن الغيبة الصغرى وهي النيابة الخاصة، ومن ثم النيابة العامة وهي ليست محل نقاشنا.
وأشار حجة الإسلام واعظي إلى أن المرحلة الثانية تمتد من الغيبة الكبرى إلى بداية الثورة الدستورية وقال: في تلك المرحلة نلاحظ وجود نوع من الجمود في الفكر السياسي، وهذا يعني أنه لا توجد مواقف جديدة في الفقه السياسي الشيعي، لأن القضايا المثارة هي قضايا خاصة تعامل معها فقهاؤنا، ثم نأتي إلى عصر مواجهة علمائنا مع الحداثة حيث أدت إلى حدوث أمور في الفقه السياسي الشيعي وظهور مواقف جديدة، ويأتي في طليعة هذه المرحلة الميرزا النائيني “قدس سره” في كتابه “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” الذي قدم فيه إبداعات متعددة من جهات عدة.
وأضاف الدكتور واعظي: عندما نريد تحليل ودراسة دور الإمام الخميني “قدس سره” في الفقه السياسي، فإننا ندرس ذلك في فضاءات ضمن ابتكارات وإبداعات أخرى، فمثلا إذا ما أردنا أن نحدد العلماء المؤثرين في هذه المرحلة الثالثة، والذين ساهموا في بروز اتجاهات وآراء حديثة في الفقه السياسي الشيعي، فالنقطة الأولى هنا أنه من الخطأ أن نتصور أن العالم الوحيد المجدد في الحياة السياسية الشيعة هو الإمام الخميني(ره)؛ فقبل السيد الإمام(ره) كان لدينا شخصية مثل النائيني (ره)، وبعد الإمام ظهرت شخصيات بارزة كان لها نظرياتها وأفكارها الجديدة؛ ومنهم الشهيد محمد باقر الصدر، والشيخ شمس الدين، والمرحوم آية الله المنتظري “رحمهم الله”.
وقال رئيس مكتب الإعلام الإسلامي مشيرا إلى الدور البارز والخاص للإمام الخميني (ره) في الفقه السياسي الشيعي: أثره الأول تجلى في “الإبراز الصريح للولاية السياسية للفقيه العادل والتأكيد عليها”، فمن مسلمات فقه الشيعة مسألة تصدي الفقيه العادل للأمور الولائية، وأنه لا يقتصر دوره على الإفتاء وشؤون القضاء، ولكن الخلاف في نقطتين، الأولى في مبدأ مشروعية تولي الأمور الولائية، فالبعض قال أنها من باب الحسبة، والبعض الآخر أسندها إلى أدلة تنصب الفقيه لتولي الأمور الولائية. ونقطة الخلاف الثانية حول مجال وشمول الأمور الولائية.
وأضاف واعظي: كثير من الفقهاء الذين يؤمنون حتى بالولاية العامة للفقيه ولا يقصرون تولي الأمور الولائية على الأمور الحسبية المعروفة، لم يتحدثوا بشكل واضح وصريح حول مسألة الولاية السياسية للفقيه، وحول أنّ زمام أمر المسلمين في عصر الغيبة والإدارة الشاملة والعامة للمجتمع يجب أن تكون بيد الفقيه العادل، وأنّ الولاية السياسية في عصر الغيبة يجب أن تكون بيد الفقيه العادل والجامع للشروط، هم لم يصرحوا بذلك، ولكن ما قام به الإمام الخميني (ره) هو إبراز ذلك بشكل بارز وواضح.
وتابع الدكتور واعظي قائلا: التأثير السياسي للإمام الخميني (ره) على الفقه السياسي الشيعي كان “الإثبات الفقهي لوجوب إيجاد الدولة الإسلامية”، فهو كان يؤكد أنّ القيام لتأسيس الدولة والحكم الإسلامي هو واجب كفائي على الفقهاء، وكان يرى أنه إذا احتاجت إقامة الدولة الإسلامية لتعاون وتعاضد جمع من الفقهاء فيجب عليهم القيام لتشكيل الدولة الإسلامية بناء على ولاية الفقيه، إلا إذا لم تكن الظروف المناسبة متوافرة البتة، فهنا يسقط عنهم هذا الوجوب، وهذا رأي جديد؛ لأن أكثر الفقهاء القائلين بالولاية العامة للفقيه يقولون بجواز هذه الولاية إذا توفرت الظروف المناسبة لها.
واعتبر حجة الإسلام واعظي أنّ الجمع بين الحكومة الدينية وبين النظام الجمهوري هو من المسائل الهامة في فكر الإمام الخميني (ره)، وقال: كثير من أتباع الإسلام السياسي في العالم الإسلامي لا ينظرون بعين الرضا إلى نظام الحكم الجمهوري وحكومة الشعب؛ فعلى سبيل المثال صنفت إحدى الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي؛ وهو حزب التحرير؛ كتابا وصف فيه “الديمقراطية” بالنظام الكافر، وبعض الحركات الإسلامية الراديكالية ترى أنّ النظام الجمهوري مخالف ومعارض بالأساس للتشريع الإلهي، ولكن الإمام الخميني(ره) تبنى صراحة النظام الجمهوري.
وتابع رئيس مكتب الإعلام الإسلامي قائلا: بعض الذين كانوا مجتهدين في زمانهم ويعدون من المراجع بعثوا برسالة إلى الإمام الخميني(ره) أوضحوا فيها أنّه يوجد في الإسلام “حكومة إسلامية” وليس “جمهورية إسلامية”، والبعض الآخر كان يعتقد بحكومة الشعب ولكن لم يكن يرى أنّه من المصلحة أن يعمد الإمام الخميني إلى تطبيقها في الأمد القصير، فأرسلوا إليه خطابا طالبوا فيه بأن يؤجل موضوع الانتخابات والاستفتاءات إلى ما بعد عشر سنوات، وإلى حينها يوكل جميع الصلاحيات إلى المجلس الأعلى للثورة، كان للإمام الخميني(ره) إيمان راسخ “بالجمهورية”، وكان يعتقد، إلى جانب الحكومة الإلهية ومرجعية المبادئ والقيم والأحكام الإسلامية، بوجود دور للشعب في الحكم.
وأشار رئيس مكتب الإعلام الإسلامي إلى وجود جذور “للجمهورية” قبل الإمام الراحل، وأضاف: دافع المرحوم النائيني “ره” في كتابه “تنزيه الملة” عن مشروعية التقنين العرفي وعن تأسيس مجلس الدفاع، وكان يقول أنّ التقنين العرفي مهم لإيجاد النظام في المجتمع، ويكفي فيه ألا يكون مخالفا للشرع، وفي هذا الإطار يطرح الشهيد الصدر موضوع “منطقة الفراغ“، وكان يقول بصحة التقنين العرفي إذا توفر فيه شرطان؛ وهما عدم وجود حكم إلزامي شرعي، وإشراف ورقابة المرجعية الدينية والولي الفقيه على القانون، وهذه الفكرة تشكل مبنى دستورنا (في إيران) وتم تأسيس مجلس صيانة الدستور وفقا لهذا الأساس.
وقال الدكتور واعظي: للإمام هذا الحق على مجتمعنا، وهو أنه بينما كان يتمتع بكامل السلطة والثقة من الناس، فقد دافع عن الجمهورية إلى جانب الإسلام، وأكد نظريا وفقهياً أن للجمهورية مكانة في الفقه السياسي الشيعي؛ لقد كان مدافعاً قوياً عن الجمهورية.
كما أشار الأستاذ واعظي إلى وجود ثلاثة اتجاهات في النظرة إلى الفقه والفقاهة، وقال: أحد هذه الاتجاهات هو “الفقه الفردي”، وهي النظرة الغالبة على مر تاريخ الفقه الشيعي، وفيما بعد بدأ يظهر بالتدريج في أجواء الفقه الشيعي اتجاه آخر هو “الفقه الاجتماعي” أو فقه الأنظمة الاجتماعية، بمعنى أنه ينبغي عدم الاقتصار على الأحكام الفردية في عملية الاستنباط، وأنّه يمكن استنباط الأنظمة الاجتماعية من مصادرنا الفقهية.
وقال واعظي: لقد ذهب الإمام الخميني (ره) إلى أبعد من ذلك؛ مؤكدا أنّ الفقه يمكنه تولي الإدارة العامة والشاملة للمجتمع، فعمل الفقه والفقيه؛ كما يرى؛ لا يقتصر على استنباط الأحكام الفرعية وتعيين الحكم الشرعي لابتلاءات الناس الفردية، وإنما يجب النظر إلى الفقه في سياق الحكم وإدارة المجتمع، وهذه النظرة إلى الفقه كانت أهم إنجاز للإمام في الفقه السياسي الشيعي، فالإمام يرى أنّ الفقه يتضمن وجها سياسيا، وأنّ هذا الوجه ليس حادثا أو واقعة تاريخية، بل هو أمر ذاتي في الإسلام.
وأكد رئيس مكتب الإعلام الإسلامي أن الشعار الأساسي للعديد من تيارات الإسلام السياسي في العقود الأخيرة هو “تطبيق الشريعة”، ومن الأفكار المميزة للإمام الخميني (قدس سره) أنه، على عكس التيارات الراديكالية والإسلامية في العالم الإسلامي، ليس لديه قراءة جامدة لـ “تطبيق الشريعة”، فهو يعتبر أنّ الأحكام الأولية للإسلام هي آليات وأدوات في خدمة حفظ النظام الإسلامي والمسلمين وإقامة العدل، ويرى أنه إذا اقتضت المصلحة فيمكن للفقيه الجامع للشرائط مهما كانت الظروف أن يصدر حكما حكوميا على الرغم من وجود الحكم الشرعي الإلزامي.
وأوضح أنّ الإمام الخميني(ره) يرى الفقه على مستوى إدارة المجتمع، وقال: يقول الإمام الخميني(ره) كما ورد في موسوعة “صحيفة الإمام”: “الحكومة في رأي المجتهد الحقيقي هي كل الفقه”، وبناء عليه يسري المنهج الفقهي في جميع أبواب الفقه.
والنقطة الأخرى أنّ الفقه الحكومي أو الفقه الولائي لا يعني موقفا سلبيا في مقابل أي نوع من أنواع الحكم، بل ينبغي أن تكون نظرة الفقيه للفقه كأساس لحل مشكلات المجتمع، فالفقيه يجب أن يكون متابعا دقيقا للمجتمع وتغيراته، وأن يعلم ما هي اقتضاءات زمانه، وفي أي جهة تسير الأمور؟ وبأي فهم واستنباط فقهي نلبس الأحكام لباس القانون؟
واعتبر واعظي أنّ فقه الحكم هو غير الفقه السياسي، وقال: فقه الحكم يعني رؤية كل الفقه في مستوى إدارة المجتمع، والإيمان بقدرته على تلبية جميع احتياجات المجتمع المتنوعة. وكانت النتاجات الفقهية للإمام الخميني(ره) في مجال الفقه السياسي سببا في تداول أبحاث أصولية جديدة، فمع القبول بفقه الحكم والحكومة تبرز مسائل جديدة في مجال علم الأصول يجب البحث فيها ودراستها، من قبيل ماهية الحكم الحكومي، وما هي نسبته إلى الأحكام الأولية والثانوية، أو ما هو المقصود من المصلحة؟ وما هو الفرق بين هذه المصلحة والمصالح المرسلة عند أهل السنة؟