هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي؟

هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي؟

بدأت نغمة تظهر في عدم استقلالية الفقه الإسلامي، سواء في نشأته، أو في تطوره ونضوجه، فبدأ يثار في الأوساط العلمية الغربية فكرة: تأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني، واقتباس الفقه الإسلامي منه، وقد كتب في هذه المسألة وتفنيدها الدكتور محمد يوسف موسى في كتابه: “المدخل لدراسة الفقه الإسلامي” في طبعته الثانية، وتناولها بتفصيل أكبر الدكتور صوفي أبوطالب، في كتابه “تطبيق الشريعة الإسلامية في الدول العربية”.    بقلم: د. عصام تليمة من علماء الأزهر

موقع الاجتهاد: الفقه الإسلامي ثروة تشريعية وفكرية رائعة، لا يعرف قيمتها إلا من درسه فأحسن دراسته، ولما بدا للناس عظمته وأهميته، وانبهار الدارسين الغربيين به، بدأت نغمة تظهر في عدم استقلالية الفقه الإسلامي، سواء في نشأته، أو في تطوره ونضوجه، فبدأ يثار في الأوساط العلمية الغربية فكرة: تأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني، واقتباس الفقه الإسلامي منه.

وقد كتب في هذه المسألة وتفنيدها الدكتور محمد يوسف موسى في كتابه: “المدخل لدراسة الفقه الإسلامي” في طبعته الثانية، وتناولها بتفصيل أكبر الدكتور صوفي أبوطالب، رئيس مجلس الشعب المصري السابق في كتابه “تطبيق الشريعة الإسلامية في الدول العربية”.

ولكن سبق هذه الدراسات دراسات علمية أخرى، كتب معظمها غير مسلمين، وبعضها الآخر مسلمون،فعكف الدكتور محمد حميد الله العالم المسلم الذي قضى معظم سني حياته -رحمه الله- في جامعات الغرب دارساً ومعلماً، فجمع عدة دراسات لغربيين ومسلمين حول هذا الموضوع، وجمعها في كتاب جعل عنوانه: “هل للقانوني الرومي تأثير على الفقه الإسلامي؟”، مقالتان لعالمين مسلمين، الأولى: للدكتور محمد حميد الله نفسه، والثانية للدكتور معروف الدواليبي عالم الفقه والأصول والقانون السوري، وثلاثة مقالات لكتاب مستشرقين ليسوا مسلمين، وهم: كارلو ألفونسو نالينو، والثاني لـ: ج.هـ. بوسكه. والثالث لـ: س. ف. فتزجيراند، وسوف أعرض أهم أفكار الكتاب فيما كتبه غير المسلمين.

أما المستشرق الإيطالي نالينو:

فقد بدأ تفنيده لهذه الفرية، ونفيها تماماً، بعدة أدلة مهمة، أولها: أن كلمة “الفقه” وهي معنى إسلامي يقصد به الفهم والتعقل، وهو معنى مخالف تماماً لمعنى “القانون” عند الرومان، ويختلف كذلك تصوره عند الأمتين: الإسلامية، والرومانية، سواء في معناه، أو في مواده وطبيعته وأصوله واستمداده، وأن المسلمين لو فكروا في الاستمداد التشريعي، فقد كانت هناك حضارات أقرب إليهم من الرومان، مثل حضارة اليمن، وحضارات أخرى كانت لها قوانين، فلماذا لم تقتبس منها، وهي أقرب إليها؟! ولو كان للقانوني الروماني تأثير، فقد كان أولى به أن يؤثر في العرب في الجاهلية، وهم الذين كانوا يذهبون بتجارتهم إلى هناك، فكيف لم يؤثر في جاهليين مشركين، ويؤثر في مسلمين لم يلتقوا به إلا بعد فتح البلاد التي كانت تحكم بقانون الرومان؟

وكيف لمسلمين عرب أن يترجموا قانون الرومان، والترجمة للعرب لم تكن إلا في العصر العباسي، حيث كان الفقه الإسلامي قد بدأ يزدهر وينضج بشكل كبير، ورد على شبهة مهمة، وهي: وجود غير مسلمين في بلاد الإسلام، وقد تركهم الإسلام بقوانينهم الدينية الخاصة، فرد على ذلك بأن هذا من عظمة الإسلام، فقد تركهم دون أن يمس خصوصيتهم الدينية، وقد كان هو الدين الغالب لا المغلوب.

أما المستشرق الفرنسي: بوسكه،

فقد فند هذه المسألة بشكل علمي آخر، فقد كان معنياً بدراسة الفقه المالكي والشافعي، وبخاصة أنه درس شخصياً: المدونة الكبرى للإمام مالك، وكتاب “الأم” للإمام الشافعي، فعقد مقارنة من خلالهما بالقانون الروماني، فقال: إن الفقه الإسلامي والقانون الروماني مختلفان تماماً، من حيث الفكر والشكل،

فمن حيث الشكل، فأبوابه تبدأ بالعبادات الدينية: كالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، ثم المعاملات، من البيع وحتى الوصايا والإرث، وهذا لا يتوافر في القانون الروماني،

أما من حيث الجوهر، فالفقه الإسلامي فقه ينظم علاقة الإنسان بالله، والإنسان بنفسه، والإنسان بالناس، وهو ما لا يوجد في القانون الروماني، في علاقة الإنسان بربه خاصة. ونقطة أخرى مهمة، ينفرد بها الفقه الإسلامي، وهو: “الفقه الافتراضي”، فترى كثيراً في كتب الفقه: أرأيت إن حدث كذا فما الحكم؟ وهو باب كبير لا يوجد إلا في الفقه الإسلامي، ولا يوجد في القانون الروماني مطلقاً.

ثم راح المستشرق الفرنسي “بوسكه” يفترض افتراضاً آخر، ربما يتخيله أحد، أن الفقه الإسلامي تأثر بالقانون المجوسي، أو الفقه اليهودي، أو الكنسي من حوله، وراح يفند ذلك تماماً، واستدل بعدم تأثر الفقه الإسلامي بالقانون اليهودي، بدلالة مهمة جداً، فقال: إن مصادر الفقه الإسلامي وهو ما عبر عنه بأصول الفقه، تختلف تماماً عن مصادر كل هذه الأنواع من القوانين والفقه، فالفقه الإسلامي مصادره: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ومصادر أخرى، بينما مصادر الفقه اليهودي هي: التوراة، ونشاط العلماء اليهود، ودلل على ذلك باستشهادات مهمة من كتابي: المدونة للإمام مالك، والأم للإمام الشافعي.

أما ثالثهم، المستشرق الإنجليزي فتزجيرالد،

فقد تناول تفنيدها من ثلاث جهات مهمة، الجهة الأولى: اللغة، فلغة الفقه الإسلامي ومفرداته، مختلفة تماماً عن لغة ومفردات القانون الروماني، ولذا ليس وارداً التفكير في مسألة التأثر.

ثانياً: هي مسألة “الكتابة”، فمعظم عقود المسلمين التي يؤصل لها الفقه الإسلامي، لا تعتمد الكتابة، بل معظمها شفاهة، كعقد النكاح، وعقود أخرى، بينما وثيقة الطلاق عند العبرانيين لا تكون إلا مكتوبة، وهذه قرينة مهمة في عدم تأثر أو نقل الفقه الإسلامي من القوانين الأخرى.

ثالثاً: سكوت التاريخ الإسلامي عنه: فلم ينقل أي ناقل للتاريخ، قضية النقل أو التأثر، وقد نقل التاريخ تعامل المسلمين بالدراهم والدنانير التي كانت تصنع في بلاد الفرس، ونقل استعمال المسلمين للدواوين وهي فكرية فارسية، ولم ينكرها، بل نص عليها المؤرخون، وكتبوا متى عربت على عهد عبد الملك بن مروان في الخلافة الأموية.

هذه المقالات الثلاثة شهادة علمية موثقة من علماء غربيين، للرد على فرية وشبهة، تثار من غربيين، ومتغربين عرب في بلادنا، بتأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني وغيره، وقد قاموا بالرد العلمي الموثق عليها، ولا يغني هذا العرض الموجود عن الرجوع للمادة الأصلية المملوءة بالتفاصيل المهمة.

عصام تليمة
عصام تليمة

المصدر: هافينغتون بوست

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky