الاجتهاد: إنّ الأحكام المأخوذة من الشارع المقدّس ثابتة لا تتغيّر مدى القرون والأعصار ولا تتبدّل بحسب اختلاف الأمكنة والأمصار، فالحلال حلال دائماً والحرام حرام كذلك، ولكن الموضوعات العرفية متغيرة دائماً، فكلّما تغيّر الموضوع تغيّر الحكم، حيث إنّ الموضوع كثيراً ما يكون متأثّراً بالزمان و المكان، فإذا تغيّر الزمان والمكان تغيّر الموضوع فيتغيّر الحكم تبعاً له.
المعروف لدى جمع من أكابر المعاصرين أنّ للزمان و المكان تأثيراً و دخلًا في الاجتهاد، فما هو المراد من ذلك؟ و كيف تتغير الأحكام باختلاف الأمكنة و الأزمنة مع أنّها عامة لكلّ زمان و مكان؟! لا يخفى أنّ جذور هذا البحث موجودة في كلمات القدماء و المتأخرين أيضاً، و مهما يكن فإنّ لهذا الكلام ثلاث معان، بعضها باطل و بعضها صحيح:
أولها– و هو معنى ساذج لا يقول به أحد من فقهائنا؛ و حاصله أن يقال: إنّه لا بدّ أن يكون الفقيه تابعاً للزمان و المكان، فإذا شاع المصرف الربوي فاللازم عليه الإفتاء بحلّية هذا النوع من الربا، و إذا كان الفقيه في مكان شاع فيه السفور و تبرّج النساء فاللازم الإفتاء بجواز ذلك، فهو إذن تابع لمقتضى الزمان و المكان. و هذا خيال فاسد لا يقول به فقيه من فقهاء الإسلام.
ثانيها– أن يقال: ليس المراد منه تغيير الحكم بدون تغيير الموضوع؛ فإنّ حلال محمّد (صلى الله عليه و آله) حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة [1]، بل إنّما يقع التغيّر و التبدّل في الحكم من ناحية تبدّل الموضوعات.
توضيح ذلك: أنّ في كلّ حكم من الأحكام ثلاثة عناصر: (نفس الحكم- المتعلّق- الموضوع)، ففي مثل قولنا: «يحرم شرب الخمر» التحريم هو الحكم، و الشرب هو المتعلّق، و الخمر هو موضوع، و كذلك في قولنا «يجب تطهير المسجد» الوجوب هو الحكم، و التطهير هو المتعلّق، و المسجد هو الموضوع، و لكن قد لا يكون هناك إلّا الحكم و المتعلّق كالحكم بوجوب الصلاة و الصيام؛ لعدم تعلّقهما بأمر خارجي، و هنا قد يسمى المتعلّق موضوعاً، و يقال: الوجوب هو.
الحكم و الصلاة موضوعه.
و من الواضح أنّ كلّ حكم يدور مدار موضوعه، و نسبته إليه تشبه نسبة المعلول إلى علّته أو المعروض إلى عرضه. و إنّما قلت: تشبه، و لم أقل إنّه هو هو؛ لعدم جريان هذه العناوين- أعني العلّية و العروض- في الأمور الاعتبارية.
و على كلّ حال، لازم ذلك أنّه إذا تغيّر الموضوع تغيّر الحكم بتبعه، و من الواضح أنّه قد يكون للزمان و المكان دخل في تبدّل الموضوعات الخارجية.
و مثاله المعروف في كتاب البيع: أنّ مالية المال- الذي هو قوام صحّة بيعه و شرائه- تتغيّر بتغيّر الزمان و المكان، فالماء على الشاطئ لا مالية له أحياناً، و في المفازة له مالية كبيرة (هذا من ناحية المكان)، و الثلج في الشتاء لا مالية له، و لكنه في الصيف له مالية كبيرة عادة (هذا من جهة الزمان)، و هكذا في غيرهما ممّا يشبههما من الأمثلة.
و ليعلم أيضاً أنّ الحكم يؤخذ من الشارع المقدّس، و الموضوعات العرفية تؤخذ من أهل العرف. نعم، الموضوعات المخترعة من قِبل الشارع مثل الصلاة و الصوم و سائر العبادات إنّما تؤخذ من الشارع فقط.
و من الواضح أنّه قد تتبدّل الموضوعات في نظر العرف من جهات متعدّدة، فيكون الحكم تابعاً له و دائراً مداره؛ و لذا يقال: بخار النجس و دخانه ليس نجساً، و الكلب إذا وقع في المملحة و خرج عن عنوان الكلب و صدق عليه عنوان الملح كان طاهراً، حتّى إنّه لو شك في بقاء النجاسة لم يصح إجراء الاستصحاب؛ للشك في بقاء الموضوع و تغيّره حتّى على القول بجريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية.
ثمّ اعلم أنّ تغيّر الموضوع على أنحاء ثلاثة: فتارة: تنقلب ماهيته العرفية و تستحيل إلى غيرها، كاستحالة الكلب ملحاً و الفحم دخاناً، فإنّ الملح عنوان مباين و مغاير لعنوان الكلب في أنظار العرف، فتغيّر الحكم بسببه واضح.
و أخرى: يكون تبدّل بعض أوصافه الظاهرية إلى موضوع آخر و إن لم يكن مبايناً له، كانقلاب الخمر خلًّا؛ فإنّ الفرق بينهما و إن لم يكن عرفياً كما في المثال السابق، و لكنّه أيضاً موضوع آخر، فتبدّل الحكم هنا أيضاً واضح؛ لانتفاء الموضوع السابق.
و ثالثة: يكون بتغيّر بعض أوصافه المعنوية و الاعتبارية المقوّمة، كسقوط الماء عن المالية عند الشاطئ، و صيرورة الدم مالًا في أعصارنا، و كذا بالنسبة إلى أعضاء البدن عند الانتفاع بها في الترقيع و شبهه.
فتبدّل الحكم هنا أيضاً ظاهر؛ لتبدّل ما هو مقوّم من الصفات، و إذا تبدّلت الأوصاف غير المقوّمة كان مجرى للاستصحاب، نحو المثال المعروف في زوال التغيّر عن الماء المتغيّر بنفسه.
أما إذا بقي الموضوع على حاله من حيث الماهية و الأوصاف المقوّمة للموضوع فالحكم باق إلى الأبد؛ لأنّ تغيّره و الحال هذه لا يكون إلّا بالنسخ، و المفروض انتفاؤه بعد رحيل الرسول (صلى الله عليه و آله).
و يمكن حلّ غير واحدة من المسائل السابقة من هذا الطريق: منها- أنّ بيع الدم لم يكن جائزاً في الأزمنة السابقة؛ لعدم وجود منفعة محلّلة فيه، و لانحصار منفعته في الأكل المحرّم، و لكن تبدّل الزمان أوجد له منافع محلّلة كثيرة، كإنقاذ بعض المرضى و المجروحين من الهلاك، فجاز بيعه لهذه المنفعة المهمّة الغالبة حيث لا دليل لنا على بطلان بيع النجس مطلقاً.
و منها– بيع أعضاء البدن كالكلية و القلب و قرنية العين؛ فإنّها و إن كانت ممّا لا ينتفع بها في سابق الأيّام منفعة محلّلة مقصودة، إلّا أنّه ينتفع بها في عصرنا أعظم المنافع التي قد توجب نجاة نفس إنسان من الهلاك أو من العمى.
اللّهم إلّا أن يستشكل في بيعها من جهة أنّه ميتة و إن كان لها منافع كثيرة، كالأديم المأخوذ من الميتة الذي ينتفع منه منافع كثيرة و مع ذلك لا يجوز بيعه، كما لعلّه يظهر من كثير منهم؛ و لذا قلنا في محلّه إنّ الأحوط جعل العوض المأخوذ في مقابل الإذن بأخذ الكلية منه، لا في مقابل نفس الكلية.
و منها– مسألة الترقيع بجلد مأخوذ من إنسان حي أو ميت، فيقال إنّ اتصاف الجلد بالنجاسة إنّما هو إذا قطع عن بدن إنسان و لم يتصل ببدن إنسان آخر، أمّا إذا اتصل به و جرى الدم و الحسّ فيه اتصف بصفة الحياة و خرج عن عنوان الميتة، بل و صدق عليه أنّه من أعضاء هذا الإنسان الذي انتقل إليه العضو، لا من أعضاء الإنسان السابق.
كما يقال في مسألة انتقال دم الإنسان إلى البقّ: إنّه إذا انتقل إليه و صدق دم البقّ عليه اتصف بالطهارة بعد أن كان نجساً.
و منها– مسألة المالية في النقود الورقية؛ فإنّ المالية أمر اعتباري، و كثيراً ما يكون اعتبارها بيد العرف و العقلاء، فإذا اعتبرها العرف و العقلاء في أوراق خاصة- لعلل سيأتي بيانها إن شاء الله في محلها- جاز جعلها ثمناً في البيع و الإجارة و غيرهما من المعاوضات، و إذا أبطل اعتبار قسم منها بطلت ماليتها، فتصبح ورقة عادية فاقدة للقيمة، و ربّما تلقى في سلّة المهملات.
و منها– ما قد يقال في مسألة كثرة النفوس و النسل- و لا أقول هذا إلّا احتمالًا- من أنّ تأكيد الشارع المقدّس على المباهاة بكثرة المسلمين إنّما كان في زمن كان هذا سبباً لمزيد القوّة و الشوكة، فالموضوع في الحقيقة كثرة النفوس الموجبة لذلك، كما يظهر من آيات كثيرة في الكتاب العزيز بعضها وقع في كلام الله تعالى أو بعض أوليائه و بعضها حكي عن الكفّار
فمن الأول قوله تعالى في سورة نوح (وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ) [2] فقد كان البنون كالأموال سبباً للقوّة، و قوله تعالى (وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) [3]، و قوله تعالى (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً) [4].
و من الثاني قوله تعالى (وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [5].
فقد كانت كثرة الأولاد مثل كثرة الأموال سبباً للقوّة و الشوكة و العظمة، فلو تغيّر هذا الموضوع في زمان و صارت الكثرة سبباً لمزيد الضعف و التأخّر و الذّلة و الحقارة- كما يحكى ذلك كثيراً عن أهل الهند، حيث بلغت كثرة النفوس فيها إلى حدّ سبّب في موت الكثير منهم من شدّة الجوع،
و كذلك مسألة السكن حتّى قيل إنّ أعداداً هائلة من الناس يتّخذون من أطراف الشوارع و الممرّات مساكن لهم فيها يتكاثرون و فيها يموتون، و ليس لهم من أسباب الحياة شيء- فهل تكون كثرة النسل راجحة في نظر الشرع؟! لا أقول: إنّ كثرة المسلمين قد وصلت إلى هذا الحدّ أو لا، بل أقول: لو أدّى الأمر إلى هذا الحدّ فهل هو شيء يباهي به رسول الله (صلى الله عليه و آله) سائر الأمم؟!
أو إنّ اللازم على المسلمين في هذه الأعصار الاهتمام بالكثرة من ناحية الكيفية- أعني الزيادة في العلم و القوّة الفكرية و الثقافية و الصناعية و الأخلاقية- لا الكثرة في كمية الأفراد الفاقدة لذلك؛ فإنّ كثرتهم و الحال هذه كثيراً ما تمنع عن بلوغ المرتبة المطلوبة، و سيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
و قد يؤيد ذلك كلّه بما ورد في بعض الكلمات القصار لأمير المؤمنين (عليه السلام)- بعد أن سئل عن قول رسول الله (صلى الله عليه و آله) «غيّروا الشيب و لا تشبَّهوا باليهود» – قال «إنّما قال (صلى الله عليه و آله) و الدِّين قُلٌّ، فأما الآن و قد اتسع نطاقه و ضرَب بِجِرانه فامرؤٌ و ما اختار» [6]، و للكلام صلة.
و لا ينحصر الكلام بهذه المسائل الخمس، بل المراد توضيح أنّ المفتاح الأصلي الوحيد لحلّ قسم كبير من المسائل المستحدثة هو هذا المعنى؛ أي تبدّل الحكم بتبدّل الموضوعات عرفاً.
و عصارة الكلام: أنّ الأحكام المأخوذة من الشارع المقدّس ثابتة لا تتغيّر مدى القرون والأعصار و لا تتبدّل بحسب اختلاف الأمكنة و الأمصار، فالحلال حلال دائماً و الحرام حرام كذلك، و لكن الموضوعات العرفية متغيرة دائماً، فكلّما تغيّر الموضوع تغيّر الحكم، حيث إنّ الموضوع كثيراً ما يكون متأثّراً بالزمان و المكان، فإذا تغيّر الزمان و المكان تغيّر الموضوع فيتغيّر الحكم تبعاً له.
و تغيّر الموضوع على أقسام مختلفة:
تارة يكون بتبدّل الماهية كما في الكلب الواقع في المملحة، و أخرى بتبدّل أوصافه الخارجية كتبدّل الدم من جسم الإنسان إلى البقّ، و ثالثة بتبدّل الأمور الاعتبارية كتبدّل المالية. و هذا هو المراد من تأثير الزمان و المكان في الاجتهاد.
ثالثها: هو أنّ تبدّل الزمان و المكان قد يكون سبباً لتنبّه الفقيه إلى مسائل جديدة و انشراح فكره و صدره، فيلتفت إلى أمور لم يكن متنبهاً لها في السابق، سيّما بعد قيام الحكومة الإسلامية، و لكن لا بمعنى أنّه إذا كان خارجاً عن هذه الدائرة كانت له أفكار خاصّة و إذا دخل تبدّلت أفكاره، بل بمعنى التفاته إلى حاجات و مصالح النظام و الأمة.
فمثلًا يتنبّه إلى أنّ تحصيل العلم- الأعمّ من كونه دينياً أو دنيوياً- الذي كان يعدّه في الماضي من الواجبات الكفائية، يعدّه الآن من الواجبات العينية؛ لما يشعر من حاجة المسلمين الماسّة إلى ذلك في تدبير أمور الدين والدنيا، فإنّ الجماعة الجاهلة تصبح متأخّرة جدّاً وضعيفة إلى النهاية، و لايرضى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الهداة (عليهم السلام) هذا التأخر والضعف للمسلمين،ولذا يفتي الفقيه بوجوب الجهاد لمحاربة الجهل وبوجوب تحصيل العلم عينياً على جميع المسلمين كلّ حسب استعداده.
إذن، فقد أثّر الزمان في فتوى المجتهد لتنبّهه إلى حيثيات جديدة و جهات مستحدثة، و نحو ذلك.
الهوامش
1 – الوسائل: ج 27 ص 169 ب 12 من صفات القاضي ح 52.
2 – نوح: 12.
3 – الإسراء: 6.
4 – التوبة: 69.
5 – سبأ: 35.
6 – شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): ج 18 ص 122.
المصدر: کتاب بحوث فقهية هامة المؤلف : آية الله ناصر مكارم الشيرازي، الجزء : 1 صفحة : 248.