التراث

هل للتراث دخل في صنع هذا الواقع الذي تعيشه الأمة؟

إن قسماً من الناس لا يرون داعٍ لمثل هذا السؤال، ذلك أنهم يعتقدون ببراءة الأمة وظلامتها، فهناك عدوان وتآمر خارجي، أوصل الأمة إلى هذا الواقع المرير، في الوقت الذي تستحق فيه واقعاً أفضل، لعظمتها وأحقية دينها. وخلاص الأمة وَفْقَ هذه النظرة هو في إشهار سلاح المقاومة، وسيوف الجهاد، ضد الغزاة المعتدين، والكفار المتآمرين. أما حسب منطق القرآن ورؤيته، فإن انحدار مستوى الأمم، وسقوط المجتمعات،علته الأساس فساد الداخل وضعفه… بقلم: سماحة الشیخ حسن الصفار

الاجتهاد: سوء الواقع الذي تعيشه الأمة حقيقة ثابتة لا يمكن النقاش فيها، فالأمة التي كانت رائدة الحضارة والتقدم، وكانت خير الأمم في سالف الزمن، أصبحت الآن في وضع يُرثى له. حيث تعيش تخلفّاً شاملاً، وتصنّف كل دولها ضمن قائمة دول العالم الثالث.

إنها تفتقد الاستقرار السياسي، لغياب الديمقراطية في معظم مجتمعاتها، وتعيش على هامش الحضارة لانعدام مشاركتها في ميادين العلم والتكنولوجيا، وتعاني من التمزق والخلافات الداخلية، لافتقادها السياسات العادلة، وضعف لغة الحوار.

لقد تضاءلت مكانة الأمة عالميًّا، ووصلت سمعتها إلى الحضيض، وبخاصة في السنوات الأخيرة، حيث شُوِّهت صورتها، وأُلصقت تهمة الإرهاب والتطرف بدينها وأبنائها، واتخذت مختلف دول العالم إجراءات التحفظ، تجاه مؤسساتها الدينية والاجتماعية والاقتصادية. وأصبح اسم المسلم وشكله مثيراً لعلامات الاستفهام في أكثر من بلد.

والسؤال الذي يفرض نفسه: هل للتراث دخل في صنع هذا الواقع الذي تعيشه الأمة؟

إن قسماً من الناس لا يرون داعٍ لمثل هذا السؤال، ذلك أنهم يعتقدون ببراءة الأمة وظلامتها، فهناك عدوان وتآمر خارجي، أوصل الأمة إلى هذا الواقع المرير، في الوقت الذي تستحق فيه واقعاً أفضل، لعظمتها وأحقية دينها.
وخلاص الأمة وَفْقَ هذه النظرة هو في إشهار سلاح المقاومة، وسيوف الجهاد، ضد الغزاة المعتدين، والكفار المتآمرين.

أما حسب منطق القرآن ورؤيته، فإن انحدار مستوى الأمم، وسقوط المجتمعات، علته الأساس فساد الداخل وضعفه، واتساع رقعة ثغراته، وهو ما يتيح الفرص لنجاح التآمر والعدوان الخارجي، يقول الله تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ! ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) سورة الأنفال: الآيتان 52 – 53 .

. ويقول تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ). سورة الشورى: آية 30 .

وهنا يكمن التساؤل عن علاقة التراث بواقع الأمة، فالأمة تعلن انحيازها لتراثها، وتظهر تمسُّكها بشعاراته وشعائره، مما يعطي للتراث حضوراً ودوراً في صنع الواقع المعيشي.
إننا لا نستطيع أن نتَّهم وندين كل تراثنا، فهو يشتمل على قيم الدين ومبادئه التي نؤمن بصحتها وصوابها، لكننا نستطيع افتراض الخطأ في طريقة تعاملنا مع التراث، ومنهجيتنا في الاختيار والانتقاء منه.

لقد تورطنا في الأخذ بجوانب سلبية من التراث، وقدَّسنا ممارسات خاطئة لبعض الأسلاف، ووقعنا في فوضى تراثية اختلط فيها علينا الحابل بالنابل، فاخترنا من التراث ما يبرِّر لنا واقعنا، وما يحقق في أنفسنا الرضا عن أوضاعنا المتخلفة.

ذلك أن تراثنا في جانب معارفه البشرية، وتجاربه العملية، نتاج لمدارس ومذاهب وتيارات متعددة، وكان للسلطات الزمنية والقوى
النافذة، دور مؤثر في توجهات قسم كبير من هذا التراث، حيث خضع لها كثير من الفقهاء، وتملَّق لها أكثر الأدباء، والتف حولها معظم الكتاب والمؤرخين. مما أفسح المجال لاتساع رقعة ثقافة الاستبداد في تراثنا، لتزاحم مبادئ الحرية والعدل والكرامة، التي جاء بها الدين، وتبتدع الحيل الشرعية والمخارج الفقهية للالتفاف على تلك المبادئ والقيم.

وكما في تراثنا ما يدفع إلى الانطلاق والإبداع، ويدعو إلى اكتشاف آفاق الطبيعة والكون، وإعمار الحياة، فإن فيه ما يشجع على الكسل والعزلة والانطواء، وإهمال أمور الدنيا، بحجة أننا لم نُخلق لها وإنما خلقنا للآخرة، فلا تستحق الحياة أن ننشغل بالتفكير في تطويرها، فلنتركها للكافرين الذين لا آخرة لهم، ولنتوجه للعبادة طمعاً في الجنة.

إننا مطالبون بغربلة التراث، وحسن الانتقاء والاختيار منه، وتجاوز الحرفية في فهم النصوص وتفسيرها، والخروج من أسرْ التقديس المطلق لكل التراث ولجميع السلف، الذي يفقدنا القدرة على التقويم الموضوعي، والتعامل السليم.

 المصدر: كتاب ” الاحادية الفكرية في الساحة الدينية” لسماحة الشيخ حسن الصفار.

 

تحميل الكتاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky