خاص الاجتهاد: فقد شهد التاريخ الإنساني عددًا من اللحظات الفارقة والتحولات الجذرية في مساره الوجودي، وهذه اللحظات هي التي صنعت النقلات النوعية في حضارة النوع البشري، وهو ما يسمى في الأدبيات الحديثة بـ”الثورة” (Revolution) لكنه يستعمل مضافًا إلى غيره، فيقال مثلا ثورة الطباعة الثورة العلمية الثورة الصناعية ثورة المواصلات، ثورة الاتصالات، الثورة المعلوماتية.. إلخ.
وهذه الثورات ليست أحداثًا سياسية لخلع ملك أو تمرد على نظام حكم أو رفض السياسة قائمة، بل هي تحولات حضارية ومعرفية تغير معها شكل الحياة، وطريقة تفكير البشر، وتعاملهم مع العالم؛ معرفة، وواقعا، و موارد و علاقات، وترتيبًا للأولويات، فتلت كل لحظة من هذه اللحظات مرحلة جديدة من الوعي والتفاعل.
وهذه الثورات كذلك ليست أحداثًا معزولة، بل هي متداخلة ومتراكبة، وكل واحدة منها أعادت تعريف الإنسان من حيث ذاته، وغاياته، وموقعه في الكون، وعلاقته بالعالم. وفهمها مفتاح لفهم مسيرة الحضارة، واستشراف مصيرها. وكان هناك دائما سؤال محوري وفي كل ثورة: كيف يعيش الإنسان؟ ولماذا؟
و من اللافت للنظر أن هذه القفزات الثورية المشار إليها كان في الماضي بين كل واحدة والأخرى زمن كبير ربما يمتد لقرون حتى تحدث ثورة جديدة، ثم تقلص إلى عقود حتى غدت الوتيرة متسارعة على نحو مدهش، حتى أصبح الجيل الواحد يشهد عدة ثورات في أزمنة متقاربة؛ فجيل السبعينيات مثلا عاش الثورة الصحافية، والثورة الصوتية (المذياع نموذجا)، والثورة البصرية التلفاز) نموذجا)، وثورة الاتصالات، وثورة العولمة، والثورة الرقمية مع انتشار أجهزة الحاسب الآلي، ثم ثورة المعلومات عبر شبكة المعلومات الدولية (Internet)، ثم ثورة وسائل التواصل الاجتماعي (Social Media)، ثم الآن صرنا أمام ثورة الذكاء الصناعي – والتي لم تزل في بداياتها.
والذكاء الصناعي ليس مجرد تقنية حديثة تضاف إلى قائمة المنجزات البشرية، بل هو في حقيقته لحظة تحول في تاريخ الإدراك الإنساني، يعاد فيها ترتيب العلاقة بين الإنسان والمعرفة، وبين الإنسان والآلة بل وبين الإنسان والإنسان. ولم يعد الحديث عنه من قبيل التطلعات المستقبلية المؤجلة، ولا التفاعل معه ترفًا فكريا ، بل غدًا ضرورةً ملحةً تمارس ضغطها اليومي على الحياة، وتفرض أسئلتها على الفقه، مترقبة جوابها من المفتي.
إن تسارع حضور الذكاء الصناعي في شتّى مناحي الحياة من الاقتصاد إلى التعليم، ومن الصحة إلى القضاء، ومن الإعلام إلى المجال الديني ذاته، لم يعد يُمهل الفقيه رفاهية الترقب، بل صار لزاما على من يحمل أمانة البيان عن الله أن بتهيّ، وأن يُبصر الطريق قبل أن يُسأل، وأن يحسن التقاط السؤال من بين طيات التحولات التي لا تستأذن أحدًا. وليس المقصود أن نستدعي فقها جديدًا على غير مثال سابق، بل أن نحسن تنزيل الأحكام المقررة على المستجدات الطارئة، بعين فقيه عارف بشأنه مدرك لزمانه، فقيه يعرف المقاصد ويقتدر على رد الفروع لأصولها، وعلى إلحاق الأشباه بأشباهها والنظائر بنظائرها، فقيه فهم التراث واستوعب مناهجه ولم يقف عند مسائله.
مشكلة البحث ومنهجه
من المقرر في أصول الشريعة أنه لا يوجد فعل من أفعال المكلف إلا والله تعالى فيه حكم، وعبر العصور لم تكن الفتوى الرشيدة من أهلها إلا قيامًا منهم بواجب بيان الأحكام الشرعية في المسائل والنوازل المتجددة، والواقع الرقمي اليوم فيه من التعقيد والتداخل وتسارع الاستحداث ما يفرض على العقل الفقهي أن يتأمل فيه ويبادر بأن يدلي بدلوه ليؤصل لتلك النوازل ويكشف عن الأحكام المتعلقة بها. ومن هنا تبرز مشكلة هذا البحث في صورة أسئلة مركزية، يسعى إلى مقاربتها وتحليلها والإجابة عنها بطريقة تأصيلية استشرافية.
ويمكن تلخيصها فيما يلي:
• ما هي أبرز النوازل الفقهية الجديدة التي يثيرها الذكاء الصناعي في مجالات الحياة
المختلفة؟
• هل يمكن اعتبار الذكاء الصناعي مفتيا ؟ وما الضوابط الشرعية التي تضبط استخدامه في مجال الإفتاء؟
• كيف تكيف المسؤولية الشرعية عند صدور خطأ عن نظام ذكي؟ هل الإثم والغرم على المبرمج، أم المستخدم، أم الجهة المنتجة؟
• ما ضوابط التعامل مع المخرجات الفنية والفكرية للذكاء الصناعي؟ وما الموقف الشرعي من نسبتها إلى الإنسان أو الآلة؟
• ما القواعد الفقهية والمقاصد الشرعية التي يمكن أن تشكل إطارًا مرجعيا في التعامل مع هذه النوازل؟
• كيف يمكن للمؤسسات الدينية أن تفعل أدوات الذكاء الصناعي لصالحها، دون أن تقع في وهم استبدال الفقيه بالآلة؟
• ما التحديات التي تواجه الفنوى في هذا العصر الرقمي ؟ وما فرص التحسين والتطوير
الممكنة؟
• وأخيرًا، كيف يمكن صناعة رؤية فقهية استشرافية تواكب المستقبل ولا تفتن به، وتبني للغد دون أن تهدم الجذور ؟
وفيما يلي محاولة جادة للنظر في هذه النازلة مع مراعاة ما يتوقع من تطورها وتحدياتها المقبلة، وأثر ذلك على الواقع الفقهي؛ انطلاقًا من تحصيل التصور الصحيح، فالتكييف المتأني، وصولا للحكم المدلل والرأي المعلل ولا يدعي هذا البحث استيعابًا لكل نوازل هذا الحقل الواسع المتجدد، وإنما يطمح إلى تقديم إطار منهجي تأصيلي، يُعين الباحث والمفتي على حسن الفهم والتكييف، ويؤسس لسبل ترشيد التعامل مع هذه التحولات الرقمية الكبرى.
وقد أتت هذه الورقة بعنوان: “نوازل الذكاء الصناعي.. رؤية فقهية استشرافية”، وهي مقسمة إلى مقدمة بينت فيها مشكلة البحث ومنهجه.
ثم أربعة مباحث؛ وهي:
المبحث الأول: فيما يتعلق بالذكاء الصناعي مفهومًا ونشأة وأصنافًا، وتطبيقات.
والمبحث الثاني: في التأطير الفقهي لنوازل الذكاء الصناعي – قضايا مختارة.
والمبحث الثالث: في ذكر نماذج من القواعد الشرعية في التعامل مع نوازل الذكاء الصناعي.
والمبحث الرابع: في صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الصناعي – رؤية استشرافية.
ثم جاءت الخاتمة والتوصيات.
ثم ثبت المراجع.
والله المستعان وعليه التكلان.
نوازل الذكاء الصناعي رؤية فقهية استشرافية
بقلم:
د/ أحمد ممدوح سعد
أمين الفتوى
وعضو الهيئة الاستشارية العليا للبحوث والتدريب بدار الإفتاء المصرية